عن أنسٍ رضي الله عنه قال : «لما ثقل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم جعل يتغشَّاه الكرب، فقالت فاطمة رضي الله عنها: وا كرب أبتاه! فقال: ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم. فلمَّا مات قالت: يا أبتاه أجاب رباً دعاه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه. فلما دُفن قالت فاطمة رضي الله عنها: أطابت أنفسُكم أن تحثُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التُّرابَ!؟» صحيح البخاري (4462)
مقدمة:
الحمد لله ربِّ العالمين، وأصلي وأسلِّم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد.
فهذا الحديث حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، فيه خبر فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جرى منها في مرض النبي صلى الله عليه وسلم الذي مات منه.
معنى الحديث:
*قول أنسٍ رضي الله عنه: «لما ثقل النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم جعل يتغشَّاه الكرب»: أي لمّا اشتدّ عليه المرض، وقيل: لما احتُضر.
*قول أنسٍ رضي الله عنه: «جعل يتغشَّاه الكرب»: أي: يغشاه الشِّدَّةُ من سكرات الموت ويُغطّيه يُنظر: النهاية في غريب الحديث (3/370). ، وذلك كما في حديث عائشة رضي الله عنها: «إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء، فجعل يُدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه، ويقول: لا إله إلا الله، إنَّ للموت سكراتٍ» صحيح البخاري (6510). وقيل: كان يُغشى عليه من شدَّة ما يُصيبه، وذلك لعُلوِّ درجته وشرف رتبته، كما ورد في الحديث: «أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأولياء، ثم الأمثل فالأمثل» صحيح البخاري (5648). ، وذلك أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلَّم كانت تنزل عليه آلام المرض مضاعَفةً، أي يُجمع عليه من الألم ما ينزل برجُلين شدةً وألماً ومعاناةً، ذاك أنه أعظم لأجره صلى الله عليه وسلم وأرفع لمنزلته؛ كما جاء في الصَّحيح من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: «أتيتُ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم في مرضه، وهو يُوعَك وعكاً شديداً، وقلت: إنَّك لتوعَك وعكاً شديداً، قلت: إنَّ ذاك بأنَّ لك أجرَين؟ قال: أجل، ما من مسلمٍ يُصيبه أذىً إلا حاتَّ الله عنه خطاياه، كما تحاتُّ ورق الشجر» صحيح البخاري (5647)، وصحيح مسلم (2571). . وهذا يدلُّ على عظيم الأجر الحاصل بالمرض.
قول فاطمةَ رضي الله عنها: «وا كرب أبتاه!»! أي لمَّا رأت فاطمة رضي الله عنها، ما يجده النبي صلى الله عليه وسلم من شدّة البلاء في مرض موته، وهو أبوها، قالت: «وا كرب أبتاه!» على وجه التَّوجُّع والتَّفجُّع لما يُصيبه صلى الله عليه وسلم، من شدَّة الكرب.
قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم»: (أي: لا يُصيبه نصبٌ ولا وصبٌ يجدُ له ألماً بعد اليوم، لأنَّه ينتقل من دار الأكدار إلى دار الآخرة والسَّلامة الدائمة، إلى ما لا يُعلم بأدناه من العطايا السنية والمراتب العلية فضلاً عن أعلاه) دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (1/ 180). ، فهذا يومُ الرحيل الذي يَفِد فيه إلى الكريم جلَّ في علاه، فهو إيذانٌ برحيله صلَّى الله عليه وسلَّم. وقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة: «ليس على أبيك» إيماء إلى أنّ توجُّعَها كان بمقتضى عاطفة البنوَّة!
قول فاطمةَ رضي الله عنها: « يا أبتاهُ أجاب رباً دعاه»: (أي: إلى العقبى فاختارها على الدنيا) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (17/ 243). ، وذلك كما في حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول: إنَّه لم يُقبض نبيٌّ قط حتى يَرى مقعده من الجنة ثم يحيا أو يُخيَّر، فلما اشتكى وحضره القبضُ، ورأسه على فخذ عائشة غُشي عليه، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت، ثم قال: اللَّهمَّ في الرفيق الأعلى. فقلت: إذاً لا يُجاورنا، فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح» صحيح البخاري (4437) وصحيح مسلم (2444).
قول فاطمةَ رضي الله عنها: « يا أبتاه جنة الفردوس مأواه»:أي منزله ومثواه.
قول فاطمةَ رضي الله عنها: «يا أبتاه إلى جبريل ننعاه»:(أي: نُظهر خبر موته إليه، من النَّعي) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (17/ 243).
وهذا الكلام تقوله العرب على وجه التَّفجُّع والتَّوجّد من المصاب، فليس هو من الممنوع من النياحة والتَّسخُّط والجزع، بل هي كلماتٌ يُنفِّس بها الإنسان عن المصاب، دون أن يجزع لما أصابه من أقدار الله تعالى وأقضيته، وبه يُعلم أنَّ الصَّبر هو: حبس النَّفس عن الجزع الذي يُوقعها في المحرَّم، أمَّا الكلام اليسير الذي ليس فيه جزعٌ ولا سخط ولا تفجُّع وتعظيمٌ للمصيبة، فلا حرج فيه، ولو كان فيه حرجٌ لما أقرَّها رسول الله صلى الله عليه وسلّم، عند قولها: «وا كرب أبتاه!».
قول فاطمةَ رضي الله عنها لمّا دُفن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أطابت أنفسُكم أن تحثُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التُّرابَ»:
أي: كيف قدرتم على أن (تكبُّوا على رسول الله، أي فوقه التراب) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (17/ 243). ، فقولها رضي الله عنها: «أن تحثُوا» (من الحثي وهو رميُ التراب باليد) حاشية السندي على ابن ماجه (3/ 402). . وحثيُ التراب يشُقُّ على النّفوس إذا كان من تحثوه عليه عزيزاً أو حبيبياً أو شريفاً أو كبيرَ المقام في نفسك، فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذا عظم في نفسها، فتعجَّبت من قدرتهم على فعل هذا، مع عظيم محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وسكت أنس رضي الله عنه ولم يُجبها، وإنما سكت لظهور الجواب ووضوحه، ولأنها لا تنكر ذلك، فهم جميعاً ممتثلون لأمر الله عز وجل: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)} سورة الزمر: الآيتان (30، 31). وسنة الله التي قد خلت في الناس: أن يُدفن الموتى إكراماً لهم، وتُوارى جثثُهم احتراماً لهم، ولذلك كانت القبور كالمساكن للأحياء، لها من الحرمة والصيانة ما لها، فلا تُوطأ ولا يُجلس عليها ولا تُمتهن.
فوائد هذا الحديث:
- منها عظيم أجر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنَّ من يحبه الله تعالى فقد يصيبه بالشدة والمشقة، خلافاً لما يظنّه بعض الناس من أنه إذا سلم المرء من الكربات والأمراض والبلايا، فإنّ الله يحبّه، بل: «من يُرد الله به خيراً يُصب منه» صحيح البخاري (5645). كما جاء في الصَّحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
- ومنها صدق يقين النبي صلى الله عليه وسلم بما وعده ربه، ولذلك قال لفاطمة رضي الله عنها: «ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم».
- ومنها صبرُهُ -صلى الله عليه وسلم- على ما هو فيه من سكرات الموت، وشدائده، ورضاه بذلك، وابتغاؤه الرفيق الأعلى.
- ومنها عناية النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وعطفه على ابنته، لمّا رآها تندب وتتوجّع قائلةً: «وا كرب أبتاه» التفت إليها مسلِّياً وهو في هذه الشِّدَّة يقول لها: «ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم».
- ومنها جوازُ التوجع للميِّت عند احتضاره، وأَنه ليس من النياحة، وأن كلمات التوجّع إذا قيلت على وجه إبداء الحزن الذي لا سخط فيه، فإنه لا يؤاخذ بها الإنسان وليست من النَّدب والنَّعي المحرم، وذلك كقول فاطمة رضي الله عنها: «يا أبتاه أجاب رباً دعاه، يا أبتاه من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه».
- ومنها جوازُ أن تخاطب المرأةُ الرجل الذي لها حاجة في مخاطبته، والذي لا تُستغرب مخاطبتُها له بشرط أن يكون ذلك بالمعروف، يدلّ على ذلك أنّ فاطمة رضي الله عنها بنت النبي صلى الله عليه وسلم وهي أطهر النساء وأشرفُهنَّ رضي الله عنها تخاطب أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، وهو خادمُ أبيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمخاطبة المرأة للخادم فيما تدعو إليه الحاجة، ولم يكن مظنَّة فتنةٍ أمرٌ جائز.
- ومنها أنّ المصيبة قد تعظم في نفس الإنسان، حتى يُخيَّل إليه أنه لن يستطيع أداء الواجب، حيث قالت فاطمة رضي الله عنها: «أطابت أنفسُكم أن تحثُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التُّرابَ!؟»، لكن إذا غالب المرء نفسَه وغلّب دواعي الشّرع على عواطفه كان ذلك خيراً له ومحقِّقاً لأمر الله عز وجل.
- ومنها جواز السكوت عن الجواب الظاهر، فإن أنساً رضي الله عنه لم يجب فاطمة الزهراء، لا إهمالاً لسؤالها؛ لكن لأنَّ الجواب ظاهر، ولأنه لم يفهم منها الاعتراض.