عن أبي زيد أُسامة بن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحِبُّه وابنُ حِبِّه رضي الله عنهما قال: ((أرسلت بنتُ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلم: إنَّ ابني قد احتُضر فاشهدنا فأرسل يقرئ السلام ويقول: إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكلُّ شيء عنده بأجلٍ مسمَّى، فلتصبر ولتحتسب ، فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينَّها فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجالٌ رضي الله عنهم ، فرُفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبيَّ فأقعده في حجره ونفسُه تقعقع، ففاضت عيناه، فقال سعد: يا رسول الله ما هذا ؟ قال : هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده. وفي رواية: في قلوب من شاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء)) صحيح البخاري (7377) وصحيح مسلم (923).
مقدمة:
الحمد لله ربِّ العالمين، وأصلّي وأسلّم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد
هذا الحديث الشَّريف الَّذي فيه خبرُ بعثِ إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم رسولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يدعوه إلى أن يأتيَ لكون أحد أبنائها حضرته الوفاة، فردَّ النبي صلى الله عليه وسلم الرسولَ بهذه التعزية، فأمره أن يقول لها هذه الكلمات الموجزات المتضمنة عظيمَ التسليم لله عز وجل والصبرَ على قضائه وقدره وطلب الأجر منه: ((إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده إلى أجل مسمى فلتصبر ولتحتسب)) فهذه صيغة من صيغ التَّعزية، وهي واردةٌ قبل الوفاة، لكنها للتذكير بالتهيؤ للمصيبة والصبر عليها مهما عظمت ، فالذي أخذ هو الذي أعطى ، وما جرى من الأقدار لا يردُّه جزع ولا يُعيقه ضجر من المصاب، بل هو ماضٍ كما قدره الله تعالى، لا معقِّب لحكمه ولا رادَّ لقضائه.
معنى الحديث:
*قول أسامة بن زيد رضي الله عنهما: ((أرسلت بنتُ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلم: إنَّ ابني قد احتُضر فاشهدنا)):
اختُلف في هذا الابن المحتضَر، فقيل: (هو عليُّ بن أبي العاص بن الربيع، أو عبد الله بن عثمان بن عفان من رقية بنته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أو هو محسن ابن فاطمة الزهراء، أو هي أمامة بنت زينب لأبي العاص بن الربيع) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (9/ 381).
ورجّح ابن حجر أنّ بنت النّبيّ صلى الله عليه وسلم المذكورة في هذا الحديث، هي فاطمة رضي الله عنها، وأنّ ابنها المحتَضَر هو "محسن بن عليّ بن أبي طالب" فتح الباري - ابن حجر (1/ 265). . وقوله: (احتُضِر بالضم أي: حضره الموت) (وحضرته الملائكة الموكَّلون بنزع الأرواح) عمدة القاري شرح صحيح البخاري (33/ 494).
*قول أسامة بن زيد رضي الله عنهما: ((فأرسل يُقرئ السَّلام)):أي أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم، قد ردّ على رسالة ابنته بقراءة السّلام عليها، و(يُقال: أقرِىء فلاناً السلام واقرأ عليه السَّلام، كأنَّه حين يبلغه سلامُه يحمله على أن يقرأ السلامَ ويردُّه، وإذا قرأ الرجل القرآن أو الحديث على الشيخ يقول: أقرأني فلان: أي حملني على أن أقرأ عليه) النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 31).
*قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ لله ما أخذ وله ما أعطى، وكلُّ شيء عنده بأجلٍ مسمَّى)):هذه هي صيغةُ العزاء التي بعثها الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم لابنته: ((إنَّ لله ما أخذ وله ما أعطى)) حيث (قدَّم ذكرَ الأخذ على الإعطاء وإن كان متاخِّراً في الواقع لما يقتضيه المقام، والمعنى: أن الذي أراد الله أن يأخذه هو الذي كان أعطاه، فإن أخَذه أخَذ ما هو له، فلا ينبغي الجزع لأن مُستودع الأمانة لا ينبغي له أن يجزع إذا استُعيدت منه، ويُحتمل أن يكون المرادُ بالإعطاء إعطاءَ الحياة لمن بقي بعد الميت، أو ثوابَهم على المصيبة، أو ما هو أعمُّ من ذلك) فتح الباري - ابن حجر (3/ 157). ثم قال: ((وكلُّ شيء عنده بأجلٍ مسمَّى)): (ومعنى العنديَّة العلم، فهو من مجاز الملازمة، والأجل يُطلق على الحدِّ الأخير، وعلى مجموع العمر. وقوله "مسمَّى" أي معلوم مقدر أو نحو ذلك) فتح الباري - ابن حجر (3/ 157).
*قولُ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((فلتَصبِر ولتحتسِبْ)):ثم بعد العزاء، أمرها الرّسول صلى الله عليه وسلم بواجب الصبر أي حبس النّفس عن الجزع، وواجب الاحتساب: أي أن (تنوي بصبرها طلبَ الثواب من ربِّها، ليُحتسبَ لها ذلك من عملها الصَّالح) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (9/ 381). ، فلا يكون الصبر بداعية أن يصفه النّاس بالثبات وتحمّل المصائب، ولكن ابتغاءً للأجر من الله تعالى.
*قول أسامة بن زيد رضي الله عنهما: ((فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينَّها)):الإقسام هو : أن يُلِحَّ الإنسانُ على الشَّخص بطلب أمرٍ، سائقاً اليمينَ في طلبه: أُقسم عليك إلا أن تأتيَ. أو أُقسم عليك بالله إلا أن تأتيَ، فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم ابنته وأبرَّ قسمها، وهذا من المواضع التي ينبغي للإنسان أن يبادر فيها إلى إبرار القسم، (والظاهر أنه أمتنع أولاً مبالغة في إظهار التسليم لربه أو ليبين الجواز في أنَّ من دُعي لمثل ذلك لم تجب عليه الإجابةُ بخلاف الوليمة) فتح الباري - ابن حجر (3/ 157). ، وكان إصرارها على حضوره صلى الله عليه وسلم، لشعورها بأنّ (حضور نبيه عندها يدفعُ عنها ما هي فيه من الألم ببركة دعائه وحضوره فحقق الله ظنها) فتح الباري - ابن حجر (3/ 157).
*قول أسامة بن زيد رضي الله عنهما: ((فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبيُّ بن كعب وزيد بن ثابت ورجالٌ رضي الله عنهم)): أي أنه صلى الله عليه وسلم، لما عزم على إجابة دعوة ابنته، نهض ونهض معه جماعةٌ من الصحابة، ممّا يُشير إلى أنّه كان منشغلاً بهذا المجلس الّذي كان يجمعه بهؤلاء، فلمّا أقسمت عليه ليحضرنّ قام وقاموا معه.
*قول أسامة بن زيد رضي الله عنهما: ((فرُفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبيَّ فأقعده في حجره ونفسُه تقعقع، ففاضت عيناه، فقال سعد: يا رسول الله ما هذا ؟)).
أي: فرُفع الصبي إلى النّبي صلى الله عليه وسلم، فوضعه في حِجره بفتح الحاء وكسرها. ، وكان في النَّزع، ولذلك وصف الراوي حاله بأنَّ نفسه كانت تقعقع أي تضطرب (من التَّقعقُع وهو حكايةُ صوت صدره من شدَّة النَّزع) عمدة القاري شرح صحيح البخاري (33/ 494). فسالت دموع النّبيّ صلى الله عليه وسلم على خدّه، وعندئذٍ قال سعد بن عبادة للنّبيّ صلى الله عليه وسلم: (ما هذا؟)، وهو (استفهام على سبيل الاستفسار، وليس بعتب على رسول الله، ولعلَّه سمعه ينهى عن البكاء الذي فيه الصِّياح أو العويل، فظنَّ أنه نهى عن البكاء كله) عمدة القاري شرح صحيح البخاري (33/ 494).
*قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذه رحمةٌ جعلها الله تعالى في قلوب عباده)). وفي رواية: ((في قلوب من شاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرُّحماء)).
أي أنّ هذه الدموع التي فاضت في هذا الموقف الحزين، إنما هي رحمةٌ جعلها الله تعالى في قلوب من يشاء من عباده، (أي أنّ الذي يفيض من الدمع من حزن القلب بغير تعمُّد من صاحبه ولا استدعاء، لا مؤاخذة عليه، وإنما المنهيُّ عنه الجزعُ وعدم الصَّبر) فتح الباري - ابن حجر (3/ 158).
*قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وإنما يرحم الله من عباده الرُّحماء)).أي إنّ رحمة الله عزّ وجلّ إنما تنال الذين يتَّصفون ويتخلَّقون بهذا الخُلق، وذلك بحسب درجاتهم ومقاماتهم، حتى من فيه أدنى رحمةٍ فإنّ الله يرحمه بحسبها، خلافاً لمن ذكر أنّ الرّحماء بما أنها جمع لرحيم، الذي هو صيغة مبالغة، وبالتالي فإن الله لا يرحم إلا من كان شديد الرحمة، ولكن قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: ((والرَّاحمون يرحمهم الرحمن)) سنن أبي داود (4943)، سنن الترمذي (1924)، مسند أحمد (6494)، والمستدرك (7274) وصححه الذهبي. يخالف ما ذهبوا إليه، فالرّاحمون (جمعُ راحم فيدخل كلُّ من فيه أدنى رحمة) فتح الباري - ابن حجر (3/ 158)
وفي هذا الحديث فوائد عديدة من أبرزها:
- صيغة التَّعزية المشروعة عند المصيبة، سواءٌ كان ذلك في مصيبة موت ابنٍ أو غيره من المحبوبين: ((إنَّ لله ما أخذ وله ما أعطى، وكلُّ شيء عنده إلى أجلٍ مسمَّى، فلتصبر ولتحتسب)).
- تذكير المُصاب بالصبر والاحتساب، لأنه قد يغفل عنه لشدة ما ينزل به.
- أن الإنسان قد يعتذر عن العيادة أو التعزية بشُغل كما جرى من النبي صلى الله عليه وسلم في اعتذاره أولاً، فهذا جائز.
- أنه يجوز الإقسام على الغير فيما لا مشقَّة عليه فيه ، وفي ما فيه مصلحة ، وأنه يُندب لمن أُقسم عليه بالله في شيء، أن يجيب لكن هذا على وجه السنة لا على وجه الوجوب؛ إلا أن يكون المطلوب واجباً فإن النبي صلى الله عليه وسلم أبرَّ ابنته بالمجيء إليها لما أقسمت عليه.
- أنَّ العيادة والتعزية لا يُشترط فيها علمُ الإنسان بمن يعوده وبمن يعزيه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستأذن في صُحبة من جاء معه من أصحابه، فجاءوا للتعزية وللتصبير وحضور هذا المصاب، فكان ذلك دالاً على أنه في المصائب لا يشترط أن يستأذن فيمن يأتي ويحضر للتعزية أو عيادة المريض.
- مشروعية عيادة المريض ولو كان في النزع الأخير ، ولو كان المريض لا يعرف ولا يَعقل، ففي هذا تطييبٌ لخاطر أهله، وفيه من المصالح من عود الأجر على الزائر ما ينبغي أن يُحرص عليه.
- أن النزع شديد حتى على الصغار.
- أنَّ البكاء عند المصيبة ليس مذموماً، بل هو مما قد يؤجر عليه لإنسان إذا كان رحمة، فالنبي صلى الله عليه وسلم رتَّب على هذه الرحمة رحمةَ رب العالمين، وبه نعرف أن البكاء على أنواعٍ ثلاثة :
النوع الأول: بكاء الرحمة على المصاب، فهذا مما يؤجر عليه كأن يرحمه لشدة ما أصابه أو لعظيم المصيبة التي نزلت به، فيبكي، وهذا الذي يُقصد بقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما يرحم الله تعالى من عباده الرحماء)).
النوع الثاني بكاء الجزع والسخط، وهذا محرم ومن كبائر الذنوب، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم النائحة والمستأجرة في النياحة.
النوع الثالث البكاء لفوات الحظّ والنّصيب ممّن مات، سواء كان نصيباً معنويّاً أو غيره، وليس رحمة للميت، إنما لألم الفراق وهذا مباح .
فتبين أن البكاء: قد يكون عبادةً يؤجر عليها الإنسان فيما إذا كان رحمة. وقد يكون إثماً فيما إذا كان تسخطاً وجزعاً. وقد يكون أمراً عادياً مباحاً تقتضيه الطبيعة، فيما إذا كان لمفارقة من يحب.
- ينبغي للإنسان أن يجتهد في التّحلي بصفة الرحمة، فإنَّ الرحمة موجبةٌ لرحمة الله: ((إنما يرحم الله تعالى من عباده الرحماء)).
- (جوازُ استحضار أهل الفضل للمحتضر لرجاء بركتهم ودعائهم) تطريز رياض الصالحين (ص: 39).