عن أنسٍ رضي الله عنه قال : ((مرّ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بامرأةٍ تبكي عند قبر. فقال: اتَّقي اللهَ واصبري. فقالت: إليك عنِّي فإنَّك لم تُصب بمصيبتي. ولم تعرفه ، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم ، فأتت بابَ النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوَّابين ، فقالت : لم أعرفك . فقال : إنما الصبر عند الصدمة الأولى)) صحيح البخاري (1283)، وصحيح مسلم (926).
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلِّم على المبعوث رحمة للعالمين، نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد،
هذا الحديث حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، في قصة المرأة التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم عند قبرٍ تبكي، وفيها كثيرٌ من الفوائد والعبر والعظات والأحكام.
معنى الحديث:
*قول أنسٍ رضي الله عنه قال : ((مرّ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بامرأةٍ تبكي عند قبر)):وفي رواية لمسلم: ((تبكي على صبيٍّ لها)) صحيح مسلم (926). ، و(لم يُوقف على اسم المرأة ولا اسمِ صاحب القبر، لكن في رواية مسلم ما يُشعر بأنَّه ولدُها)
*قول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم للمرأة: ((اتَّقي اللهَ واصبري))
((اتّقي الله)) أي: اجعلي بينك وبين عذاب الله وقايةً، وهذا يدل على أنَّ الذي وقعت فيه من البكاء لم يكن جائزاً؛ فقال لها: اتقي الله بالكفِّ عن الجزع والضَّجر أو النِّياحة، أو غير ذلك مما يكون عند المصيبة.
((واصبري)) أي: احبسي نفسك عن الجزع والسّخط والنّياحة، فاستحضار الصبر في هذا الموقف، هو الّذي يعين على الخروج من هذا المنكر، ولذلك قال الطّيبيُّ: ("اتقي الله" توطئةٌ لقوله: "واصبري" كأنه قال لها: خافي غضبَ الله إن لم تصبري، ولا تجزعي ليحصل لك الثَّواب).
*قول المرأة للرسول صلى الله عليه وسلم: ((إليك عنِّي فإنَّك لم تُصب بمصيبتي)):أي: انصرف عنّي، وكُفَّ عن نصحي، فإنّك لا تعلم مصيبتي، فلو علمتَها لعذرتَني، ولو أُصبت بهذه المصيبة لكان منك مثلُ الذي كان مني.
*قول أنسٍ رضي الله عنه: ((ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم)):أي أنّ المرأة لم تعرف أنّ هذا النَّاصح هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي رواية لمسلم قال أنس: ((فلما ذهب، قيل لها: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم)).
(وإنما اشتبه عليها {صلى الله عليه وسلم} ؛ لأنه من تواضعه لم يكن يستتبع الناس وراءه إذا مشى ، كعادة الملوك والكبراء ، مع ما كانت فيه من شاغل الوجد والبكاء).
*قول أنسٍ رضي الله عنه قال : ((فأتت بابَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فلم تجد عنده بوَّابين، فقالت: لم أعرفك)):أي إنّ هذه المرأة لما قيل لها إنَّ هذا الرجل هو النبي صلى الله عليه وسلم، استشعرت خوفاً ووجلاً، وفي رواية مسلم قال أنس: ((فأخذها شِبهُ الموت)) (أي من شدَّة الكرب الذي أصابها لما عرفت أنه رسول الله، خجلاً منه ومهابةً). فسارعتِ المرأة إلى الاعتذار للرَّسول صلى الله عليه وسلم، متوقّعةً عند المثول بين يديه أن تجد بينها وبينه بوّابين وحجاباً وحرساً، كحال العظماء والكبراء والأمراء والملوك، فوجدت الأمر بخلاف ما تصوّرته، فقالت له صلى الله عليه وسلم معتذرةً: ((لم أعرفك)) أي كأنها تقول: (فاعذرني من تلك الرَّدَّة وخشونتها)
*قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الصَّبر عند الصَّدمة الأولى)):أي أنّ الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم لم ينشغل بالرّدّ على اعتذار المرأة ردّاً مباشراً، لأنّ عدم ردّه على خشونتها في ذات اللَّحظة دليلٌ على أنّه قد عذرها بمصيبتها. فلمّا جاءته معتذرةً طوى الحديث عن الموقف الذي جرى منها، وهو ردُّها للنَّصيحة، تقديراً لمصابها، ولأنها لم تعرفه فأعاد توجيهها إلى معنى الصّبر، وكان قد مهّد له بالتّقوى باعتبارها السبيل الموصل إلى الصبر، فالآن يُبيّن لها حقيقةً مهمةً تتعلّق بالصّبر، فقال لها صلى الله عليه وسلم: ((إنما الصَّبر عند الصدمة الأولى))، والصّدمة اسم يدلُّ على المرّة من (الصَّدم، وهو ضربُ الشيء الصلب بمثله، ثم استُعمل في كل مكروهٍ حصل بغتة) ، فيكون المعنى: إنما الصبر الحقيقي التام الذي يُحمد أهلُه، ويُوفَّون أجورهم بغير حساب، هو الصّبر الّذي يردُ على القلب عند الصَّدمة الأولى، أي عند مفاجأة البلاء ونزول المصيبة، (إذ لفجأتها روعةٌ تُزعج القلب بصدمتها، فإن صبر للصَّدمة الأولى انكسرت حِدَّتُها وضعفت قوَّتُها فهان عليه استدامةُ الصبر، وأما إذا أُوردت بعد طول الأمل فقد توطَّن عليها ويطبعها ويصير صبره كالاضطراري، فمعنى الخبر كما قال أبو عبيد: إنَّ كلَّ ذي رزيَّة قصاراه الصبر، لكن إنما يُحمد على صبره عند حدَّة المصيبة وحرارتها).
ولذا فمن مشهور الكلام قولُهم: إذا أصابتك مصيبة فأنت بين أمرين: إمَّا أن تصبر صبر الكرام فينالك المدحُ والثّناء، وتنالُ الأجرَ والفضل، وإمَّا أن تسلوَ سُلوَّ البهائم، وذلك أن البهائم عند أول نزول المصاب بها، ينتابها الجزع، ثم إذا تمادى بها الأمرُ سلت ونسيت، وهكذا الإنسان، إلا أن تُدركه تقوى قلبه فتُعينه على الصَّبر عند الصدمة الأولى، وليس معنى ذلك أنَّ الإنسان إذا أصابه الجزع عند أول الصّدمة، ثم تدارك ذلك في أثناء المصيبة أنه لا يؤجر، بل يؤجر على ذلك، لكنَّ الأجر الكامل التام إنما يكون عند أول فجأة المصيبة.
هذا الحديث الشريف فيه فوائد كثيرة، منها:
- أنَّ زيارة القبور للنساء في ذلك الوقت لم تكن ممنوعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمرأة وهي تبكي عند القبر: ((اتقي الله واصبري))، وإنما كان هذا النّصح والتوجيه منه لأجل جزعها وما كان منها من بكاء، واستدلَّ القائلون بجواز زيارة النساء للقبور بهذا الحديث، واعترض على ذلك بعضُ العلماء، مستندين إلى أنّ أمرَ الرسول صلى الله عليه وسلم المرأةَ بالتّقوى، يقتضي أن تكُفَّ عن كل محرَّم، وذلك يشمل زيارة القبور، فالقائلون بأنه لا تجوز زيارة النساء للقبور كما هو مذهب الإمام أحمد وجماعة، لا يرون في هذا الحديث إشكالاً، والصَّواب في هذه المسألة أنّ زيارة القبور للنساء مكروهة، وذلك لما ورد في الترمذي من حديث أبي هريرة بإسناد لا بأس به قوله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله زوارات القبور)) سنن الترمذي (1056)، سنن ابن ماجة (1574)، صحيح ابن حبان (3178)، صحيح الترغيب والترهيب (3545). وحُمل هذا على كثرة الزيارة؛ لأنَّ "زوَّارات" لفظ يدل على المبالغة وكثرة التِّرداد.
- المبادرة إلى إنكار المنكر عند ظهوره، مع التّرفّق واللُّطف، باعتبار أنّ الغاية المقصودة من وراء ذلك هي البلاغ المبين، لا زوال الصورة المنكرة بالضّرورة في أول الحال، فالمرأة لم تكُفَّ وتنزجر بقول الرسول صلى الله عليه وسلم، بل ردّت نُصحه وتوجيهه، وذلك منكرٌ آخر، لكنه صلَّى الله عليه وسلم بعد أن بلّغها بما يجب عليها، تركها وشأنها، عسى أن تتحرّك نفسها بالهداية في ثاني الحال.
- المبادرة إلى الاعتذار، فإنّ هذه الصحابيّة لما علمت أنّ هذا الناصح هو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ما تلكأت ولا تأخَّرت بل بادرت وذهبت بنفسها إلى النبي صلى الله عليه وسلم معتذرةً عمّا بدر منها.
- سماحة النبي صلى الله عليه وسلم ورفقه بأمّته، كما قال الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} التوبة: 128 وقد تبدّى ذلك في معاملته لهذه المرأة، حيث لم يُعنِّفها ولم يوبّخها، بل اهتمّ بتعليمها حقيقة الصبر، وأنّه إنما يكون عند أول نزول المصيبة.
- فضيلة الصبر عند نزول المصاب.
- فضيلة قبول الاعتذار عندما يوجد سببه.