عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ إذا قبضتُ صفيَّه من أهل الدنيا ثم احتسبه، إلا الجنَّة)) صحيح البخاري (6424).
مقدمة:
الحمد لله ربِّ العالمين، وأصلي وأسلم على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد
معنى الحديث:
قول الله تعالى: ((ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ، ... إلا الجنَّة)):أي: ليس لعبدي الّذي آمن بي، جزاءٌ يستحقّه، إذا تحلّى بالخُلق الوارد في هذا الحديث، إلا الجنّة، وهي دار النعيم الكامل الذي أعدَّه الله تعالى لعباده الصالحين، وهو الفوز العظيم، فلن يُجازَى المؤمن على هذا الخُلق ببعض متاع الحياة الدّنيا، بل سيكون جزاؤه عند ربّه تعالى جنّة الرّضوان، والعنديَّة المذكورة عنديَّةُ شرف ومكانة لا عنديَّة مكان، وذلك يدلُّ على رفعة مقام العبد المؤمن الذي يتحلّى بهذا الخُلق، ولذلك قدّم ذكره في الجملة.
قول الله تعالى: ((إذا قبضت صفيّهُ من أهل الدنيا)): أي إنّ المؤمن ينال ذلك الجزاء، ويكون من المبشّرين بالجنّة، إذا توفَّى اللهُ تعالى من صافاه ومن أحبَّه من أهل الدنيا، من قريبٍ سواءٌ كان ولداً أو والداً أو غيرهما من الأقارب، أو كان زوجاً أو زوجةً، أو كان صديقاً، ممّن جمع بنهم الحبّ والوداد الصّافي من شوائب الأغراض الدنيويّة، وتلك مصيبة من أعظم المصائب التي يُبتلى بها الإنسان في الدّنيا، أن يفصل الموت بينه وبين من كان يحبّه في الدُّنيا، فلا يبقى رجاءٌ للقاء والتّوادّ بينهما إلا يوم القيامة.
قول الله تعالى: ((ثُمَّ احتسبه)):أي إنّ ذلك الجزاء الذي ينتظر المؤمن، الّذين يبتليه اللهُ عزّ وجلّ بفقد صفيّه وحبيبه في الدّنيا، إنما يكون بشرط أن يحتسبه، أي أن يصبر على فقده، (راجياً الأجر من الله على ذلك، وأصل الحِسبة بالكسر الأجرة والاحتسابُ طلب الأجر من الله تعالى)، والأجر الّذي رصده الله عزّ وجلّ لمن احتسب صفيّه في الدنيا وصبر على فقده، هو الجنة دار النعيم الكامل التي أعدَّها الله تعالى لعباده الصابرين، كما قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} فصلت: 35.
في هذا الحديث من الفوائد :
- عظيم أجر الاحتساب، وهو أن يرضى المؤمنُ بالمصيبة ويؤمِّل الأجرَ فيها من الله تعالى.
- أن أعظم ما يُصيب النَّاس من المصائب في الدنيا فراقُ أحبَّتهم وأصفيائهم بالموت، فإنها مصيبة عظيمة تستوجب صبراً وتقتضي رضاً بقضاء الله تعالى، فإنه ما من إنسانٍ إلا وسيموت، كما قال الله تعالى : {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} آل عمران: 185 فإذا تذكر الإنسان أن هذا الطريق طريقٌ مسلوك وليس فيه استثناء لأحد، كان ذلك من المُعينات على الصبر.
- أنَّ من شرط الجزاء المذكور أن يكون الصبرُ من المؤمن، فإذا صبر غيرُ المؤمن على ما أصابه، لم يكن له بذلك أجر، وهذا لا يمنع كون صبره هذا فضيلةً؛ لكنَّ الأجر لا يكون إلا بالنية والاحتساب: ((إنَّما الأعمال بالنِّيَّات، وإنَّما لكلِّ امرئ ما نوى)) صحيح البخاري (1) وصحيح مسلم (1907). ، وغير المؤمن لا تكون عنده نية صالحة تؤهله لمثل هذا الجزاء، وبالمقابل فإنّ المؤمن إذا لم يكن منه صبرٌ واحتساب ليس موعوداً بهذا الجزاء، فلا بد من الإيمان والصبر لاستحقاق هذا الجزاء.
- أنَّ الاحتساب كما أنه يخفِّف المصاب في الدنيا، ويُسلّي المؤمن بذكر رحمة ربّه، ويملؤه طمأنينة وسكينةً ورضىً بقضاء الله تعالى، كذلك يدرك به الإنسان في الآخرة عظيم الأجر والمثوبة.
- فضيلة الصبر على الأقدار المؤلمة، أعظمُ ما تكون حالَ الصبر على فقد الحبيب المصافي، كما أنّ المؤمن الصابر في هذه الحال يحقق الصبر بأنواعه الثَّلاثة، فيصبر على فقد صفيّه محتسباً، ويصبر عن المعصية، فلا يتسخّط ولا يجزع، ويصبر على طاعة الله عز وجلّ الّذي أمره بالصبر وحثّه عليه.