عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ((سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فأخبرني أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس من أحد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً محتسباً يعلم أنَّه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد)) صحيح البخاري (3473). .
مقدمة:
الحمد لله ربِّ العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد.
فالصبر أنواع ثلاثة، صبر على الطاعة، صبر عن المعصية، وصبر على أقدار الله تعالى، فهذا الحديث من جملة الأحاديث المتعلقة بالصبر على أقدار الله تعالى.
معنى الحديث:
*قول عائشة رضي الله عنها: ((سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطَّاعون)): الطاعون في اللغة على وزن "فاعول" من الطعن، (عدلوا به عن أصله ووضعوه دالاً على الموت العام كالوباء، ويقال طُعِن فهو مطعون وطَعين إذا أصابه الطاعون)، فليس الطاعون نوعاً بعينه من الأمراض، يُصيب مغابن الجسم وأعضاءه الرّخوة، كما ذهب إليه بعض العلماء، لكنه الوباء الذي يحدث بسببه موت عام سواء تمثّل في الكوليرا أو الجدري أو انفلونزا الطيور إذا انتشرت وصارت وباءً عاماً يموت الناس منه، أو يُخشى أن يموت الناس منه، وسؤال السيدة عائشة رضي الله عنها عن مرض الطاعون، ربما كان مقصوداً به معرفةُ حقيقته العُرفيّة أو حقيقته الشّرعية، فبيّن لها الرسول صلى الله عليه وسلم حقيقته الشرعية.
*قول عائشة رضي الله عنها: ((فأخبرني أنَّه عذابٌ يبعثه الله على من يشاء)):وورد في حديث أسامة رضي الله عنه قول الرَّسول صلى الله عليه وسلم: ((الطاعون رجس أُرسل على طائفةٍ من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم))، وفي روايةٍ أخرى: ((إنَّ هذا الوجع رجزٌ أو عذاب أو بقيَّة عذابٍ عُذِّب به أناسٌ من قبلكم)) فأصل الطاعون أنه رجس وعذاب، سلّطه الله عزّ وجلّ على بني إسرائيل، أو على غيرهم من الأمم السابقة، ثمّ بقي في الأرض وباءً يُصيب به من يشاء من عباده.
*قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وأن الله جعله رحمةً للمؤمنين)):يعني أنّ وباء الطاعون، قد كان عذاباً وعقاباً على بني إسرائيل أو على غيرهم من الأمم السابقة، ثمّ بقيت منه بقيّةٌ فيمن بعدهم، وذلك يشمل هذه الأمة، لكنّ الله عزّ وجلّ جعله رحمةً للمؤمنين، يرفع لهم به الدَّرجات ويحطُّ عنهم به الأوزار والخطايا، وقد يُعاقب الله تعالى به أصحابَ المعاصي من هذه الأمة، بل قد ورد في بعض الأحاديث أنه سيكون عقوبةً على ظهور الشَّرِّ في هذه الأمة، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لم تظهر الفاحشة في قوم قطّ حتى يُعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الَّذين مَضَوا)) سنن ابن ماجة (4019)، صحيح الترغيب والترهيب (1761). ، لكنّ هذه الأمة مرحومةٌ بألوان البلاء والعذاب الذي يقع عليها في الدنيا؛ أنه لا يكون عذابَ انتقام، بل تكفيراً للخطايا، فالطاعون هو هو، في حقِّ من جعله الله عليه عقوبة، وفي حقّ من جعله الله له كفّارةً للخطايا، وفي حق من جعله له رحمةً.
*قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس من أحد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً محتسباً يعلم أنَّه لا يصيبه إلا ما كتب الله له)): هذا بيان معنى كون الطاعون رحمةً بالمؤمنين، وتقييد له بالشروط، فقوله: ((ليس من أحد يقع الطاعون)) يشمل كلَّ مسلم عند وقوع الطاعون في بلدٍ، وهذا شرط أول، وقوله: ((فيمكث في بلده)) هذا شرط ثانٍ، ويوضحه ما ورد في حديث أسامة وغيره، من قوله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه)) صحيح البخاري (3473). ، ثم قوله: ((صابراً)) والصبر حبس النفس عن كل تسخُّط وضجر، فهذا هو الشرط الثالث، ثم قوله: ((محتسباً)) أي يرقب الأجر من الله تعالى والثواب منه ويطمعُ في عطائه جلَّ وعلا، وذكر الاحتساب من بعد الصبر، لأنّ المرء قد يكون صابراً غير محتسبٍ، فلا بدّ من الاحتساب، وهو الشرط الرابع، وأردفه بقوله: ((يعلم أنَّه لا يصيبه إلا ما كتب الله له)) ليكونَ فيه سلوى للصابر المحتسب، فلا يسمع لوساوس الشَّيطان وتثبيطه وقيله: لو خرجتَ لكان خيراً لك، وما إليه من الوساوس. فإنَّ مكثه في البلد الذي نزل فيه الطَّاعون على هذا النَّحو، صابراً ، محتسباً ، يعلم أن ما أصابه إلا ما كتب الله له، يؤهّله لنيل الأجر الكبير المرصود له، وقد استثنى بعضهم أهل الكبائر، ولكن لا دليل على هذا التخصيص.
*قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إلا كان له مثلُ أجر شهيد)): ولم يقل "فله أجر الشهيد" ؛ لأنَّ هذا لم يُصب بالطاعون ولكن مكث في الأرض التي نزل بها الطاعون صابراً محتسباً، فله "مثلُ أجر الشّهيد"، أمّا أجر الشهيد فلا يكون إلا لمن أُصيب بالطاعون، فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله)) صحيح البخاري (653)، وصحيح مسلم (1914).
هذا الحديث فيه جملة من الفوائد :
- أنَّ الطاعون قد يكون عقوبة للكافرين، وتكفيراً لخطايا العصاة، ورحمةً للمؤمنين.
- أنّ الطاعون يكون رحمة إذا كان الإنسان قد قابله بالصبر، والاحتساب، والعلم بأنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه وأنه بقدر الله.
- أنَّ من بقي في بلد الطاعون أو في المكان الذي شاع فيه هذا المرض، وإن لم يُصَب به، فهو مأجور على ذلك مثلُ أجر الشهيد، أما إذا كان قد أُصيب بالطَّاعون فإنه شهيد كما ورد في الحديث الصَّحيح.
-الحثُّ على الالتزام بضوابط الحجر الصِّحي، وعدم الخروج من الأرض التي نزل بها وباءٌ عامٌّ، بسبب مرضٍ فيه هلاك للناس، والترغيبُ في ذلك بعظيمِ الأجر والثَّواب يوم القيامة.