قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}, هذه الآية الكريمة تدل على أن الله أكرم بني إسرائيل بنوعين من أنواع الطعام وهما المن والسلوى, وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أنهم لم يكن عندهم الإطعام واحد, وهى قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ}, وللجمع بينهما أوجه:
الأول-إن المن وهو الترنجبين على قول الأكثرين من جنس الشراب والطعام الواحد هو السلوى, وهو على قول الأكثر ين السماني أو طائر يشبهه.
الوجه الثاني-إن المجعول على المائدة الواحدة تسميه العرب طعاما واحد وإن اختلفت أنواعه.
ومنه قولهم:أكلنا طعام فلان, وإن كان أنواعا مختلفة. والذي يظهر أن هذا الوجه أصح من الأول لأن تفسير المن بخصوص الترنجبين يرده الحديث المتفق عليه: "الكمأة من المن.." الحديث.
الثالث-أنهم سموه طعاما واحدا لأنه لا يتغير ولا يتبدل كل يوم, فهو مأكل واحد وهو ظاهر.
قوله تعالى:{أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ}.
هذه الآية تدل على أنهم قتلوا بعض الرسل, ونظيرها قوله تعالى: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} الآية.
وقوله: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ}.
وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أن الرسل غالبون منصورون كقوله:{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}, وكقوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}, وقوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} وبيّن تعالى أن هذا النصر في دار الدنيا أيضا كما في هذه الآية الأخيرة وكما في قوله : {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية.
والذي يظهر في الجواب عن هذا أن الرسل قسمان: قسم أمروا بالقتال في سبيل الله, وقسم أمروا بالصبر والكف عن الناس, فالذين أمروا بالقتال وعدهم الله بالنصر والغلبة في الآيات المذكورة, والذين أمروا بالكف والصبر هم الذين قتلوا ليزيد الله رفع درجاتهم العلية بقتلهم مظلومين, وهذا الجمع مفهوم من الآيات لأن النصر والغلبة فيه الدلالة بالالتزام على جهاد ومقاتلة, و لايرد على هذا الجمع قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} الآية. أما على قراءة {قُتِلَ} بالبناء للمفعول فنائب الفاعل قوله: {رِبِّيُّونَ}لا ضمير نبي وتطرق الاحتمال يرد الاستدلال, وأما على القول بأن غلبة الرسل ونصرهم بالحجة والبرهان فلا إشكال في الآية والله أعلم.
قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} الآية. الاستفهام في هذه الآية إنكاري أظلم ممن منع مساجد الله. وقد جاءت آيات أخر يفهم منها خلاف هذا كقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} الآية. وقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ..} الآية, إلى غير ذلك من الآيات.
وللجمع بين هذه الآيات أوجه: منها-تخصيص كل موضع بمعنى صلته: أي مساجد الله-ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله كذبا, وإذا تخصصت بصلاتها زال الإشكال.
ومنها-أن التخصيص بالنسبة إلى السبق, أي لما لم يسبقهم أحد إلى مثله حكم عليهم بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم سالكا طرقهم وهذا يؤول معناه إلى ما قبله, لأن المراد السبق إلى المانعية والافترائية مثلا.
ومنها-وادعى أبوحيان أنه الصواب, هو ماحاصله أن نفي التفضيل لا يستلزم نفي المساواة, فلم يكن أحد ممن وصف بذلك يزيد على الآخر لأنهم يتساوون في الأظلمية فيصير المعنى: لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله ومن افترى على الله كذبا ومن كذب بآيات لله, ولا إشكال في تساوي هؤلاء في الأظلمية ولا يدل على أن أحدهم أظلم من الآخر كما إذا قلت لا أحد أفقه من فلان وفلان مثلا. ذكر هذين الوجهين صاحب الاتقان.
وما ذكره بعض المتأخرين من أن الاستفهام في قوله: ومن أظلم المقصود منه التهويل والتفظيع من غير قصد إثبات الأظلمية للمذكور حقيقة ولا نفيها عن غيره كما ذكره عنه صاحب الاتقان يظهر ضعفه لأنه خلاف ظاهر القرآن.