عن أبي عبد الرَّحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحكي نبيَّاً من الأنبياء -صلواتُ الله وسلامه عليهم- ضربه قومُه فأدمَوه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهمَّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون)) صحيح البخاري (3477)، وصحيح مسلم (1792).
الحمد لله ربِّ العالمين، وأصلِّي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمَّد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد
معنى الحديث:
قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ((كأني أنظر إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه))
أي: أنّ راوي الحديث الصحابيّ الجليل، عبد الله بن مسعود، يُبيّن أنه يروي هذا الحديث مستحضراً هيئة الرسول صلى الله عليه وسلم، عند روايته له، فكان ابن مسعود يُخبر عن خبر كأنما يراه بعينيه ويسمعُه بأذنيه، من لدن الرسول صلى الله عليه وسلم، ساعة التَّحديث به.
فقوله رضي الله عنه: ((كأني أنظر)) أي: أنا أحدثكم بهذا الحديث، وأمام عينيَّ ما شهدته من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يُصورُ لأصحابه حالاً من أحوال نبيٍّ من الأنبياء.
واختلف العلماء رحمهم الله في تعيين شخص النَّبيِّ الذي جرى له ما جرى: فقال جماعةٌ من أهل العلم: إنَّه نوحٌ عليه السَّلام، وقال آخرون: إنَّه نبيٌّ من الأنبياء لم يُسمَّ. وقال آخرون: بل هو النَّبيُّ محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك قبل أن يجري له ما جرى في غزوة أحد، من شجِّ رأسه صلى الله عليه وسلم وكسر رباعيته، وقوله وهو في تلك الحال: ((اللهمَّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون)) صحيح مسلم (1793).، فقيل إنه أُوحيَ إليه قبل ذلك بأنّ نبيّاً سيجري له هذا الذي جرى، قيل: فكان هو صلى الله عليه وسلم، وأشار ابن حجر في هذا السياق إلى أنّ الإمام مسلم، قد ذكر قولَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم، في قصة أحد عقب هذا الحديث، ممّا أوحى بهذا الربط.
وجمع الإمام النَّوويّ بين هذه الأقوال قائلاً: (وهذا النَّبيُّ المشار إليه من المتقدِّمين، وقد جرى لنبيِّنا صلَّى الله عليه وسلم مثلُ هذا يوم أحد).
وقوله رضي الله عنه: ((ضربه قومُه فأدمَوه)) أي: ضربوه حتى أخرجوا منه الدَّم، قال النَّوويّ: (وفي هذا وقوعُ الانتقام والابتلاء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، لينالوا جزيل الأجر، ولتعرف أممُهم وغيرُهم ما أصابهم ، ويتأسَّوا بهم، قال القاضي: وليُعلم أنهم من البشر تصيبهم محن الدنيا، ويطرأ على أجسامهم ما يطرأ على أجسام البشر، ليتيقَّنوا أنهم مخلوقون مربوبون، ولا يَفتتن بما ظهر على أيديهم من المعجزات، وتلبيسِ الشيطان من أمرهم ما لبَّسه على النَّصارى وغيرهم).
*حكاية النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن ذلك النّبيّ، عند جرحه وقوله: ((وهو يمسحُ الدَّم عن وجهه ويقول))، وفي روايةٍ لمسلم: ((فهو ينضِحُ الدَّمَ عن جبينه)) صحيح مسلم (1792) (أي: يغسله ويُزيله)
أي إنّ هذا النّبيّ كان في حال اعتداء قومه عليه، وشجِّهم رأسه وإسالتهم دمه، كان يدعو لقومه بالهداية!
قول ذلك النّبيّ صلوات الله وسلامه عليه، حالَ جرحه وإدمائه: ((اللهمَّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون)):
أي: اللَّهمَّ اعفُ عنهم وتجاوز عن ظلمهم الَّذي وقع عليَّ بهذا الاعتداء.
وقوله: ((فإنَّهم لا يعلمون)) (كالتَّعليل لسؤال المغفرة لهم: أي ما أوقعهم في ذلك إلا جهلُهم بقدر النبي وعدم معرفتهم بعلوّ مرتبته، إذ لو عرفوه لقدروه حق قدره، ففيه -بعد الصَّفح- زيادةُ الفضل بالدُّعاء لهم بالغفران والاعتذار عنهم بعدم العلم)، فاعتذر لقومه بأنّ هذا الذي جرى منهم كان بسبب جهلهم، والمقصود بالجهل هنا: عدمُ العلم الحقيقيّ الذي يدركون به منفعتهم ورشدهم وصلاحهم، وليس أنَّهم لا يعلمون أنه نبيٌّ فإنَّ الأنبياء مؤيَّدون من الله تعالى بالآيات البيّنات والحجج القاطعة للشُّبَه؛ لكنَّه يعتذر لهم بأنّ الجهل هو الّذي حملهم على ذلك، وكلُّ من وقع في خطأ أو تورَّط في اعتداء أو سيِّئٍ من العمل، فإنه لا يعلم إذ لو كان يعلم علماً حقيقياً لما تورَّط فيما شؤمه ظاهر، وعاقبته وخيمة.
ونفي العلم له وجهان:
-الأول، بمعنى الجهل الكليِّ المطبق، الذي لا يُدرك به الإنسان شيئاً، فهذا لا يترتب عليه عقاب؛ لأن التكليف في الشّريعة يكون مرتَّباً على العلم.
-الثّاني، بمعنى عدم العمل بالعلم: وهو معنى قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } النساء: 17 ، فليس المقصود أنهم يجهلون كونه حراماً، لكنهم لما لم يعملوا بالعلم كانوا جُهالاً، فكلُّ من لم يعمل بالعلم فإنَّه جاهل بحقيقته.
وفي دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لمن شجّوه يوم أحد بقوله: ((اللهمّ اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون))، (قال ابن حبان: معنى هذا الدعاء الذي قال يوم أحد لما شُجَّ وجهه أي: اغفر لهم ذنبهم في شجِّ وجهي، لا أنَّه أراد الدُّعاء لهم بالمغفرة مطلقاً، إذ لو كان كذلك لأجيب ولو أجيب لأسلموا كلهم، كذا قال وكأنه بناه على أنه لا يجوز أن يتخلَّف بعض دعائه على بعض أو عن بعض، وفيه نظر، لثبوت: "أعطاني اثنتين ومنعني واحدة").
هذا الحديث فيه جملة من الفوائد:
- منها أن المتحدث إذا استوعب الحدث وأثر فيه ثم قصَّه على الناس، فإنه يقصُّه كما لو كان يشاهده، لشدة تيقنه وتثبُّته من أحداثه ووقعه في نفسه.
- وفيه من الفوائد أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، كان يقصُّ على أصحابه بعض الأحداث، مصوّراً بعض وقائعها، وذلك بدافع تأثّره بها، ومن أجل إثارة انتباه الحاضرين.
- وفيه أنَّ الأنبياء من أعظم الناس صبراً، حيث إنَّ أقوامهم قد آذَوهم أبلغ الأذى، فصبروا ولم يستكينوا، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} الأنعام: 34 .
- وفي هذا الحديث عظيم شفقة هذا النبي على قومه، فإنه كان يقابل تلك الإساءات والبذاءات والجراح الداميات، بهذه الكلمات الحانية التي امتلأت شفقة ورحمة على قومه: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) وهكذا دأب أهل الإيمان في معاملتهم مع أهل المعصية، يكونون ما بين شعوري عدلٍ ورحمةٍ: عدلٍ وقسطٍ إذ إنّ ما هو واقعٌ بهم، هو ثمرةٌ لمعاصيهم وسلوكهم، ورحمةٍ عليهم وشفقةٍ لما يُعانونه من مقاساة شؤم المعصية، وما فاتهم من الخير الكثير بسبب تيههم في بيداء الضلالة، وهكذا كان حالُ الرّجل الَّذي جاء من أقصى المدينةِ يسعى، من أجل نصيحة قومه باتّباع المرسلين، فقتلوه، فماذا؟: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)} يس: 26، 27 فهذا دأب أهل الإيمان، يأتسون في ذلك بالأنبياء والرسل حيث امتلأت قلوبهم رحمةً لأقوامهم فأحبُّوا لهم الخير، ولهِجوا لهم بالدعاء، حتى في حال كونهم باسطي أيديهم عليهم بالأذى.
وفي ذلك درس للدّعاة، أنهم ولا بدّ مواجهون بالأذى قولاً وفعلاً، فليحتسبوا وليرجوا ما عند الله عزّ وجلّ من الجزاء، وليروا في هذا البلاء رفعةً للدرجات وتكفيراً للسيئات, وسدّاً للخلل من نقص في الإخلاص أو خطأٍ في كيفية الدعوة ومنهجيَّتها.
- من فوائد هذا الحديث جواز الاستغفار للمشرك او الكافر الحيّ؛ لأن النبي كان يقول لقومه ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) ، وهذا يدل على جواز الدعاء للمشرك بالمغفرة حال حياته، أما بعد موته فقد قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)} التوبة: 113 فالذي يموتُ على الكفر، ظاهرُ حاله أنه من أصحاب الجحيم، فلا يُستغفر له؛ ولهذا جاء في الصَّحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((استأذنتُ ربِّي أن أستغفرَ لأمّي فلم يأذن لي، واستأذنتُه أن أزور قبرها فأذِنَ لي)) صحيح مسلم (976). ، وكانت أمُّه صلَّى الله عليه وسلَّم، قد ماتت في الفترة. أما في حال حياة الكافر، فإنه يجوز الدعاء له بكلّ خير من المغفرة والهداية وسائر ما يكون من الدعوات الصالحات، كما ورد في الصحيح من حديث أبي هريرة، قال: ((قدم طفيل بن عمرو الدَّوسي وأصحابُه على النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فقالوا: يا رسول الله، إنَّ دوساً عصت وأبت فادعُ الله عليها، فقيل: هلكت دوس! قال: اللهم اهد دوساً وأْتِ بهِم)) صحيح البخاري (2937)، صحيح مسلم (2524)..
وقد استشكل بعض أهل العلم الدعاء للمشرك بالمغفرة، فقالوا: كيف يغفر له وهو مشركٌ، والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)} النساء: 48 ، فقيل: إن الدعاء للمشركين بالمغفرة، هو أن ييسِّر الله لهم أسباب التوبة، فيتوبون، وعندئذٍ يُغفر لهم.
ويتّصل بذلك مسألة يسأل عنها كثير من الناس: هل يجوز الدعاء للميّت الكافر بالرحمة؟
فيقال: الرَّحمة هي الجنَّة، والجنّة قد حرّمها الله تعالى على الكافرين والمشركين، قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) } المائدة: 72، 73 ، وجاء في الحديث الصَّحيح قولُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لن يدخل الجنَّة إلا نفسٌ مسلمة)) مسند أحمد (23763)، صحيح ابن حبان (7124)، مصنف ابن أبي شيبة (37760). وقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: قال الله تبارك وتعالى للجنة: ((أنتِ رحمتي أرحمُ بك من أشاءُ من عبادي)) صحيح البخاري (4850)، وصحيح مسلم (7351). ، فلا يجوز لأحد أن يسأل الله تعالى الجنة لميت مات على الكفر، لأنَّ الله حرم الجنّة على أهل الشرك والكفر، ومن ناحيةٍ أخرى، فإنّ القول بأنه لا يجوز سؤال الجنّةِ لميتٍ مات على الكفر، لا يعني أنك علمتَ أنه من أهل النار، لأنّ الشهادة للمعيّن، سواءٌ بجنة أو نار، لا بد فيها من نصٍّ، لكن نقول عموماً: كلُّ مؤمن في الجنة، وكلُّ كافرٍ في النار، أما التعيين فيحتاج إلى نصٍّ من كلام الله عز وجل، أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلا فلنمسك.