الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه, أحمده حق حمده, أحق من ذكر, وأعظم من حمد وأثني عليه, لا أحصي ثناءًا عليه, هو كما أثنـى على نفسه, وأشهد أن لا اله إلا الله إله الأولين والآخرين, وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله, اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد, كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد
فحياكم الله أيها الإخوة في هذه المحاضرة المختصرة حول هذا الموضوع الكبير وهو عطاء الله تعالى, الله سبحانه وبحمده خلق الخلق بإنعامه وإحسانه, وأعطاهم ما به تصلح دنياهم, فقد أعطى -جلَّ وعلا- كل شيء خلقه وهداه, فما من شيء في الدنيا، إلا والله تعالى قد أعطاه, لا غنى بأحد من الناس عن عطاء الله -عزَّ وجلَّ-, )يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ(سورة فاطر، الآية:15, عطاء الله لا يتخذ صورة واحدة, أو لونًا واحدًا أو نمطًا واحدًا؛ بل عطاء الله يشمل كل ما تعيش فيه من نعم, تردد نفسك من عطاء الله, نبض عرقك من عطاء الله, لحظ عينك من عطاء الله, مطعمك ومشربك من عطاء الله, هدايتك واستقامتك من عطاء الله, سعادتك من عطاء الله, نجاحك من عطاء الله؛ فعطاء الله يستوعب كل شئون الإنسان, فليس شيء في الدنيا إلا عطاء من الله, )وما كان عطاء ربك محظورًا(, يعطي كل خلقه ما تصلح به معاشهم, والعطاء نعمه من الله جلَّ وعلا, نُعِم بها على العباد يبتليهم لينظر من يقوم بما أمر, ويحقق ما أراد, ومن يتخلف عن ذلك, هذا العطاء لا يفرق بين لون وآخر بل يعطي الله جلَّ وعلا حتى من يكفر به؛ فمن يكفر بالله عزَّ وجلَّ تساق إليه العطايا، وقد يفتح الله عليه من ألوان العطاء ما يكون سببًا لاغتراه كما قال تعالى: )وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا(سورة الزخرف, الآية: 33. فالدنيا يعطيها الله تعالى الجميع, ليس فيها دلالة على استقامة وصلاح ولا على محبة ورضاء, بل يعطي الله تعالى الجميع، المسلم والكافر المؤمن، وغيره من عطاياه، ليبتلي الناس في هذا العطاء, ثم بعد ذلك الناس فيما يعطيهم الله تعالى ينقسمون إلى قسمين: منهم من يحمد الله ويشكره, ويثني عليه, ويمجده, ويحقق ما أراده الله تعالى منه في هذا العطاء, ومنهم من يغره العطاء، فيقول في نفسه: ما أعطاني إلا أنه يحبني, وما أعطاني إلا أنه راضٍ عني، )وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا(الكهف، الآية:36 كما قال ذلك صاحب الجنة فيغتر بالعطاء الحاضر, ويظن أن ذلك سيفتح له أبواب من عطاء المستقبل والله جلَّ وعلا، قد أخبر عن ما يقوم في نفوس الناس في إيزاء صورة من صور العطاء, وهو العطاء المادي يقول الله تعالى: )فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا((ماذا؟) )ابْتَلاهُ رَبُّهُ(سورة البلد، الآية:15، انظر كيف قال ابتلاه يعني اختبره, )فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ (أي ضيق) فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ(سورة البلد, الآية: 15, 16 قال الله تعالى: كلا ليس الأمر كما تظنون، ليس العطاء دليل على المحبة, والرضا, والإكرام, كما أن المنع ليس دليلًا على الإهانة, والكره, وعدم المحبة؛ بل يعطي الله تعالى هذا وذاك، من ألوان العطاء ما يبتليه ويختبره، )كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا(الإسراء، ىلآية:20، المؤمنين, والكافرين, وما كان عطاء ربك محظورًا، ليس مقصورًا, ولا محظورًا, على فئة دون فئة بل الجميع يعطي, فما أحد إلا والله معطيه، وتتفاوت العطايا، وهي نوعان: عطاءًا تستقيم به الدنيا, وعطاءًا تستقيم به الدنيا والآخرة, وخير العطاءين ما كان صلاحًا للدارين, خير العطاءين، العطاء الذي تصلح به دنياك وتستقيم به آخرتك وإما ما كان عامرًا للدنيا مفسدًا للآخرة, فذاك هو البلاء الذي ينبغي للمؤمن أن يتوقاه، وأن يحذره، وأن لا يستدل بعطاء الله تعالى له أنه سيعطيه في الآخرة، فكم من معطىً في الدنيا محرومًا في الآخرة, ألم يقل النبي صلي الله عليه وسلم:«رُبَّ كاسية في الدنيا» يعني لابسة أجمل اللباس «عارية في الآخرة»[صحيح البخاري(115)]-- إن كساء الدنيا في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والجاه والمنصب، ليس دليلًا على الحال التي في الآخرة, لذلك ينبغي أن نصنف العطاء، ونفهم أن أعظم العطاء، الذي يعطيه الله تعالى لعبد، أن يسخره في طاعته, أن يستعمله فيما يرضيه, أن يجعله من حزبه وأوليائه, أن يسلك به سبيل الاستقامة؛ ماذا قال الله تعالى: الامتنان على عبادي في شيء كما ذكره في الهداية إلى الصراط المستقيم، لهذا يا إخواني ينبغي أن نعرف، أن المنة الحقيقية من الله علي عبده أن يشرح صدره للاستقامة أن يسلك به سبيل الهداية, يقول الله تعالى: )فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ(سورة الإنعام, الآية: 125.، اذا كان كذلك فلن يضره قلة ذات اليد, قلة مال, سوء معاشٍ, في المأكل والمشرب, والملبس؛ فإنه يحتسب كل ذلك عند الله فالآخرة خير وأبقى.
أيها الإخوة! الله تعالى نظم الكون على أنه ما من شيئٍ ٍ إلا وله سبب، فلا بد من معرفة الأسباب لتحسين النتائج, وما من باب إلا وله مفتاح, ولذلك كان التفاوت بين الناس، في معرفة المفاتيح التي يدركون بها مطالبهم وفي معرفة الأسباب، التي يحسنون بها نتائجهم, ومطالبهم, ومقاصدهم؛ إن عطاء الله تعالى الذي به تصلح الدنيا وتستقيم الآخرة مفتاحه الدعاء، وهنا نأتي إلى عنوان هذه المحاضرة، الدعاء مفتاح العطاء، فأي عطاء ذاك الذي مفتاحه الدعاء إنه كل عطاء مهما دق في عينك, وسهل عليك, فاعلم أن سبيل إدراكه الدعاء، ومهما عظم وكبر في نفسك، وظننت بعده عنك فاعلم أن مفتاحه الدعاء, فالدعاء مفتاح عطاء ربك جلَّ في علاه، لصغير الأمر وكبيره, وحقيره وشريفه, فمهما عظم مطلوبك فاعلم أن طريق تحصيله الدعاء، ومهما دق في عينك, وقل في ذهنك قدر مطلوبك إلا لم ييسره الله تعالى لم يتيسر فمفتاحه الدعاء, لذلك قالت عائشة رضي الله عنها: «اسألوا الله كل شيء»، أي لا تبقوا شيئا لا تسألونه الله «سلوا الله كل شيء حتى شسع النعل فإنه لو لم ييسره الله تعالى لما تيسر »[ أخرجه أبو يعلى (8/44) وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (349) ، ورواه البيهقي في "شعب الإيمان" (2/42) من طريق آخر . قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/150) : رجاله رجال الصحيح .قال الألباني في "السلسلة الضعيفة" (1363) :" وهذا سند موقوف جيد رجاله كلهم ثقات رجال مسلم "] ما هو شسع النعل؟ السير الذي يربط به الحذاء أكرمكم الله, سلوا الله تعالى حتى هذا, لذلك من الفائز؟ الفائز: هو ذاك الذي يضع مطالبه دقيقها وجليلها, صغيرها وكبيرها, بين يدي ملك الملك سبحانه وبحمده، الذي يبثه نجواه وشكواه, وهمه ومطلوبه, في قيامه وقعوده, لله الذي يعلم أنه لا مانع لما أعطى, ولا معطٍ لما منع, وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فكل شيئ عنده بمقدار، وهو على كل شيء قدير سبحانه وبحمده, اذا امتلأ قلب المؤمن بهذه الحقيقة ورفع يديه إلى ملك الملك في مطالبه، لم يتعسر عليه مطلوب, ولم يضق به طريق, حتى إذا لم يأته ما طلب فهو في سعادة وانشراح, لأنه قدم الطلب لمالك الملك، الذي لا يمنعه شيء لعجزٍ، ولا يمنع شيئًا لبخل، إنما يمنعك إن منعك لأنه أصلح لك, ولأنه أنفع لك ألا تأخذه، فهو العليم بما يصلحك، ويسوق نعمه إليك هو رب العالمين.
تدرون ما معنى رب العالمين؟ أي الذي يربي عباده حتى يبلغ بهم ما يصلحهم، فأنت قد تمنع ما ترى صلاحك فيه, ويكون فيه هلاكك، فربك أعلم بما يصلحك، تسأل المال, ويكون المال شرًّا لك, تسأل الولد, ويكون الولد شقاءًا لك, تسأل العمل الفلاني, ويكون مضيعة لك؛ فثق بالله، لا يعني هذا ألا تسأل، سل الله ما شئت، سل الله كل ما تريد، لكن املأ قلبك يقينًا أن الله إذا منعك ما تطلب فليس عجزًا، فهو على كل شيء قدير, ولا بخلًا فيداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء سبحانه وبحمده، لكنه يمنعك إن منعك لأنه أصلح لك عند ذلك تطمئن نفسك, ثم هذا المنع هل يضيع ما كان من دعاء وطلب الجواب؟ لا، كل من رفع يديه وقال يا الله؛ يا رب؛ يا إلهي؛ فلن يرجع من الله خائبًا, ما من مسلمٍ ٍ يدعو الله في غير إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله تعالى إحدي ثلاث خصال: إما أن يعجل له ما طلب يعطيه ما طلب, وإما أن يدخرها له في الآخرة, وإما هذا الخيار الثالث أن يصرف عنه من الشر نظير ما سأل، فيدفع عنك من الشر نظير ما سألت.
طبعًا هذا العطاء الذي يكون بين ثلاث أحوال غير ما يكتبه الله تعالى لك من الأجر والثواب بسؤالك ودعائك, فالدعاء نفسه عبادة تؤجر عليه بغض النظر أُجبت إلى دعائك أو لم تجب، فالله يأجرك على قول: يا الله، يا رب يا رب يسر لي شربة ماء, يأجرك الله عليه تيسرت شربة الماء ذلك خير إلى خير، لم تتيسر يسوق الله لك من الخير نظيرها, أو يدفع عنك من الشر مثلها، لم يتيسر هذا ولا ذاك يجعل الله تعالى لك في الآخرة من الثواب زيادة على ثواب الدعاء, ثواب الحرمان في الدنيا زيادة على ثواب الدعاء, وعبادة التقرب إلى الله تعالى بالسؤال.
الدعاء يا إخواني أعظم المفاتيح التي يملكها الناس، لكنهم عنه غافلون، من منا يدعو الله تعالى، ويستشعر بلذة سؤال الله ومناجاته؟ كثيرٌ منا لا يعرف الدعاء إلا في المضايق، ويظن أن الدعاء لا يكون إلا لعظائم الأمور, وكبائر الخطوب, وهذا غلط، الدعاء عبادة، مساء صباح في كل حين ولحظة استشعر افتقارك إلى الله، تكثر من سؤاله؛ متى ما شعرت بغناك عنه، فأنت المحروم, لأنه لا أحد في غنـى عن الله وعطائه )يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ(سورة فاطر، الآية:15، من أكرم من محمد بن عبد الله -صلي الله عليه وسلم- على ربه ومع هذا كان يتضرع بين يديه ويسأله ما يعلم أن الله قد أعطاه إياه، فكان يسأل الله المغفرة للذنوب والخطايا مع أن الله تعالى قد قال في كتابه في العام السادس من الهجرة: )إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينا(سورة الفتح, الآية: 1, )ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخَّر(، فعلم أن الله غفر له ما تقدم وتأخر من الذنوب، ومع هذا كان يقول في دعاه، « اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ دِقَّهُ، وَجِلَّهُ، وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ وَعَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ »[صحيح مسلم(483/216)], ويأتي بالدعاء المطنب المفصل، حتى يحسب له في المجلس الواحد أكثر من سبعين استغفارًا ويقول:« يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللهِ، فَإِنِّي أَتُوبُ، فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ، مَرَّةٍ »[صحيح مسلم(2702/42)], إذًا السؤال ليس مرهونًا بتحقيق المطلوب، السؤال في ذاته لذة، في ذاته عبادة يؤجر عليها الإنسان, ولهذا لا تغتر أن الأمر قد حصل لك فتكف عن السؤال، سل الله المزيد من فضله في دينك ودنياك، ونحن نطبق هذا في كل صلاة، ألسنا في كل صلاه نقول اهدنا الصراط المستقيم؟! بلـى، نقول ذلك ويقول كل مسلم لأنه بحاجة إلى تثبيت الله له على الهداية، واحد وبحاجة إلى زيادة هذه الهداية، فإن فوق كل هداية هداية, الهداية ليس لها سقف تنتهي إليه، بل فوق كل هداية تسألها الله تعالى، الهداية ليست فقط في لحظة وتنتهي, الهداية تحتاجها مع كل نفس مع كل لحظة، مع كل ثانية أنت بحاجة إلى الهداية، فإن خل الله بينك وبين نفسك خذلت، ولو لم يهدك الله تعالى لم توفَّق، والله لولا الله ما اهتدينا, ولا تصدقنا, ولا صلينا, هكذا يمتلئ قلب المؤمن ارتباطًا بالله، إذا قسم بينه وبين الله يحد الدعاء فقط في صور محددة, أو أوقات محددة, أو أحوال محددة, إذا مرض, إذا افتقر, إذا صارت عنده مشكلة, إذا نزل به خطب, ولا يدعو إلا هذا حرم نفسه خيرًا كثيرًا، حرم نفسه لذة المناجاة بين يدي الله عز وجل، إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، وما من أحد يشكو إلى الله إلا وسيجيبه جلَّ وعلا ويفرج كربه، ويحل كربته، لذلك من المهم أن نعرف عظيم حاجتنا إلى هذا المفتاح.
الصلاة دعاء، قوامها على الدعاء؛ ولذلك ندعو الله قائمين، وقاعدين، وراكعين، وساجدين، وإن كان الركوع تعظيمًا للرب لكنه دعاء.
الدعاء نوعان: دعاء عبادة ودعاء مسألة, والناس يظنون فقط الدعاء هو أن تقول يا رب ارزقني، لكن ينسى أن قوله سبحان الله، والحمد لله، ولا اله إلا الله, والله أكبر دعاء، ينسي أن دفعه المال الزكاة دعاء، ينسي أن صومه وحجه وكل أعماله الصالحة، قيامه بحقوق الخلق كل هذا دعاء؛ لأن الدعاء هو الطلب؛ أنت عندما تصلي ماذا تطلب؟ تطلب الجنة, ومغفرة الله تعالـى, ورحمته, ورضاه, إذًا أنت داع ٍ، عندما تصوم ماذا تطلب؟ تطلب جنه عرضها السموات والأرض، إذًا أنت داع، ٍ لما تبر والديك، ولما تكرم جارك، ولما تؤدي الحقوق التي أمر الله تعالى بأدائها، ماذا تطلب؟ تطلب رضا الله، إذًا أنت داع , ولذلك يسمى هذا النوع من الدعاء، دعاء العبادة، وهو المشار إليه في قول النبي صلي الله عليه وسلم، في حديث النعمان بن بشير: «الدعاء هو العبادة»[أخرجه أبو داود في سننه(1479)، والترمذي في سننه(2929)، وقال:حسن صحيح]؛ لأنه يشمل كل عباداتك؛ صلاتك, مجيئك لصلاه الجمعة, قيامك بحق زوجتك, بحق أولادك, بحق عملك, كل هذا مما يندرج في هذا المعنـى أنه عبادة؛ نحن بحاجة يا إخوان أن نستشعر هذا المعنـى الواسع للدعاء حتى نعرف ماذا نطلب، العطاء الذي نسأله الله، والذي الدعاء مفتاحه هو دعاء المسألة والطلب، دعاء المسألة والطلب هذا الذي نعرفه، وهو سؤال الحاجات منه جلَّ وعلا، ودعاء العبادة وهو كل عبادة وقربة يتقرب بها الإنسان إلى ربه.
أيها الإخوة! إن شأن الدعاء عظيم، ومنزلته عند الله تعالى كبيرة، فينبغي لنا أن نعرف عظيم حاجتنا إليه، أنت الآن عندما تشتري مفتاحًا لباب، أو تقص مفتاح الباب، تحتاج إلى أن تبرده وتعده إعدادًا مناسبًا، حتى يقوم بالفتح بطريقة سلسة ويسيرة, كذلك الدعاء مفتاح، لكن محتاج إلى أن تعرف موجبات العطاء, تعرف أسباب الاستجابة للدعاء, تعرف ما الذي يجعل مفتاحك ماضيًا يفتح لك المغلقات، ويبلغك الحاجات, وأيضًا ما الذي يمنع من عمل مفتاحك، وهو ما يعرف بأسباب إجابة الدعاء، وموانع الدعاء؛ هذان بابان مهمان يتعلقان بالمفتاح الذي تستفتح به الحاجات.
الأمر الأول: أعظم أسباب إجابة الدعاء, حسن الظن بالله، أحسن ظنك بالله، فإن حسن ظن بالله يفتح لك باب العطاء، أنا عند ظن عبدي بي، اذا قلت: يا رب، يا الله، أزل عن قلبك كلَّ هاجس أن الله لا يجيبك, واملأ قلبك يقينًا أن الله سيجيبك، لكن ثق أنه الإجابة ليست بالضرورة أن تكون موافقًا لما تريد وما تشتهي، فالله بسيط حكيم يعطي لحكمة ويمنع لحكمة، فهو أرحم بك من نفسك، ولذلك يقول -جل وعلا-: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ(إلى أن قال:)وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا(سورة النساء, الآية: 29 الله يوصينا بأنفسنا، ويقول:)ولا تقتلوا أنفسكم(، ويقل:)إن الله كان بكم رحيمًا(, فأنت إذا قلت: يا الله أيقن بأن الله سيجيبك، ومعنى أنه سيجيبك أنك سترجع منه بأجر الدعاء, وثانيًا: لن ترجع منه إلا بأحد الثلاث خصال التي ذكرناها قبل قليل؛ إما أن يعطيك سؤالك, أو يدفع عنك من الشر مثل ما سألت, أو يدخره أجرًا لك في الآخرة، فتكون فيه من الفائزين، والآخرة خير ٌ وأبقـى.
ما هو الطريق لحسن الظن بالله؟ كيف نحسن الظن بالله؟ أن تملأ قلبك بأن الله غني، وأنه قدير، وإذا امتلأ قلبك بأن الله غني وأنه قدير، هذا أورث قلبك حسن الظن به، وإذا التبس عليك وأردت أن تعرف مثالًا وصورة لعظيم قدرة الله وغناه استمع لحديث الإله الذي ذكره الإمام مسلم في صحيحه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى يا عبادي لو أن أولكم, وآخركم, وإنسكم, وجنكم» ها الخطاب للعباد كلهم ثم خص منهم صنفين، الإنس والجن كانوا على صعيدٍ واحدٍ، فسألني كل واحدٍ مسألته، وتصور هذا الجمع الغفير الكبير ليس فقط أهل حي, ولا أهل مسجد, ولا أهل بلدة, ولا أهل منطقة, ولا أهل جهة من العالم, ولا أهل زمان من الأزمان, إنهم كلهم كل الإنس من آدم إلى آخر البشر، وكل الجن من أول من خلق الله تعالى إلى آخرهم وقفوا على صعيدٍ واحدٍ في لحظة واحدة، وكلٌّ من هؤلاء يسأل الله، كل واحد من هؤلاء يسأل رب العالمين حاجاته ومطالبه، فأعطى كل واحد مسألته «ما نقص ذلك من ملكي شيئًا»، سبحان الله! فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء، جلَّ في علاه، «إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر»[صحيح مسلم(2577/55)]، ثم أخرجه منه فلينظر, ماذا نقص؟ ما الذي ينقص من البحر؟ ما علق في هذه إنه لم ينقصها، إنه لم ينقصه شيئًا، هذا عطاء الله، هذا سعة كرمه، هذا ملكه جلَّ في علاه, وبالتالي لا تستعظم شيئًا, ولذلك لما ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم أن أحوال الدعاء ثلاثة, قالوا: «يا رسول الله إذًا نكثر» يعني ندعو الليل والنهار اذا كان إما أن يجيبنا, وإما أن يدفع عنا من الشر مثله, وإما أن يدخره لنا في الآخرة, «إذًا نُكثر», قال صلي الله عليه وسلم: «الله أكثر»[أخرجه الترمذي في سننه(3573)، وقال: وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ]، الله أكثر من دعائكم وأعظم من سؤالكم, وأجل مما في وخواطركم, ليس كمثله شيء, وهو السميع البصير سبحانه وبحمده, إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون؛ جلَّ في علاه -سبحانه وتعالى- هذا المعنـى بالتأكيد أنه يورث القلب ثقة بالله وحسن ظنٍّ فيه، وهو معنـى ما قاله عمر: "إني لا أحمل همَّ الإجابة"، لا أحمل همَّ أن الله يجيبه ولا ما يجيبه، "إنما أحمل همَّ الدعاء"، فإذا دعوت علمت أن الله سيجيب, هكذا يكون المؤمن حسن الظن بالله، إذا أيقن أنه كل ما قال: يا الله، يا رب، فإن الله له سامع، وله مجيب فإنه عند ذلك يكون قد أحسن الظن بالله تعالى. من أسباب إجابة الدعاء: الحرص علـى سؤال الله تعالى بأسمائه وصفاته, والتضرع له, وهنا ثلاث صور للدعاء، كلها من طرق الإجابة؛ الأولي: أن تثني على الله، ترفع يديك وتقول: يا رب، في نفسك حاجة، تبغي ولد، تبغي وظيفة، تبغي تجاوز مشكلة، فك ضائقة, فتقول: يا الله، يا رب، يا عظيم، يا جليل، يا حليم، يا رحمن، يا رحيم، يا من بيده ملكوت كل شيء, وتسترسل في هذا الدعاء، فتذكر من ثنائك على الله، ما يذهبك عن مسألتك تنسى ما تريد, لاشتغالك بتقديس الله وتمجيده هذا أعظم صور العطاء، هنا يأتينك العطاء من حيث لا تتصور، أن تشتغل بالثناء على الله عن مسألتك، يعطيك الله ما لا يرد لك على خاطر، وهو معنـى الحديث الذي رواه أصحاب السنن وأحمد، من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أشغله ذكري عن ثنائي, وتمجيدي عن مسألتي أعطيته خير ما أعطي السائلين».[أخرجه الترمذي في سننه(2926)، وحسنه]
أأذكر حاجتي أم قد كفاني حباؤك أن شيمتك الحباء
إذا كان هذا يقال في المخلوق، هذا واحد يمدح له رجل محسن وصاحب عطاء، قال هل أقول حاجتي, ولا أكتفي في طلب حاجتي بأن أثني عليك إنك كريم, وإنك سخي, وإنك ما ترد السائلين وإنك, إنك، وهذا يكفي في أخذ حاجتي.
أأذكر حاجتي أم قد كفاني حباؤك أن شيمتك الحباء.
إذا كان هذا في مخلوق فما بالكم بالله الذي يعلم السر والنجوى، الذي يعلم السر وأخفى سبحانه وبحمده أليس الثناء عليه موجبًا أن يبلغك فوق ما تريد وفوق ما تسأل؟ بلى، والله إذًا الثناء على الله عز وجل من أعظم مفاتيح العطاء فأكثر من الثناء عليه بأمجاده وما له من كمالات سبحانه وبحمده.
الثاني: شكاية الحال، شكاية الحال دون سؤال، شكاية الحال دون سؤال، به تدرك المطلوب, مثاله ما ذكره الله في قصة موسى عليه السلام، خرج موسى من مصر خائفًا يترقب، لما سمع أن الملأ يأتمرون به ليقتلوه, فماذا كان؟ جاء إلى مدين، فوجد بئر عليه أمة من الناس يسقون، فأحسن بالسقاية للجاريتين، ثم انزوى في مكان، فقال تلك الكلمات المختصرة: )رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ(سورة القصص، الآية:24, ما زاد على هذه الكلمات، هذا فيه سؤال؟ قال ربي نجني من فرعون وقومه, ربي آمن خوفي, ربي ارزقني مالًا, ربي ارزقني زوجة, ربي أوحي إليَّ نبوة ورسالة, هل قال شيئا من هذا؟ لا، لم يقل شيئا من هذا, إنما اكتفى بإظهار الافتقار إلى الله, بإظهار الحاجة إليه،)رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ(سورة القصص، الآية:24، فماذا كان؟ قال: )قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(سورة القصص، الآية:25, حصل أول شيء الآن منه, ثم بعد ذلك)قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ(سورة القصص، الآية:26، جاءت الوظيفة, ما سألها, ثم )قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ(سورة القصص، الآية:27, جاء النكاح وهو ما سأل؛ ثم بعد هذا جاءت النبوة، فأوحى الله إليه لما كمل ما كمل، جاءته النبوة فقال الله تعالى له : )يا موسي* إني أنا ربك فاخلع نعليك([طه11-12], هذا كله جاء ثمرة وصف الحال، {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}سورة القصص، الآية:24، فصف حالك لربك، أظهر له افتقارك، وسيعطيك ما يصلح حالك، على وجه لا تتصور.
الصورة الثالثة من صور الدعاء ومفاتيح العطاء: أن تسأل الله حاجتك على وجه التعيين, فتقول: ربي ارزقني وظيفة, ربي أنجني من هذه الكربة, ربي أغثني من هذه الورطة؛ وما أشبه ذلك مما يسأله الناس الله عزَّ وجلَّ في السعة والضيق.
إذًا هذه ثلاثة صور وقد تجتمع في دعاء، كدعاء يونس -عليه السلام- عندما قال: )لا إله إلا أنت(, هذا ثناء )سبحانك إني كنت من الظالمين([الأنبياء:87], تدرع إلى الله عزَّ وجلَّ بأمرين؛ بتقديسه وتمجيده وبإظهار الافتقار إليه وشكاية الحال, إني كنت من الظالمين، فنجاه الله تعالى من الحوت, وقد تأتي الشكاية ابتداءًا, كما قال ربنا -جلَّ وعلا- عن أيوب: )إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(سورة الأنبياء، الآية:83، هل قال اشفني؟ ما قال اشفني، إنما سأل ربه وصف حاله، وبتمجيد الله عزَّ وجلا فأدرك مطلوبه, هذه مفاتيحه, إخواني ونحن بحاجة إليها صباح مساء، تأملوا أدعيه القرآن, وإذا جاءكم دعاء النبي صلي الله عليه وسلم، فأنصتوا إليه، فإنه فيه من العلم بالله, وطريق تحصين المطالب ما لا يخطر على بال، وأدعوكم من هذه الأسجاع التي نسمعها بالأدعية, والتطويل, والتكرار الذي يقوله كثير من الناس، يعني أحيانًا يكون صادًّا عن سبيل الله, مشغلًا عن معاني شريفة في الدعاء, قد تكون كلمات موجزة، لكنها مفاتيح ماضية.
مما ينبغي أن يراعيه الإنسان في دعائه أن يجتنب موانع الدعاء.
وهذا هو الجزء الثاني حتى لا نطيل ليحرص على أسباب الإجابة, وهي حسن الظن بالله تعالى, الافتقار إليه, الحرص على الأدعية القرآنية والأدعية النبوية؛ ثم بعد ذلك ليتوقَّ أسباب منع الإجابة، فإن لمنع الإجابة أسبابًا، أعظمها: الظلم فـي المكسب والمأكل والمشرب، فإنه من موانع إجابة الدعاء طبعًا، قص النبي صلى الله عليه وسلم، خبر ذاك الله الذي يطيل السفر، أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يقول: «يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام، ومأكله حرام وغذي بالحرام» يعني شبع بالحرام في كل هذه الجهات, «فأنى يُستجاب لذلك»[صحيح مسلم(1015/65)]،فمن أعظم أسباب منع الدعاء الكسب الحرام, الظلم في المأكل, والمشرب, والملبس, ولذلك لا تفرح بمالٍ حرام، فإنه بقدر ما تحصل به، أو تحصل به من اللذات، يدركك أضعاف ذلك من الشؤم، بمنع الخير في الدنيا والآخرة، غير العقوبة إن لم تتب وترد الحقوق إلى أهلها, فلذلك ينبغي للمؤمن أن يطيب مكسبه؛ فطيب المكسب من أسباب إجابة الدعاء, وخبثه من أسباب الحرمان؛ من موانع الدعاء الشرك بالله فإنه من يشرك بالله في قوله، أو في لفظه، أو في اعتقاده يكون ذلك من موانع إجابته.
من موانع الدعاء الاعتداء في الدعاء، فان الله تعالى قد قال: )إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ([الأعراف:55], فاحرص على ألا تعتدي في الدعاء، والاعتداء في الدعاء قد يكون في نفس السؤال، بأن تسأل الله ما لا يجوز, أو تسأل ما يمتنع ولا يكون, ومنه ما يكون في الصيغة، بأن يسأل الله تعالى على وجه لا يُظهر فيه الشفقة، بل يقول اللهم إن شئت أعطيت، وإذا ما شئت لا تعطيني، هذا نوع من الاستغناء، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: « لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، لِيَعْزِمِ المَسْأَلَةَ، فَإِنَّهُ لاَ مُكْرِهَ لَهُ »[صحيح البخاري(6339)، ومسلم(2679/9)].
هذه كلها معانٍ توجب منع إجابة الدعاء، على المؤمن أن يحرص علي اجتناب كل ما هو معطل لهذا المفتاح عن العمل, الدعاء هو المفتاح الذي ليس فيه بينك وبين الله حجاب ولا واسطة )وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ(سورة البقرة, الآية: 186.
اللهم ألهمنا رشدنا, وقنا شر أنفسنا, واجعلنا من حزبك, وأوليائك, ووفقنا بذكرك, وشكرك, وحسن عبادتك, وصلى الله وسلم على نبينا محمد.