وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هُشَيْم، أخبرنا أبو بشر، عن مجاهد؛ أن ابن عباس كان يقول: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} قال: يعني نبيكم صلى الله عليه وسلم، يقول: حالا بعد حال. وهذا لفظه .
وقال علي ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: {طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} حالا بعد حال. وكذا قال عكرمة ومُرَة الطّيِّب، ومجاهد، والحسن، والضحاك ومسروق وأبو صالح .
ويحتمل أن يكون المراد: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} حالا بعد حال. قال: هذا، يعني المراد بهذا نبيكم صلى الله عليه وسلم، فيكون مرفوعا على أن "هذا" و "نبيكم" يكونان مبتدأ وخبرا، والله أعلم. ولعل هذا قد يكون هو المتبادر إلى كثير من الرواة، كما قال أبو داود الطيالسي وغُنْدَر: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} قال: محمد صلى الله عليه وسلم. ويؤيد هذا المعنى قراءةُ عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وعامة أهل مكة والكوفة: "لَتَرْكَبَنّ" بفتح التاء والباء.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، عن إسماعيل، عن الشعبي: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} قال: لتركَبن يا محمد سماء بعد سماء. وهكذا رُوي عن ابن مسعود، ومسروق، وأبي العالية: {طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} سماء بعد سماء.
قلت: يعنون ليلة الإسراء.
وقال أبو إسحاق، والسدي عن رجل، عن ابن عباس: {طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} منزلا على منزل. وكذا رواه العوفي، عن ابن عباس مثله-وزاد: "ويقال: أمرا بعد أمر، وحالا بعد حال".
وقال السدي نفسهُ: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} أعمال من قبلكم منزلا بعد منزل.
قلت: كأنه أراد معنى الحديث الصحيح: "لتركبن سَنَنَ من كان قبلكم، حَذْو القُذَّة بالقُذَّة، حتى لو دخلوا جُحر ضَبِّ لدخلتموه". قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟" وهذا محتمل.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا صدقة، حدثنا ابن جابر، أنه سمع مكحولا يقول في قول الله: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} قال: في كل عشرين سنة، تحدثون أمرا لم تكونوا عليه.
وقال الأعمش: حدثني إبراهيم قال: قال عبد الله: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} قال: السماء تنشق ثم تحمر، ثم تكون لونا بعد لون.
وقال الثوري، عن قيس بن وهب، عن مرة، عن ابن مسعود: {طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} قال: السماء مَرةً كالدهان، ومرة تنشق.
وروى البزار من طريق جابر الجعفي، عن الشعبي، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} يا محمد، يعني حالا بعد حال. ثم قال: ورواه جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس.
وقال سعيد بن جبير:{لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} قال: قوم كانوا في الدنيا خسيس أمرهم، فارتفعوا في الآخرة، وآخرون كانوا أشرافا في الدنيا، فاتضعوا في الآخرة.
وقال عكرمة:{طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} حالا بعد حال، فطيما بعد ما كان رضيعًا، وشيخًا بعد ما كان شابا.
وقال الحسن البصري:{طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} يقول: حالا بعد حال، رخاء بعد شدة، وشدة بعد رخاء، وغنى بعد فقر، وفقرا بعد غنى، وصحة بعد سقم، وسَقَما بعد صحة.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن عبد الله بن زاهر: حدثني أبي، عن عمرو بن شَمِر، عن جابر-هو الجعفي-عن محمد بن علي، عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن ابن آدم لفي غفلة مما خُلِقَ له؛ إن الله إذا أراد خلقه قال للملك: اكتب رزقه، اكتب أجله، اكتب أثره، اكتب شقيا أو سعيدًا، ثم يرتفع ذلك الملك ويبعث الله إليه مَلَكا آخر فيحفظه حتى يدرك، ثم يرتفع ذلك الملك، ثم يوكل الله به ملكين يكتبان حسناته وسيئاته، فإذا حَضَره الموتُ ارتفع ذانك الملكان، وجاءه ملك الموت فقبض روحه، فإذا دخل قبره رَدَّ الروح في جسده، ثم ارتفع ملك الموت، وجاءه مَلَكا القبر فامتحناه، ثم يرتفعان، فإذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات، فانتشطا كتابا معقودا في عنقه، ثم حضرا معه: واحدٌ سائقا وآخر شهيدا"، ثم قال الله عز وجل: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} ق:22 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} قال: "حالا بعد حال". ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن قدامكم لأمرا عظيما لا تَقدرُونه، فاستعينوا بالله العظيم".
هذا حديث منكر، وإسناده فيه ضعفاء، ولكن معناه صحيح، والله-سبحانه وتعالى-أعلم.
ثم قال ابن جرير بعد ما حكى أقوال الناس في هذه الآية من القراء والمفسرين: والصواب من التأويل قول من قال لَتَرْكَبَنّ أنت-يا محمد-حالا بعد حال وأمرًا بعد أمر من الشَّدَائد. والمراد بذلك-وإن كان الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مُوَجَّها -جَميعَ الناس، وأنهم يلقون من شدائد يوم القيامة وأهواله أحوالا .
وقوله: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} أي: فماذا يمنعهم من الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر؟ وما لهم إذا قرأت عليهم آيات الرحمن وكلامه-وهو هذا القرآن-لا يسجدون إعظاما وإكرامًا واحتراما؟.
وقوله: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} أي: من سجيتهم التكذيب والعناد والمخالفة للحق.
{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} قال مجاهد وقتادة: يكتمون في صدورهم.
{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي: فأخبرهم-يا محمد-بأن الله عز وجل قد أعد لهم عذابا أليما.
وقوله {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} هذا استثناء منقطع، يعني لكن الذين آمنوا-أي: بقلوبهم-وعملوا الصالحات بجوارحهم {لَهُمْ أَجْرٌ} أي: في الدار الآخرة.
{غَيْرُ مَمْنُونٍ} قال ابن عباس: غير منقوص. وقال مجاهد، والضحاك: غير محسوب.
وحاصل قولهما أنه غير مقطوع، كما قال تعالى: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} هود: 108. وقال السدي: قال بعضهم: {غَيْرُ مَمْنُونٍ} غير منقوص. وقال بعضهم: {غَيْرُ مَمْنُونٍ} عليهم.
وهذا القول الآخر عن بعضهم قد أنكره غير واحد؛ فإن الله عز وجل له المنة على أهل الجنة في كل حال وآن ولحظة، وإنما دخلوها بفضله ورحمته لا بأعمالهم، فله عليهم المنة دائما سرمدًا، والحمد لله وحده أبدا؛ ولهذا يلهمون تسبيحه وتحميده كما يلهمون النَّفَس: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يونس: 10.
آخر تفسير سورة "الانشقاق" ولله الحمد.