التعليق على كتاب
نواقض الإسلام
((الدرس الثالث ))
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
قال الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله تعالى-:
اعلم أن نواقض الإسلام عشرة نواقض :
الأول من النواقض العشرة: الشرك في عبادة الله لا شريك له
قال الله ـ تعالى ـ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}[النساء: 48]، وقال ـ تعالى ـ: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72]، ومنه الذبح لغير الله , فمن يذبح كمن يذبح للجن أو للقبر .
الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم كفر إجماعا.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
هذه الرسالة سبق أن تكلمنا عن مقدمة حولها، وما يتصل بموضوعها، وفي هذا المجلس نشرع في قراءتها فنسأل الله ـ تعالى ـ أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يرزقنا الصواب والسداد في القول والعمل.
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله-: "بسم الله الرحمن الرحيم"
افتتح الرسالة بالبسملة كما في بعض النسخ، والبسملة سنة في بداءة الكتب، كما هو الشأن في كلام الله- عز وجل- وكتابه، وكما هو العمل في كتب النبي- صلى الله عليه وسلم- وعلى ذلك جرى علماء الأمة ، وغالباً ما يقتصر العلماء في ذلك على البسملة دون ذكر الحمدلة لأنها مضمّنة، لأن ذكر الله بأسمائه الحسنى- جلَّ وعلا- هو من حمده، سبحانه وبحمده.
يقول- رحمه الله-: (اعلم أن نواقض الإسلام عشرة نواقض).
(اعلم) فعل أمر، يفيد طلب العلم وهذه الكلمة يؤتى بها في مقدمة ما يُعتنى به من الكلام، وما يهتم به من الأمور، فقد جرى استعمال العرب لهذه الكلمة للفت النظر إلى مهم، والتنبيه إلى ما ينبغي الاعتناء به، وقد جاء ذلك في كلام الله تعالى فيما يتعلق بالأحكام الشرعية وفيما يتعلق بالعقائد، ففي العقائد قال الله ـ تعالى ـ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}[محمد/19]، وجاء في الأحكام في قوله:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ..}الآية [الأنفال/41]، وقد جرى على هذا السبيل أهل العلم في تنبيه المتعلمين إلى مهمات العلم، وإلى أساساته وإلى قضاياه الكبرى.
وأصل العلم هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع، فعندما يقول: اعلم، أي اعتقد جازماً بما سيأتي فإنه مطابق للواقع.
وقوله- رحمه الله-: (أن نواقض الإسلام عشرة نواقض) هذا بيان لعدد النواقض التي سيتناولها المؤلف رحمه الله.
وقوله: (نواقض الإسلام) هذا لقب على جملة من العقائد والأعمال والأقوال يحصل بها الكفر، فعندما نقول نواقض الإسلام أي مفسداته، مبطلاته، ذلك أنَّ كلمة نواقض جمع ناقضة اسم فاعل من نقض الشيء إذا أفسده أو أبطله أو هدمه أو حلَّه، ومنه قول الله ـ تعالى ـ: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}[النحل/91] ، وكذلك قوله ـ جل وعلا ـ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل/92]، والأصل في النواقض والنقض أن يكون للأعيان والأجسام، فيقول نقض البناء، ونقض الشيء بإزالته وهدمه وإبطاله وإفساده، ولكن النقض أيضاً يضاف إلى المعاني ويفيد ما يفيده معنى النقض في البنيان فإن النقض في المعاني يفيد الإبطال والإزالة والهدم، ومنه نواقض الوضوء فإنها تهدمه وتفسده وتبطله وتذهب به، فنواقض الإسلام هي مبطلاته ومفسداته وهوادمه، وما يحله وما يذهب بحكمه وهي المكفرات.
أما قوله- رحمه الله-: (الإسلام) فالإسلام لفظ يتضمن الاستسلام والسلامة، وهو دائر على معنى الإخلاص، وقيل في الإسلام إنه الاستسلام لله تعالى لخلقه وأمره.
لخلقه: أي التسليم للقدر، بالرضا به والصبر عليه.
وأمره: أي يسلم لما يأمر به - جلَّ وعلا- ويحبه.
فالإسلام دائر على الاستسلام لله ـ تعالى ـ في خلقه وأمره. وقيل الإسلام اسم يشمل كل طاعة ينقاد بها العبد لله ـ تعالى ـ من إيمان وتصديق، ومن هنا نعرف أن الإسلام يشمل عمل الجوارح وعمل القلب، فإنه لا يكون إسلامٌ إلا بعمل قلب، ولهذا يجمع الإسلام معنيين:
المعنى الأول: الانقياد والاستسلام.
المعنى الثاني: الإخلاص، فإن من معاني الإسلام الإخلاص كما تقدم. ومنه قول الله ـ تعالى ـ:{وَرَجلَّا سَلَمًا لِرَجُلٍ}[الزمر/29]، أي خالصاً له، ليس له فيه شريك. وهذا المعنى هو المعنى العام للإسلام. إذاً الإسلام بمعناه العام هو الاستسلام لله ـ تعالى ـ والخضوع له والانقياد له- جلَّ في علاه- هذا المعنى العام، ولما نقول المعنى العام يعني الذي تشترك فيه كل الشرائع والديانات، وهو معنى قول النبي- صلى الله عليه وسلم «الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ مِنْ عَلَّاتٍ، وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ، فَلَيْسَ بَيْنَنَا نَبِيٌّ»صحيح مسلم(2365)، فدينهم واحد هو دين الإسلام الذي كان عليه الناس يوم خلق الله ـ تعالى ـ البشرية.
فإن الناس كانوا أولاً على الإسلام كما جاء عن أُبيِّ بن كعب- رضي الله عنه- أنه قال: " كان الناس أمة واحدة حين عُرضوا على آدم- عليه السلام-، فطرهم الله يومئذ على الإسلام، وهو الاستسلام له والخضوع والانقياد، وقد جاء ذلك عن ابن عباس كما في المستدرك بإسناد لا بأس به أنه قال:" كان الناس أمة واحدة عشرة قرون من آدم إلى نوح، ثم لما اختلفوا بعث الله النبيين والمرسلين وأنزل كتابه فكانوا أمة واحدة" يعني في السابق، وهو المشار إليه في قول الله ـ تعالى ـ:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}[البقرة/213]، كانوا أمة واحدة أي على دين واحد وعلى ملة واحدة ، فالأمة هنا بمعنى الملة وهي ملة إبراهيم، وهذا المعنى العام هو الذي جاء به جميع المرسلين، فجميع الرسل جاءوا لرد الناس إلى الإسلام الذي هو الاستسلام لله ـ تعالى ـ والخضوع له والانقياد لأمره- جلَّ في علاه- ولهذا سمى الله ـ تعالى ـ من قبلنا من الأمم بالإسلام، يقول الله ـ تعالى ـ عن نوح:{وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[يونس/72]، وهو أول الرسل لأهل الأرض، ويقول في إبراهيم:{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ}[الحج/78]، وقال- جلَّ وعلا- عن إبراهيم:{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[البقرة/132]، وكذلك قال يوسف- عليه السلام-:{فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}[يوسف/101]، وفي قصة سبأ قالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[النمل/44]، والحواريون ماذا قالوا؟ قالوا:{آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[آل عمران/52] ، والله ـ تعالى ـ وصف صراط النبي بأنه صراط مستقيم، كما قال ـ تعالى ـ:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الفاتحة/6] وهو الطريق القويم الذي اتفقوا عليه وهو الإسلام بالمعنى العام، وهناك معنى خاص للإسلام وهو الدين الذي جاء به خاتم النبيين محمد- صلى الله عليه وسلم- هذا هو الإسلام الخاص وهو الذي فسره النبي- صلى الله عليه وسلم- في حديث جبريل لما سأله عن الإسلام قال:" أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت" صحيح مسلم (8) فهذا هو الدين الخاص، هذا هو الإسلام الخاص الذي جاء به محمد- صلى الله عليه وسلم-، والإسلام هو الذي رضيه الله ـ تعالى ـ ديناً للناس،{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران/19]،{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[المائدة/3]،{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}[آل عمران/85].
وحكم الإسلام يثبت بالشهادتين، فمن قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثبت له عقد الإسلام، ثم يضاف إليه بقيّة الشعائر التي يتحقق بها الإسلام وهي أركانه، لكن ثبوت حكم الإسلام يكون بالشهادتين،"أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنّ محمَّداً رسولُ الله" صحيح البخاري (25)، وصحيح مسلم (138). ، "أقتلتَه بعد أن قال لا إله إلا الله؟" صحيح البخاري (6872)، وصحيح مسلم (96)، فهذا هو مفتاح الإسلام.
إذاً، كل من قال لا إله إلا الله كان من المسلمين، كلُّ من شهد لله بالألوهية وللنبي- صلى الله عليه وسلم- بالرسالة؛ فإنه يثبت له عقد الإسلام، ثم يُنظر هل يثبت عليه ويأتي بحقوقه أو ينكص عنه ويخرج عن حدوده.
بحثُنا في نواقض الإسلام هو نظر فيما يخرج به الإنسان عن حكم الإسلام، ما هي الأشياء التي يخرج بها عن حكم الإسلام؟
المصنف- رحمه الله- قال: (اعلم إن نواقض الإسلام عشرة نواقض) فذكر المؤلف- رحمه الله- عشرة نواقض، وقوله: (عشرة نواقض) بناءً على أن النواقض جمع ناقض، وهذا خلاف الأفصح في اللغة فإن النواقض جمع ناقضة وليست جمع ناقض، كما ذكر ذلك جماعة من أهل اللغة، وعليه يكون الأفصح اعلم أن نواقض الإسلام عشر نواقض، لأن العدد يخالف المعدود، هذه مسألة.
المسألة الثانية في قوله- رحمه الله-:(عشرة نواقض) هل هذا على سبيل الحصر والاستيعاب لكل ما يحصل به نقض الإسلام والخروج عن حكمه؟
الجواب: من أهل العلم من قال نعم ، هذا حصر للنواقض وعليه فإن ما عدا هذه النواقض يرجع إليها، ولكن الصحيح أن هذا ليس حصراً، أن هذا العد ليس حصراً، وذلك أن العدد في كلام الله، وفي كلام رسوله ليس له مفهوم عند جمهور الأصوليين، يعني لا يفيد الحصر والقصر، إلا أن يقترن به قرينة تدل على إرادة الحصر. وعليه فقوله- رحمه الله-: (اعلم أن نواقض الإسلام عشرة نواقض) لا إشكال فيه؛ لأنه ليس حصراً ولا قصراً، وبالتالي ما لم يذكره من النواقض خرج لسبب من الأسباب، فهو قد اصطفى جملة من النواقض وذكرها.
ما الذي جعله يحد هذه النواقض بهذا العدد ويذكر هذا دون غيره؟
العلماء ذكروا في ذلك أسباباً، منهم من قال أنه ذكر ذلك بناءً على أنها أهم ما يكون من النواقض، فذكر أخطر وأهم ما يكون من نواقض الإسلام، وبالتالي يكون ما ذكره ليس حصراً، إنما ما ذكره عدٌّ لمهمات النواقض التي يحصل بها الخروج عن حكم الإسلام، وقيل إنما ذكر هذه العشرة دون غيرها: قيل: لأنه قد أجمع عليها العلماء، فذكر من النواقض ما اتفق عليه العلماء، وذكر ما وقع فيه خلاف.
وقيل: لأنها النواقض الشائعة في زمانه، والمنتشرة في وقته، فنبه عليها لدعاء الحاجة إلى التنبيه إليها.
وقيل في سبب حصر النواقض بهذا العدد، وبهذه المذكورات العشرة أنه ذكر ذلك لكون هذه النواقض تتعلق بتوحيد العبادة، بأصل الإسلام وهو التوحيد، فهذه النواقض جامعها أنها تتصل بنقض الشهادة مباشرة.
وعلى كل حال لعل ما ذكره ووجهه بعض أهل العلم يصدق على ما ذكر المؤلف رحمه الله.
والخلاصة أنَّ ما ذكره من النواقض في هذه الرسالة، ليس حصراً لكل ما يحصل به نقض الإسلام، والخروج عن حكمه، بل النواقض كثيرة.
المؤلف- رحمه الله- بدأ النواقض بذكر أخطرها وأهمها وأعظمها منافاة للتوحيد والإسلام وهو الشرك.
فقال- رحمه الله-:(الأول) أي من النواقض،(الإشراك في عبادة الله وحده لا شريك له)
(الإشراك) مأخوذ من الشرك، ومادة الشين والراء والكاف تدل على المقارنة والتسوية بين شيئين، والاختلاط بين أشياء هذا معناه في اللغة، دائر على المقارنة والتسوية والاختلاط، أما في الاصطلاح: فالشرك هو تسوية غير الله ـ تعالى ـ بالله في العبادة أو في الربوبية أو في الأسماء والصفات، هذا تعريف الشرك في الاصطلاح وهو أجمع تعريف للشرك لأنه استوعب كل أنواعه، أما ما ذكره المؤلف- رحمه الله- فهو ذكر لنوع من أنواع الشرك، وليس للشرك مطلقاً، لأنه ما قال: الناقض الأول: الشرك بالله، إنما قال: (الشرك في عبادة الله وحده لا شريك له) فما ذكره- رحمه الله- هو نوع من الشرك، وهو الشرك في العبادة، الشرك في الألوهية، فيما يجب لله ـ تعالى ـ وبقي نوعان من الشرك:
- الشرك في الربوبية
- والشرك في الأسماء والصفات.
وبه نعلم أن المؤلف لم يستوعب النواقض ففي الشرك لم يذكر الشرك كله بأنواعه، إنما ذكر نوعاً منه وهو الشرك في العبادة.
والشرك في كل صوره، في الربوبية وفي الإلهية وفي الأسماء والصفات، يصدق عليه قول الله ـ تعالى ـ:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[لقمان/13]، فالشرك ظلم عظيم؛ لأنه تسوية غير الله ـ تعالى ـ بالله- جلَّ في علاه- سبحانه وبحمده.والذي يخصنا في هذا الناقض هو الشرك في العبادة.
ما حقيقة الشرك في العبادة؟
حقيقة الشرك في العبادة: هو صرف العبادة لغير الله ـ تعالى ـ فقوله- رحمه الله- في الناقض الأول: (الشرك في عبادة الله ) يعني صرف العبادة لغير الله ـ تعالى ـ ولما يكون العبادة صرفت لغير الله فأنت تكون قد سويت غير الله بالله، فتكون قد وقعت في الشرك. لما يصلي الإنسان لغير الله، ينذر لغير الله، يتقرب بالعبادة لغير الله، فيكون قد جعل من تقرب إليه بهذه الأعمال في مرتبة مساوية لمرتبة الله الذي لا تصرف العبادة إلا له- جلَّ في علاه- فالشرك ظلم لأنه تسوية المخلوق المربوب المقهور الضعيف بالله الذي له الكمال المطلق- جلَّ في علاه- سبحانه وبحمده. فيسوي بينهما في صرف العبادة له.
والشرك في العبادة ينقسم إلى أقسام، ذكرها العلماء- رحمهم الله- فينقسم باعتبار ظهوره إلى:
-شرك ظاهر
- شرك خفي
والظاهر يكون في الأقوال وفي الأعمال، والخفي يكون في الاعتقادات، كخوف السر ومحبة غير الله كمحبة الله كما قال الله ـ تعالى ـ:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}[البقرة/165].
وينقسم باعتبار متعلقه أو محله إلى ثلاثة أقسام:
1. شرك الاعتقادات، شرك الباطن، شرك القلب.
2. شرك الأعمال والجوارح.
3. -شرك الأقوال، كدعاء غير الله، والحلف بغير الله وما أشبه ذلك.
أما باعتبار أثره، باعتبار تأثيره في الخروج عن الإسلام وعدمه، فهو ينقسم إلى قسمين:
1. -شرك أكبر.
2. -شرك أصغر.
والشرك الأكبر: هو تسوية غير الله ـ تعالى ـ بالله، صرف العبادة لغير الله ـ تعالى ـ وأما الشرك الأصغر فهو كل قول أو فعل أو اعتقاد يفضي إلى الشرك الأكبر، كل قول أو فعل أو اعتقاد يؤدي إلى الشرك الأكبر، وهذه التقسيمات للشرك موجودة في كلام العلماء وهي لتقريب العلم، ولكن التقسيمات هنا ينبغي أن يُعلم أنها باعتبارات مختلفة، فهناك تقسيم باعتبار ظهوره وخفائه، وباعتبار محله ومتعلقه، وباعتبار آثره في بقاء الإسلام وانتفائه. وكلها مندرجة في قول الله ـ تعالى ـ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[لقمان/13]، بشتى صنوفه وصوره.
وقوله- رحمه الله- : (الشرك في العبادة) قلت الشرك في العبادة معناه صرف العبادة لغير الله.
فما هي العبادة؟
العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ـ تعالى ـ ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، كالصلاة والزكاة والصوم والحج، وبر الوالدين وأداء الأمانات وصلة الأرحام، كل هذه من العبادات. فإذا صرفها لغير الله ـ تعالى ـ يكون قد وقع في الشرك، سواء كان قولاً أو اعتقاداً أو فعلاً، وسواءً كان ظاهراً أو باطناً، وسواءً كان واجباً أو مستحباً. فصرف أي عبادة لغير الله ـ تعالى ـ يكون من الشرك.
وقد استدل المصنف- رحمه الله- لكون هذا العمل وهو الشرك بالله ، استدل بكون الشرك في العبادة ناقضاً من نواقض الإسلام بدليلين، الدليل الأول: قوله- جلَّ وعلا-:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}[النساء/116]، ووجه الدلالة في الآية أن الله ـ تعالى ـ جعل الشرك مانعاً من مغفرة الذنوب، ولا يدخل أحد الجنة إلا بمغفرة ذنوبه، أي إن كان ذنبه لا يغفر فهو لابد أن يؤاخذ به، فلا يدخل الجنة أحد إلا بمغفرة ذنوبه، هذا الدليل الأول ووجه الدلالة فيه.
الدليل الثاني الذي استدلَّ به المؤلف قوله: {إِنَّهُ ُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}[المائدة/72]، وهذه الآية أصرح في الدلالة لأن الله ـ تعالى ـ قضى مخبراً أنه من وقع في الشرك فإن الجنة حرام عليه:{فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} والتحريم هو المنع والحظر، فالجنة ممنوعة محظورة عمن وقع في الشرك،{وَمَأْوَاهُ النَّارُ} أي مرجعه ومآله ومآبه ثم قال:{وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} لأن الشرك ظلم كما قال الله ـ تعالى ـ:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[لقمان/13]، فاستدل المصنف- رحمه الله- بهاتين الآيتين على هذا الحكم، وهذه أحكام أخروية في الآيتين، عدم المغفرة هذا إذا مات على الشرك، وتحريم الجنة هذا إذا مات على الشرك، فهاتان الآيتان تبينان الحكم الأخروي لمن وقع في الشرك، واستدل بالحكم الأخروي على الحكم الدنيوي، فإذا كان من أهل النار وكانت الجنة محرمة عليه دل ذلك على أنه خارج عن أهل الإسلام؛ لأن المسلمين مآلهم إلى الجنة مهما نالهم من العقوبة بسبب ذنوبهم قبل ذلك.
إذاً الاستدلال أن الآية الأولى إذا كانت الجنة لا يدخلها أحد إلا بمغفرة الله، وأن الشرك يمنع من دخول الجنة دل ذلك الذي ذكره الله من الأحكام الأخروية على الحكم الدنيوي.
ما هو الحكم الأخروي؟
تحريم الجنة وعدم مغفرة الذنوب.
ما الذي يفيد تحريم الجنة وعدم مغفرة الذنوب؟
أنه من أهل النار مخلداً فيها وإذا كان كذلك فإن هذا يدل على حكم في الدنيا وهو أنه مشرك وليس من أهل الإسلام.
ثم ذكر المصنف- رحمه الله- للشرك في العبادة مثالاً، فقال: (ومثله الذبح لغير الله) فمن يذبح للجن أو للقبر هذا مثال ليتضح به المقام، ويتضح به هذا الناقض، فالذبح لغير الله سواء كان ذلك قصداً أو كان ذلك لفظاً كله من الشرك، الذبح لغير الله قصدًا بأن يقصد بهذه الذبيحة التقرب للجن، التقرب للمقبور، التقرب للولي، التقرب للنبي، التقرب لملك، هذا بالقصد حتى وإن قال عند الذبح: بسم الله، فإن هذه البسملة لا تطيب الذبح؛ لأنه مما أهل لغير الله به قصداً وإرادة ونية، وكذلك إذا ذبح لغير الله لفظاً بأن يقصد بالذبيحة التقرب إلى الله، لكنه عند الذبح يقول: باسم المسيح، باسم الحسين، باسم عليّ، باسم الولي الصالح، باسم الجن، هذا كله خارج عن دين الإسلام، فهذا من الذبح لغير الله الداخل فيما جاء فيه الوعيد،" لعن الله من ذبح لغير الله" صحيح مسلم (5240) كما في الصحيح من حديث عليٍّ رضي الله عنه.
المقصود أن المؤلف ختم هذا الناقض بذكر مثال من أمثلته، والله تعالى أعلم.