عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني. قال: لا تغضب. فردَّد مراراً. قال: لا تغضب)) صحيح البخاري (6116). .
مقدمة:
هذا الحديث المختصر الوجيز تضمن وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لواحدٍ من أصحابه رضي الله عنهم استوصاه، كما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
معنى الحديث:
روى أبوهريرة رضي الله عنه: ((أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني)). أي: اِعْهَد إليَّ بقولٍ يكون حاضراً في ذهني كالوصيَّة، ومعلومٌ أن الوصية في الغالب تُطلق على الأمر المهمّ العظيم الذي يتعلق به صلاح حال الإنسان؛ ولذلك وصف الله تعالى أمره عباده بالتقوى، وهي عنوان سعادتهم ومفتاح فلاحهم في الدنيا والآخرة بالوصية، وذلك في قوله تعالى:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ } النساء: 131 ، فالوصية هي : ما يعهده الإنسان أو ما يُعهد في شيء مهمٍّ يتعلق بصلاح حال الإنسان في معاشه ومعاده.
فقال هذا الرجل للرسول صلى الله عليه وسلم: ((أوصني))، فأوصاه النبي صلى الله عليه وسلم بأن: ((لا تغضب))، ويكرِّر الرجل مراراً سؤاله يقول أوصني، (يلتمس أنفع من ذلك أو أبلغ أو أعم) فيعيد النبي صلى الله عليه وسلم وصيّته ويقول: ((لا تغضب)).
وهذا يدل على عظيم أثر هذه الوصية في صلاح حال الإنسان، وأنها وصية جامعة؛ ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم أنصح الخلق للخلق، وأعلم الناس بالحق، وأفصح المتكلمين بياناً، فاجتماع كل هذه المواصفات في الموصي يستدعي أنه سيذكر أهم ما يفيد المستوصي، بأوجز عبارة وأخصرها، وهذا ما جرى فإنه قال لذلك الرجل: ((لا تغضب))، أي: نهاه عن الغضب.
والغضب :هو فوران دم القلب، لمكروهٍ يستفزُّ الإنسان.
وهل نهيه صلى الله عليه وسلم في هذه الوصية عن الغضب، هو نهي عن الغضب ذاته، أي بترك الانفعال، أو هو نهي عن آثار الغضب، بترك آثار الانفعال مما يترتب عليه من قول أو عمل أو معاملة أو ما إلى ذلك؟
الحديث يشمل الأمرين:
- فهو نهيٌ عن الانفعال.
- وهو نهيٌ عن آثاره.
فإذا أفلت من الإنسان الزمام وغضب، فليتذكر أنّ ما زال بإمكانه أن يلتزم بوصيّته صلى الله عليه وسلم ((لا تغضب))، وذلك بأن يوقف آثار ذلك الغضب، بأن لا يُمضي قولاً، ولا يُنفذ فعلاً ، ولا يُنهي تصرفاً في حال الغضب، فإنَّ الغضبَ سكرةٌ تُصيب القلبَ، تغطيه وتُغلقه وتمنعه من التفكير السليم السديد؛ ولذلك فالواجب أن يعمل على إنهاء آثار هذا ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم ((لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ)) صحيح البخاري (7158)، صحيح مسلم (1717)، علماً بأنّ القاضي قد يكون غضبان لأجل الحق، أو لأجل كذب المتخاصمين أو أحدهما أو ما إلى ذلك ، مع هذا نهى عن القضاء وقت الغضب؛ لأنه لا يكون العقل مستكملاً، لا يكون العقل حاضراً بحالة سوية تهدي إلى التصرف السليم. فلذلك ينبغي للمؤمن أن يمنع نفسه من كل تصرف وقت غضبه.
فالأصل أن يمنع المسلم أسباب الغضب، ومنها:
- أن يستعيذ بالله من الشيطان، كما وجَّه النبي صلى الله عليه وسلم رجلين متخاصمين، كان أحدهما قد ((احْمَرَّ وَجْهُهُ وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ)) صحيح البخاري (3282)، وصحيح مسلم (2610)..
- أن يتوضأ ليسكّن هذه الجمرة التي في قلبه.
- أن يغير من حاله، فإذا كان في مكان خرج منه، فإن لم يتمكن الخروج قعد إن كان قائماً، أو قام إن كان قاعداً، وما أشبه ذلك من التغيرات الصورية الشكلية، التي تفضي وتؤدي إلى تغير الحال وتخفيف أثر الغضب.
فإذا كان الإنسان لا يستطيع دفع الغضب، بأنه داهمه الغضب في حالٍ لا يتمكن معها من ردِّه، فينبغي له أن يوقف آثاره، وهذه هي المرحلة الثانية بأن:
- لا يتكلَّم.
- لا يتصرَّف.
- لا يُعامل.
- لا يمُضي شيئاً وقت غضبه. لا فيما يتعلق بحقِّ الخلق، ولا فيما يتعلق بحق الله.
لكن هناك غضبٌ محمود، وهو الغضبُ لله عز وجل؛ وهذا يجب أن يكون إنفاذه وفق الشريعة.
ولذلك فإنّ أحوال الناس في الغضب، قسمها بعض أهل العلم إلى أربعة أقسام:
- من يغضب لله تعالى فقط، وهذا في أعلى المراتب، وهو غضبُ الرسول صلى الله عليه وسلم، فيما وصفته عائشة رضي الله عنها قالت: ((مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ، فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)) صحيح مسلم (2328).
- الحال الثانية أن يغضب لله ولنفسه، ففي هذه الحال لا يكون الأجر وافياً، بل منقوصاً بقدر ما يكون من غضبه لنفسه، لأن حظّ النفس لا أجر فيه.
- الحال الثالثة أن يغضب لنفسه ولا يغضب لله، وهذا –والعياذ بالله- لم يُقم لله حقاً.
- الحال الرابعة، وهي ألا يغضب لله ولا يغضب لنفسه، فهذا في أردى المنازل وأنزلها.
ومعنى الغضب لله: أن يجد ألماً لما يُشاهده من معصية الله، ومخالفة أمره وانتهاك حدوده؛ أما فيما يتعلق بآثار الغضب، فلا يجوز أن يخرج عن حدود الشريعة، بل يجب أن يكون غضبه لله، وفق ما أمر الله، فيكره ما يكرهه الله، ويغضب لمحارم الله وحدود الله؛ لكن لا يتصرَّف فيها بما تمليه نفسه وبما تمليه رغبته، بل ينبغي أن يراعي في ذلك حقَّ الله تعالى.
فوائد هذا الحديث:
-منها: أنّ هذا الحديث (دليل ظاهر في عِظم مفسدة الغضب وما ينشأ منه، لأَنه يُخرج الإِنسان عن اعتداله فيتكلم بالباطل ، ويفعل المذموم والقبيح).
-منها: أنّ هذه الوصية عنوان حياة هنيئة، في معاملتك للخلق، وفي معاملتك لربك، وفي سكون نفسك، فإنَّ من أحكم قياد نفسه، في حال الغضب والفرح والشدة واللين، وُفّق إلى مفاتح الخير في الدنيا والآخرة، وقال عمر بن عبد العزيز: (قد أَفْلح مَنْ عُصِم من الهوى والغضب والطمع).
-ومنها: أنّ (المشروع للإنسان إذا غضب: أن يحبس نفسه، وأن يصبر، وأن يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وأن يتوضأ فإن الوضوء يطفئ الغضب، وإن كان قائماً فليقعد، وإن كان قاعداً فليضطجع، وإن خاف خرج من المكان الذي هو فيه حتى لا ينفذ غضبه فيندم بعد ذلك)