التعليق على كتاب
نواقض الإسلام
((الدرس الرابع ))
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولشيخنا وللمسلمين أجمعين.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله تعالى- في كتابه نواقض الإسلام:
(الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم كفر إجماعا).
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فهذا ثاني النواقض، نواقض الإسلام التي ذكرها المصنف- رحمه الله- في هذه الرسالة الموجزة.
يقول- رحمه الله-:
(الثاني:) أي من نواقض الإسلام التي جمعها وعدَّها في هذه الرسالة: (من جعل بينه وبين الله وسائط).
(من) اسم موصول بمعنى الذي.
(وجعل بينه وبين الله وسائط) أي: صيّر بين الله وبين الله ـ تعالى ـ واسطةً، اتَّخذ بينه وبين الله ـ تعالى ـ واسطة، (جعل) هنا بمعنى التصيير والاتخاذ.
وقوله- رحمه الله-:(وسائط) جمع واسطة، هكذا قال بعض أهل العلم، وقال آخرون وسائط جمع وسيطة، وفي كل الأحوال المقصود بالوسائط هم من يكونوا بين شيئين، وسيلة وسبباً، فالمقصود بالوسائط هنا هم الوسائل والأسباب التي تُجعل بين العباد وبين الله تعالى.
فقوله-رحمه الله-: (جعل بينه وبين الله وسائط) أي جعل بينه وبين الله ـ تعالى ـ وسيلة وسبباً، هذه الوسيلة وذلك السبب جعلهم بينه وبين الله- سبحانه وبحمده- والوسيطة أو الوسيلة كل ما يتوسل به الإنسان إلى الشيء، أي كل ما يتوصل به الإنسان إلى ما يريد، فكل ما يتوسل به الإنسان إلى مراده أو مطلوبه فهو واسطة ووسيطة ووسيلة.
والوسائط نوعان:
النوع الأول: نوع لا خلاف بين العلماء في إثباته، بل لا يتم إيمان أحدٍ إلا بالإقرار به وإثباته، وهو مَن جعلهم الله تعالى واسطة بينه وبين خلقه، وهم الرسل، كما قال الله ـ تعالى ـ في محكم كتابه:{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ}[الحج/75]، فقد جعل الله ـ تعالى ـ بينه وبين الخلق رسلاً وهم وسائط، يبلغون الناس رسالات الله ـ تعالى ـ كما قال- جلَّ في علاه-:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِين} [النساء/165]، هؤلاء واسطة بين الله ـ تعالى ـ وبين الخلق يبلغون رسالات الله، ويبيِّنون ما يجب على العباد، يعرفون بالله ويدلون عليه، والإيمان بهذا النوع من الوسائط ركن وأصل من أصول الإيمان لا يتم الإيمان إلا به، وليس هذا مراد المصنف- رحمه الله- لذلك بينَّ المؤلف المراد بالوسائط المذمومة التي إثباتها كفر، فقال: (يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم) فهذا بيان للواسطة التي أراد.
وهي النوع الثاني من الوسائط، فالإيمان بهذا النوع من الوسائط وهو أن يجعل بينه وبين الله واسطة ووسيلة وسبباً لتحصيل المطالب وإدراك المراغب، والحصول على المطالب، كل ذلك من الشرك والكفر بالله- عز وجل- فمن جعل بينه وبين الله واسطة في قضاء الحوائج، في إغاثة اللهفات، في إجابة الدعوات، في قضاء الحاجات، كان ذلك من الشرك وهذا لا خلاف فيه بين الأئمة في أنه كفر بالله العظيم، كما سيأتي تقريره وبيانه.
الخلاصة: الآن عرفنا معنى الوسائط، وأن الوسائط المراد بها الوسائل التي بين الله تعالى وبين العباد، والوسائل التي بين الله تعالى وبين العباد نوعان:
1- نوع الإيمان به أصل من أصول الإيمان وهم الرسل.
2- نوع إقراره وإثباته كفر مخرج عن الملة، وهم من يطلب منهم قضاء الحاجات كما ذكر المصنف- رحمه الله- يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم. فهذا النوع من الوسائط هو المقصود بهذا الناقض أو هذا هو المقصود بهذا الكلام، وهو كفر مخرج عن الملة.
لقائل أن يقول: لماذا ذكر المصنف- رحمه الله- هذا في ناقض مستقل رغم أنه مندرج في الناقض الأول؟ فالناقض الأول ما هو؟ الشرك في عبادة الله، والوسائل والوسائط التي يتحدث عنها في الناقض الثاني هي من وسائل الشرك بالله، بل هي شرك بالله- عز وجل-إما وسيلة وإما شرك بالله- عز وجل- فلماذا فصله في ناقض مستقل؟
الجواب على هذا: أن المؤلف- رحمه الله- إنما أفرد هذا بناقض مستقل لخطورته، ولعظيم التلبيس الحاصل به، فجعلوا الوسائط بين العباد وربهم هو بوابة الشرك الكبرى، ولذلك ذكره استقلالاً رغم أنه مندرجٌ في الناقض الأول وهو الشرك في عبادة الله ـ تعالى ـ فذكره هنا لعظيم خطره وكبير الضلال الحاصل به، إذ هو أصل الشرك، وهو قاعدته التي يبنى عليها الشرك.
يقول ابن القيم- رحمه الله- في الشفاعة وهي من ثمراته ومما يتصل بهذا الناقض: "هي أصل الشرك كله، وقاعدته التي عليها بناؤه ، وأخبيته التي يرجع إليها" فالشفاعة والوسائل والوسائط والاعتقاد فيها هي بوابة الشرك الكبرى التي يدخل من خلالها كثير من الناس في الشرك، ولذلك خصَّها المؤلف- رحمه الله- بذكر مستقل، وهي حجة المشركين في شركهم، فإن كثيراً ممن يقع في الشرك لا يقول:أنا أسوي هؤلاء بالله- عز وجل- وإن كان في قلبه قد يعظِّمهم أكثر من تعظيم الله- عز وجل- لكنه إذا نُوقش وقيل له: كيف تدعو مخلوقاً مقبوراً؟ كيف تستغيث بميت؟ هؤلاء الرافضة الذين يرددون يا حسين، يا حسين، يا حسين مثلاً، في كل ملمة ونازلة، عند الأفراح والأتراح، أليس هذا استغاثة به ودعاء له وتعظيماً له كتعظيم الله عز وجل؟
يقولون: نحن لا نعتقد أنه في منزلة الله، لكن هو وغيره ممن يدعى من دون الله سواء الحسين ذكرنا مثال، وغيره ممن يدعى من دون الله يدَّعون أنه وسيلة، واسطة بينه وبين الله. ولهذا المشركون في الدنيا كلها قديماً وحديثاً يخرجون الشرك في قالب التعظيم لله – عز وجل- وأنه إجلالٌ له- سبحانه وبحمده- وأنهم إنما يتقربون إليه بالوسائط ؛ لأنهم لا يرقون إلى منزلة سؤاله، فيخرجون الشرك بالله والكفر به في ثوب التعظيم له، فيقول الله أجلَّ من أن ندعوه من دون واسطة، بل لابد لنا من وسائط حتى ندعوَ الله- جلَّ في علاه- وهو رب العالمين الذي قال لعباده:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة/186]، فأسقط الله كل واسطة، وانظر إلى هذه الآية الكريمة حيث إن الله أسقط الواسطة في التبليغ، فأخبر عن السؤال وباشر الجواب، دون أن يقول لهم: قل، في العادة يأتي بيان الجواب بالنص عليه في الأسئلة،{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ }[النساء/176]، لكن هنا ماذا قال؟{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} هل قال: فقل؟ إنما قال:{فَإِنِّي قَرِيبٌ} أسقط الواسطة حتى في التبليغ لبيان القرب التام وعدم وجود واسطة بين الله- عز وجل- وبين خلقه. فمن أراد أن يسأل الله فلا يحتاج إلى واسطة أو وسيلة أو سبب.
والمشركون الأوائل لما ذمَّهم الله ـ تعالى ـ على شركهم وعاب عليهم الرسل والمؤمنون ما كانوا عليه من الشرك اعتذروا بأنهم لم يعبدوهم من دون الله، ما اتخذوا هذه الأصنام والآلهة معبودات من دون الله، بل قالوا: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}[الزمر/3]، فهم يتذرعون بتعظيم الله، للإشراك به وهذا من عدم قدرهم لله حق قدره- جلَّ في علاه- فإنَّ هذا تسويةٌ بين الله وبين الخلق.
يقولون على وجه القياس: إذا أردت حاجة من عظيم أليس تتوسل إليه بوسيلة وواسطة للوصول إلى مرادك؟
وهذا من شركهم بالله- عز وجل- وسوء ظنهم به، وعدم قدرهم له، فلو قدروا الله حق قدره ما قاسوا هذا القياس، لأنه شتان بين الخالق والمخلوق وهذا القياس -قياس سؤال الله بالوسائط على سؤال المخلوقين بالوسائط- باطل من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن إثبات الوسائط بين الملوك وبين الناس إنما هي لنقصهم والله- جلَّ في علاه- لا نقص فيه بوجه من الوجوه- سبحانه وبحمده-أما المخلوق فهو ناقص، ذاك أن المخلوق تخفى عليه أحوال الناس، ولا يحيط بما يريدون فيحتاج إلى أن يذكر وينبَّه إلى حاجة فلان وفلان، أما الله فهو السميع البصير، وهو العليم بكل شيء- جلَّ في علاه- الذي يعلم السرَّ وأخفى، يعلم ضجيج الأصوات واختلاف اللغات على تفنن الحاجات، فليس أحدٌ يخفى على الله- جلَّ في علاه- {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الملك/14] سبحانه وبحمده، وبالتالي بطلَ هذا الوجه، فهذا فارق بطلَ هذا القول تسوية سؤال الله بسؤال المخلوقين وأنه: بما أننا نحتاج إلى واسطة في قضاء حوائجنا عند الملوك والعظماء والكبراء فنحن بحاجة إلى واسطة بيننا وبين الله، قيل لهم: هذا قياس مع الفارق فالله ـ تعالى ـ عليم بأحوال خلقه أما هؤلاء فقد يجهلون ولا يحيطون علماً بما عليه الناس، فلذلك يحتاج إلى الوسائط معهم.
الوجه الثاني: من أوجه إبطال هذا القياس أن الملوك وغيرهم يعجزون عن تدبير أمر الرعية إلا بأعوان، فالتعاون به قوام الملك وبه قوام الناس، كبراء وصغراء، أشراف ووضعاء، كلهم لا يقومون إلا بالتعاون، فلذلك احتاج هؤلاء إلى من يعينهم، أما الله ـ تعالى ـ فلا حاجة له إلى أحد، وهو الغني عن كل معين، قال ـ تعالى ـ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ* وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}[سبأ/22-23] جلَّ في علاه، فالله- سبحانه وبحمده- غني عن العباد والخلق وما يكون من عونهم بخلاف المخلوقين، {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا}[الإسراء/111]، فكل ما في الوجود من الأسباب فإنه خلق الله- جلَّ وعلا- هو الغني عن كل ما سواه، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[فاطر/15].
الوجه الثالث: لإبطال هذا القياس: أن إرادة الإحسان عند الناس ضعيفة في الجملة، وقد لا تكون حاضرة إلا بمذكر ووسيط، فإن كثيراً من أصحاب الأموال والرياسات ليس له همة ولا نشاط في قضاء حوائج الناس، فيحتاج إلى من يذكره وينبهه إلى حوائج المحتاجين حتى يدفع، والله- سبحانه وبحمده- ابتدأ الخلق بالإحسان والعطاء وجزيل المن، فلا حاجة إلى من يذكره- جلَّ في علاه- بعباده، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم/64]، سبحانه وبحمده، يبتدئ بالإحسان قبل الطلب، فكيف تجعل وسائط بينه وبين خلقه- سبحانه وبحمده-؟
يتبين من هذا بطلان حجة الذين قالوا إنما اتخذنا هؤلاء وسائط، فإنما تكون الوسائط عند من يحتاج إلى تذكير، والله ـ تعالى ـ غني عن تذكير العباد، ولهذا لا يجوز أن يُجعل بين الخلق وبين الله ـ تعالى ـ وسائط في أمر العبادة، ولا في أمر السؤال والطلب؛ بل هو الغني الأغنى جلَّ في علاه.
المصنف- رحمه الله- ذكر هنا بيان الوسائط فقال:(يدعوهم)
والدعاء هنا يشمل نوعي الدعاء:
1. دعاء العبادة
2. دعاء المسألة
دعاء العبادة بأن يصلي لهم، أو يتصدق لهم، أو ينذر، أو يحج، أو يذبح، أو يصرف أي نوع من أنواع العبادة لهؤلاء الوسائط حتى يشفعوا له عند رب العالمين.
والنوع الثاني من الوسائط: هو أن يدعوهم في قضاء الحاجات وهذا سؤال الطلب، دعاء الطلب.فقوله: (يدعوهم) يشمل هذين النوعين من الدعاء، دعاء العبادة ودعاء المسألة والفرق بينهما:
- دعاء العبادة هو : أن يتقرب إليهم بالطاعات والعبادات.
- دعاء الطلب هو: أن ينزل بهم حاجته ويسألهم قضاء الحاجات وإغاثة اللهفات. هذا ما يتصل بقوله- رحمه الله-:(يدعوهم)
نستكمل إن شاء الله في الدرس القادم بإذن الله.