فهذه الأوقات الثلاثة منها وقتان وهما أول النهار وآخره يجتمع في كل من هذين الوقتين عمل واجب وعمل تطوع، فأما العمل الواجب فهو صلاة الصبح وصلاة العصر وهما أفضل الصلوات الخمس، وهما البردان اللذان من حافظ عليهما دخل الجنة، وقد قيل في كل منهما أنها الصلاة الوسطى.
وأما عمل التطوع فهو ذكر الله بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس.
وقد ورد في فضله نصوص كثيرة وكذلك وردت النصوص الكثيرة فى أذكار الصباح والمساء، وفي فضل من ذَكَر اللهَ حين يصبح وحين يمسي.
وقد رُوي من حديث ابن عمر مرفوعًا: "ابن آدم اذكرني ساعةً من أول النهار وساعةً من آخره أغفر لك ما بين ذلك إلاَّ الكبائر أو تتوب منها" .
وكان السَّلف لآخِرِ النهار أشد تعظيمًا من أوَّله.
قَالَ ابن المبارك: بلغنا أنّه من ختم نهاره بذكر الله كُتب نهاره كله ذكرًا.
وقال أبو الجَلْد: بلغنا أنَّ الله تعالى ينزل مساءً كل يوم إِلَى السماء الدُّنْيَا ينظر إِلَى أعمال بني آدم.
ورأى بعض السَّلف أبا جعفر القارئ في المنام فَقَالَ له: قل لأبي حازم - يعني الأعرج الزاهد الكَيِّس إنَّ الله وملائكته يتراؤن مجلسك بالعشيات.
والظاهر أن أبا حازم كان يقصُّ عَلَى النّاس آخر النهار.
وقد جاء في الحديث: "إنَّ الذِّكر بعد الصبح (أحبُّ) من أربع رقابٍ، وبعد العصر أَحَبُّ من ثمان رقابٍ" .
وأيضاً فيوم الجمعة آخره أفضل من أوله لِمَا يُرجى في آخره من ساعة الإجابة.
ويوم عرفة آخره أفضل من أوله؛ لأنّه وقت الوقوف، وكذلك آخر الليل أفضل من أوله.
كذا قَالَ السَّلف، واستدلوا بحديث النزول الإلهي .
وهذا كله مما يُرجح به قول من قَالَ إن صلاة العصر هي الوسطى.
وأما الوقت الثالث فهو الدُّلجة.
والإِدلاج: سير آخر الليل، والمراد به ها هنا العمل في آخر الليل وهو وقت الاستغفار، كما قَالَ تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} آل عمران: 17 ، وقال تعالى: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} الذاريات: 18 .
وهو آخر أوقات النزول الإلهي المتضمن لاستعراض حوائج السائلين، واستغفار المذنبين، وتوبة التائبين، وسط الليل للمحبين للخلوة بحبيبهم، وآخر الليل للمذنبين يستغفرون (من ذنوبهم) .
من عجز عن مشاركة المحبين في الجري معهم في ذلك المضمار فلا أقلَّ من مشاركة المذنبين في الاعتذار.
ورد في بعض الآثار: أن العرش يهتز من السَّحَر.
قَالَ طاووس: ما كنت أظن أن أحدًا ينام في السحر.
وفي الحديث الَّذِي خرَّجه الترمذي : "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل".
سير الدلجة آخر الليل يقطع به سفر الدُّنْيَا.
ولهذا في الحديث الَّذِي خرّجه مسلم : "إذا سافرتم فعليكم بالدُّلجة فإنَّ
الأرض تطوى بالليل".
قَالَ بعض الفضلاء:
اصبر عَلَى مضض الإِدلاج في السَّحَر ... وفي الرَّواح عَلَى الطاعات والبُكَرِ
لا تَضجَرَنَّ ولا يُعجزكَ مطلبها ... فالهمُّ يتلَف بين اليأس والضجَرِ
إني رأيتُ وفي الأيام تجربةٌ ... للصبر عاقبةٌ محمودة الأثرِ
وقل مَنْ جَدَّ وفي أَمْرٍ تَطلبَّه ... واستَصْحَبَ الصَّبر إلاَّ فازَ بالظفرِ
وقد رُوي أن الأشتر دخل عَلَى علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد هدأة من الليل وهو قائم يصلّي.
فَقَالَ: يا أمير المؤمنين صوم بالنهار وسهر بالليل وتعب فيما بين ذلك!
فلما فرغ من صلاته قَالَ: سفر الآخرة طويلٌ يحتاج إِلَى قطعه بسير الليل وهو الإدلاج.
كانت امرأةٍ حبيب بن محمد الفارسي توقظه بالليل وتقول: قم يا حبيب؛ فإنَّ الطريق بعيدٌ وزادنا قليلٌ، وقوافل الصالحين قد سارت من بين أيدينا ونحن قد بقينا.
يا نائمًا بالليل كم ترقد ... قُم يا حبيبي قد دنا الموعدُ
وخُذ من الليل أوقاته ... وردًا إذا ما هَجَعَ الرُّقَّدُ
من نام حتى ينقضي ليله ... لم يبلغ المنزل لو يجهدُ
معنى القصد في السير
وقول - صلى الله عليه وسلم -: "القصد القصد تبلغوا" حثٌّ عَلَى الاقتصاد فى العبادة والتوسط فيها بين الغلو والتقصير، ولذلك كرره مرةٌ بعد مرةٍ.
وفي "مسند البزَّار" من حديث حذيفة رضي الله عنه مرفوعًا: "ما أحسن القصد في الفقر، وما أحسن القصد في الغني، وما أحسن القصد في العبادة".
وكان لمُطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير ابنٌ قد اجتهد في العبادة، فَقَالَ له أبوه: خير الأمور أوسطها، الحسنة بين السيئتين، وشرُّ السير الحقحقة. قَالَ أبو عبيد: يعني أن الغلوَّ في العبادة سيئة، والتقصير سيئة والاقتصاد بينهما حسنةٌ.
قَالَ: والحقحقة أن يلحَّ في شدة السير حتى تقوم عليه راحلته وتعطب فيبقى منقطعًا به سفره، انتهى.
ويشهد لهذا المعنى الحديث المروي عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا:
"إنَّ هذا الدينَ متينٌ فأوغلْ فيه برفقٍ ولا تبغض إِلَى نفسك عبادة الله، فإنَّ المنبتَّ لا سفرًا قطع ولا ظهرًا أبقى، فاعمل عمل امرئ يظن أنّه لن يموت إلاَّ هَرِمًا، واحذر حذر امرئ (يخشى) أن يموت غدًا". أخرجه حميد بن زنجويه وغيره.
وفي تكرير أمره بالقصد إشارة (إِلَى) المداومة عليه، فإن شدة السير والاجتهاد مظنةُ السامة والانقطاع، والقصد أقرب إِلَى الدوام، ولهذا جعل عاقبةَ القصد البلوغَ كما قَالَ: "من أدلج بلغ المنزل".
فالمؤمن في الدنيا يسيرُ إِلَى ربه حتى يبلغَ إِلَيْهِ، كما قَالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} الانشقاق: 6 ، وقال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} الحجر: 99 .
قَالَ الحسن: يا قوم، المداومةَ المداومةَ فإنَّ الله يجعل لعمل المؤمن أجلاً دون الموت، ثم تلا هذه الآية.
وقال أيضاً: نفوسكم مطاياكم فأصلحوا مطاياكم تُبلِّغكم إِلَى ربكم عز وجل.
والمرادُ بصلاح المطايا: الرفقُ بها، وتعاهُدها بما يصلحها من قوتها والرفق بها في سيرها، فإذا أحسَّ منها بتوقفٍ في السير تعاهدها تارةً بالتشويق، وتارةً بالتخويف حتى تسير.
قَالَ بعض السَّلف: الرجاء قائدٌ والخوف سائقٌ، والنفس بينهما كالدابة الحَرُون .
فمتى فتر قائدها وقصَّر سائقها وقفت فتحتاج إِلَى الرفق بها والحدو لها حتى يطيب لها السير.
كما قَالَ حادي الإِبل بالبوادي:
بَشَّرها دليلها وقال لها ... غدًا ترَيْن الطلح والجبالا
ولما كان الخوف كالسَّوط فمتى ألحَّ بالضرب بالسوط عَلَى الدابة تلفت، فلا بد لها الضرب من حادي الرجاء، يطيِّب لها السير بحدائه حتى تقطع.
قَالَ أبو يزيد: ما زلت (أقودُ) نفسي إِلَى الله وهي تبكي حتى سُقتُها وهي تضحك.
كما قيل:
إذا شكتْ من كَلالِ السير أو عدها ... روحَ القدومِ فتحيا عندَ ميعادِ
سلوك صراط الله عز وجل
قَالَ خليدٌ العَصَريُّ: إنَّ كلَّ حبيبٍ يحب أنْ يلقى حبيبه، فأحبوا ربكم وسيروا إِلَيْه سيرًا جميلاً لا مصعدًا ولا مميلا.