فغاية السير يوصل المؤمن إِلَى ربه، ومن لا يعرف الطريق إِلَى ربه لم يسلك إِلَيْه فيه، فهو والبهيمة سواء.
قَالَ ذو النون: السفلة من لا يعرف الطريق إلى الله ولا يتعرَّفه.
والطريقُ إِلَى اللهِ هو سلوكُ صراطه المستقيمِ، الَّذِي بعث الله به (رسوله) وأنزل به (كتابه) ، وأمر الخلق كلهم بسلوكه والسير فيه.
قَالَ ابن مسعود رضي الله عنه: الصراط المستقيم، تركنا محمد - صلى الله عليه وسلم - في أدناه، وطرفه الجنة، وعن يمينه جَوَادُّ، وعن يساره جَوَادُّ، وثم رجال يدعون من مرَّ بهم، فمن أخذ في تلك الجَوَادِّ انتهت به إلى النار، ومن أخذ عَلَى الصراط انتهى به إِلَى الجنة. ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ} الأنعام: 153 خرّجه ابن جرير وغيره .
فالطريقُ الموصلُ إلى الله واحدٌ، وهو صراطُهُ المستقيمُ، وبقيَّةُ السُّبلِ كلِّها سبل الشيطان، مَنْ سلكها قطعت به عن الله، وأوصلته إِلَى دار سَخَطه وغضبه وعقابه.
الأعمال بالخواتيم
فربما سلك الإنسان في أول أمره عَلَى الصراط المستقيم، ثم ينحرف عنه في آخر عُمُره فيسلك بعض سبل الشيطان فينقطع عن الله فيهلك، "إنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكونَ بينه وبينها إلاَّ ذراعٌ أو باعٌ، فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار" .
وربما سلك الرجل أولاً بعض سبل الشيطان ثم تدركه السعادة فيسلك الصراط المستقيم في آخر عمره فيصل به إِلَى الله.
والشأن كل الشأن في الاستقامة عَلَى الصراط المستقيم من أول السير إِلَى آخره، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} الجمعة: 4 .
{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يونس: 25 .
ما أكثر من يرجع أثناء الطريق أو ينقطع، فإنَّ القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} إبراهيم: 27 .
خَلِيليَّ قُطَّاع (الفيافي إِلَى الحما) ... كثير وأما الواصلون قليل
فضل تقرب العبد إِلَى الله عز وجل
وفي الحديث الصحيح الإلهي يقول الله عز وجل: "من تقرّب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة" .
وفي "المسند" : "والله أعلى وأجل، والله أعلى وأجل، والله أعلى وأجل".
وفيه أيضاً ، يقول الله: "يابن آدم قم إِلَيَّ أمشِ إليك، وامش إليّ أهرول إليك".
مَنْ أَقْبَلَ إلينا تَلَقَّيناه من بعيد ... ومن أراد مرادنا أردنا ما يُريد
ومن سَأَلنا أعطيناه فوق المزيد ... ومن عمل بقوَّتنا ألنَّا له الحديد
يا هذا لو أنك قصدت باب والي الشُّرطة، لَمَا أقبل إليك ولا تلقَّاك، وربما حجبك عن الوصول إِلَيْه وأقصاك، وملك الملوك يقول: "من أتاني يمشي أتيته (هرولة) ".
وأنت عنه معرضٌ وعلى غيره مقبلٌ، لقد غُبنت أفحشَ الغبن وخسرت أكبر الخسران.
واللهِ ما جئتكم زائرًا ... إلاَّ وجدتُ الأرض تُطوى لي
ولا ثَنيت العزم عن بابكم ... إلاَّ تعثرتُ بأذيالي
يا معشر المريدين قد وضح الطريق فما هذا التأخر عن السلوك والتعويق؟
لقد وضح الطريق إليك حقًّا ... فما خَلْقٌ أرادكَ يستدل
{أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} إبراهيم: 10 .
{يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} الأحقاف: 31 .
يا نفسُ ويحك قد أتاكِ هداكِ ... أجيبي فهذا داعي الله قد ناداك
كم قد دعيتِ إِلَى الرشاد فتُعْرضي ... وأجبتِ داعي الغيِّ حين دعاكِ
أنواع الوصول إِلَى الله تعالى
الوصول إِلَى الله نوعان: أحدهما في الدُّنْيَا، والثاني في الآخرة.
فأما الوصول الدنيوي فالمراد به:
أن القلوبَ تصل إِلَى معرفته، فإذا عرفته أحبته، وأنِست به، فوجدته منها قريبًا ولدعائها مجيبًا.
كما في بعض الآثار: "ابن آدم اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدتَ كلَّ شيء، وإن فِتُّكَ فاتك كل شيء.
برزَ المرسوم منّا ... لا نُخيب قَط ظنا
فاطلبونا تجدونا ... في قلوب قد تسعنا
صابرات راضيات ... بالذي قد يصدر عنّا
كان ذو النون يخرج بالليل فيردد نظره في السماء ويردد هذه الأبيات حتى يصبح وهي هذه:
اطلبوا لأنفسكم ... مثل ما وجدت أنا
قد وجدتُ سكنًا ... ليس في هواه عَنَا
إنْ بعدتُ قربني ... أو قربت منه دنا
وأما الوصولُ الأخرويُّ فالدخولُ إِلَى الجنة التي هي دارُ كرامةِ الله لأوليائه.
ولكنهم في درجاتها متفاوتون في القرب بحسب تفاوت قلوبهم في الدُّنْيَا في القرب والمشاهد بحسب تفاوت قلوبهم في الدُّنْيَا في القرب والمشاهدة.
قَالَ تعالى: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} الواقعة: 7 - 11 .
كان الشبلي يهيج في داره وينشد يقول:
عَلَى بُعدكم لا صبر ... عَلَى مَنْ عادته القربُ
ولا يقوى عَلَى حجبك ... من تيَّمه الحبُّ
فإنْ لم تَرَكَ العين ... فقد (أبصركَ) القلبُ