التعليق على كتاب
نواقض الإسلام
(( الدرس الخامس ))
الحمد لله ربِّ العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.. أما بعد،
تقدم لنا الكلام عن الناقض الثاني، وهو قول المصنف -رحمه الله- في نواقض الإسلام:
(الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم يسألهم ويتوكل عليهم كفر إجماعا)، وتكلمنا عن معنى ماذكره المؤلف -رحمه الله-في قوله: (جعل بينه وبين الله وسائط).
وهذه الوسائط نوعان:
النوع الأول: وسائط جاءت الشريعة بها، وهي من تمام الإيمان، وهو من جعله الله ـ تعالى ـ بينه وبين الناس رسولاً مبشراً ونذيراً.
النوع الثاني: الذي يعنيه المؤلف أن يجعل الناس بينهم وبين الله ـ عز وجل ـ من يدعونه ومن يتقربون إليه ويستشفعون به لإدراك مقاصدهم وتحصيل مطالبهم فهذا هو الذي ذكره المصنف -رحمه الله-هنا وجعله من نواقض الإسلام .
وهذا الأمر متفق عليه لا خلاف فيه بين العلماء في أن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم (كفر إجماعاً)؛ لأن هذا الكفر هو كفر عابدي الأصنام الذين قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ} الزمر (3) وقد شهد الله ـ تعالى ـ على هؤلاء بالكفر، حيث قال في قصِّ خبره: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ} إنَّ الله يحكم فيما فيه يختلفون ثم قال: {إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} الزمر (3) فحكم الله ـ تعالى ـ عليهم بالكذب والكفر، وأتى بالكفر بصيغة المبالغة تقريرا لهذا المعنى وأنه كفر بَيّن عظيم جليٌّ واضح لا يلتبس ولا يشتبه، فهذا حال من اتخذ من دون الله أولياء يزعم أنهم يقربونه إلى الله ـ تعالى ـ ويدخل بهم على الله جل في علاه.
وقول المصنف -رحمه الله-في هذا الناقض يدعوهم، ذكرت أن الدعاء هنا يشمل نوعي الدعاء، دعاء العبادة ودعاء المسألة.
دعاء العبادة: كالتقرب إليهم بأنواع القربات، منها الصلاة ومحبة القلب والخوف والنذر وما أشبه ذلك مما لا يكون إلا لله عز وجل.
ودعاء المسألة: بأن ينزل بهم حاجاتهم ويسألهم قضاء مأمولاته ويستغيث بهم من دون الله وما أشبه ذلك من الأدعية والمسائل التي لا تطلب إلا من الله جل وعلا .
والمؤلف ذكر صورة من المسائل التي يُسألها هؤلاء على وجه التمثيل وليس الحصر، فقوله يسألهم الشفاعة هذا نوع من الدعاء، فقوله (يسألهم الشفاعة) أي يطلب الشفاعة، والشفاعة هنا المقصود بها الوساطة فيطلب منهم التوسط عند الله ـ عز وجل ـ وهذا هو ما كان يفعله المشركون الأوائل حيث كانوا يطلبون من آلهتهم الشفاعة: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ} وقد كذّبَ الله ـ تعالى ـ هؤلاء في طلبهم وردَّ دعواهم بأن الشفاعة له وحده لا شريك له، وأن لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فلا تُسئل الشفاعة من غيره، الشافع من يكرمه الله ـ تعالى ـ بالشفاعة يوم القيامة، ليس أن يجعل هذه الشفاعة لمن يحب ولمن يشاء وفق هواه واختياره، إنما هي منة من الله ومنحة وفق شروط وأوصاف لاتكون إلا بها، قال ـ تعالى ـ: {قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} الزمر (44) ، وقال ـ تعالى ـ: {من ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} البقرة (255) وقال ـ تعالى ـ:{كَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ} النجم (26) فاشترط الله تعالى شرطين:
-شرط الإذن للشافع.
-والرضى عن المشفوع له.
وهذا لا يكون إلا لمن ـ رضي الله عنه ـ بتحقيق التوحيد؛ لذلك هي منحة ومنَّة لأهل التوحيد طائعهم ومقصرهم، وليس للمشركين فيها شأن: {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} الشعراء(97،98) وقد قال الله ـ تعالى ـ:{فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ *وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} الشعراء(100،101)
فليس لهم من أحد يشفع لهم يوم القيامة وينجيهم مما هم فيه من بلاء وشرٍّ.
فقوله رحمه الله: يسألهم الشفاعة أي يطلب منهم التوسط مباشرة وهذ شرك بالاتفاق لا خلاف فيه، لأنهم لا يملكون ولا يُسأل غير الله ـ جل وعلا ـ ولذلك حكى العلماء بالإجماع أن يسألهم الشفاعة شرك يقول يا رسول الله اشفع لي! ياحسين اشفع لي! يا علي اشفع لي! يا ملك افعل لي الشفاعة! .. وهذا كله شرك لأن الشفاعة لا تُسأل إلا من الله وهذا ما كان يفعله المشركون.
وقد قطع الله ـ سبحانه وتعالى ـ عروق الشرك من أساسها، ونفى ما تعلق به المشركون من الشفاعة قال الله ـ تعالى ـ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} وهذا أول ما يتمسك به ويتذرّع به المشركون، وهو إثبات ملك لمن يقصدونه فليس لأحد ملك مع الله ـ عزوجل ـ {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ}ليس لهم ملك ولا شركة {وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ} سبأ (22)
أي معين يكون مدلاً عليه بإعانته فيشفع، ثم لم تبقَ إلا الشفاعة، فنفاها الله ـ جل وعلا ـ فقال: {وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} سبأ (23) فنفى نفع الشفاعة عنده إلا بإذنه ـ جل وعلا ـ سبحانه وبحمده.
بعد ذلك قال المصنف-رحمه الله-: (ونتوكل عليك)
التوكل هو: عبادة قلبية بالاتفاق، وهو صدق الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار .
فالاعتماد على غير الله والركون إليه من الشرك، فمن توكل على مخلوق وركن بقلبه إليه في قضاء حوائجه وإدراك مطالبه وإنجاز حاجاته فإنه قد كفر إجماعا، وبه يُعلم أن ماذكره المصنف -رحمه الله-من صور إنما هي أمثلة لمن يجعل وسيطاً بينه وبين الله عز وجل.
فذكر الوساطة في السؤال، والوساطة في طلب الشفاعة، والنجاة في الأخرة، والوساطة في إدراك الحاجات، والنجاة من المكروهات لأن التوكل يكون في جلب المنافع وفي دفع المضار فليس بين العباد وبين الله ـ تعالى ـ في هذه الأمور وسيط، بل من أمّل شيئاً وأراده فليستند إلى ربه وليعتمد عليه وليقصده فهو الصمد جل في علاه.
فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يتوكل عليهم في جلب المنافع ودرء المضار ومغفرة الذنوب وهداية القلوب وتفريج الكروب، كل هذا من الكفر وهذا محل اتفاق، على هذا دارت دعوة الرسل، فالخلاف بين الرسل وبين أقوامهم في هذه القضية؛ وذلك لوضوحه لا يحتاج إلى دليل فهو معلوم من دين الإسلام بالضرورة، لكن لما زين بعض الناس الشرك بما زينه به من تصوير بأنه إجلال لله وتعظيم له: أن يُسأل من دون واسطة، كان من المهم ومما يحتاج إليه في هذا الزمان أن يبين لهم مثل هذه القضايا، ولهذا هؤلاء الذين يهتفون بأسماء المخلوقين في الكربات وفي الخطوب والشدائد والمصائب هؤلاء بلا شك يدعون غير الله، فليس هناك معنى للذين يهتفون باسم الحسين ياحسين ياحسين في كل مُلمة! أو يابدوي أو ياجيلاني أو ياكذا! هذا الذي كان يفعله المشركون الأوائل، هذا هو موضوع الخلاف بين الرسول الأمين النبي محمد وبين قومه، ولهذا من المهمات لطلبة العلم أن يبين التوحيد، فكثير من النَّاس يقول التوحيد جلي وظاهر .. يا أخي أين ظاهر وعامة أهل الأرض في الشرك؟!
نحن لا نتكلم عن الوثنيين الخلص يعبدون الأصنام وكم هم في الدنيا! المسلمون مليار ونصف والنصاري قريب منهم واليهود عدد قليل ونذر يسير والباقي إما ملحدون أو وثنيون، وهم أكثر من نصف العالم أو قريب من ذلك، لذلك الدعوة إلى التوحيد، الله لم يرسل الرسل إلا لهذا، وقرر هذا في كتابه الحكيم في مواضع، بل كل القرءان قائم على تقرير التوحيد، ما قرّر ذلك إلا لعظيم الحاجة إليه، لكن الناس ينصرفون عن هذا بأنواع من الصوارف ويزعمون أن الناس قد ترقى فكرهم وتطورت نفسياتهم بأن لاتقبل مثل هذا..
أكبر الأطباء في أدق التخصصات العلمية تجده يسجد للصلاة، وتجده يتعبد لوثن، ليس هناك ارتباط بين زكاء القلوب وذكاء العقول، فكم من إنسان لديه ذكاء في عقله وحده في ذهنه وفهم ثاقب للأمور والاختراع والصناعة، لكن فيما يتعلق بزكاء القلوب والنور الذي جاء به محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الهدى ودين الحق ليس عندهم منه شيء، فهم في عمى وظلمة ، ولذلك من الضروري لطلاب العلم أن يعتنوا بهذه الرسالة رسالة التوحيد تقريراً وتوضيحاً وتبييناً، وأنت إذا نظرت في أحوال الناس لوجدت عندهم من ضعف التوكل وضعف اليقين وضعف تحقيق العبودية في المحبة والخوف مايجعله خوطب بأن الحديث عن هذا الباب من أهم المهمات.
قد يقول قائل: أنتم لما تتكلمون عن التوحيد والشركيات الناس لايقبلون، لايلزم أن يطرح الموضوع بطريقة واحدة، بل يطرح بالطريقة التي تؤكد المقصود، القرءان عالج قضية التوحيد، تفسير القرءان يكفي، ولا تحتاج إلى أن تأتي بكتاب محمد بن عبد الوهاب ولا بكتاب غيره، يمكنك أن تقرب التوحيد من أسماء الله وصفاته، لما تُبين للناس (بسم الله الرحمن الرحيم) تستطيع أن تشرح كل أنواع التوحيد التي قررها العلماء وبينوها دون أن تذكر كتاباً لعالم أو ترد ذلك لفهم فاهم حتى لايقال دعوة وهابية أو دعوة فلانيّة إنما هي دعوة إلى ما جاءت به رسل الله صلوات الله عليهم.
هذا ما يتّصل بهذا الأصل، وأنا أقول وأؤكد أنها من الضروريات، وينبغي أن نشتغل بها نحن طلبة العلم أن نعظ الناس ونذكرهم في الجمع وفي المواعظ وفي سائر وسائل التعليم والتربية والدعوة أن نؤكد معنى لا إله إلا الله، ونطرق لذلك كل سبيل وكل وسيلة.
الناقض الثالث:
يقول فيه المصنف-رحمه الله-:
(الناقض الثالث: وهو من لم يكفر المشركين أو شكَّ في كفرهم أو صحَّح مذهبهم كفر).
هذا هو الناقض الثالث من نواقض الإسلام، وهو الركن الثاني الذي يقوم عليه الإيمان وهو الاستمساك بالعروة الوثقى، فالعروة الوثقى تقوم على ركنين:
الركن الأول: إفراد العبادة لله عز وجل.
الركن الثاني: الكفر بما يعبد من دون الله.
فلا يمكن أن يتحقق التوحيد إلا بهذين الأمرين، لهذا كل تقرير للتوحيد لابد أن يكون فيه أمران نفي وإثبات، نفي العبادة لغير الله ـ تعالى ـ وإثباتها له وحده لا شريك له، يقول الله ـ جل وعلا ـ: {فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ} البقرة (256) فقد رتب الله ـ تعالى ـ الاستمساك بالعروة الوثقى على أصلين لا يمكن لأحد أن يستمسك بالعروة الوثقى إلا بتحقيقهما:
الأول: الكفر بالطاغوت
والثاني: الإيمان بالله ، {فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ} وقد قدمت الآية الكفر بالطاغوت قبل الإيمان بالله، لأن الكفر بالطاغوت تخلية ومحو كل ما يتعلق في القلب بغير الله ـ جل وعلا ـ ويؤمن بالله فيكون القلب مليئاً بحبِّ الله وتعظيمه ـ سبحانه وبحمده ـ بهذا يتحقق الاستمساك بالعروة الوثقى.
هذا الناقض يتصل بالأصل الثَّاني والركن الثاني الذي لا بد من إقامته لإقامة التوحيد وهو الكفر بما يعبد من دون الله
قال المصنف-رحمه الله- (من لم يكفر المشركين) أي من لم يحكم بكفر المشركين، والمشركون هنا المراد بهم كل من لم يصدق برسالة النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فيشمل المشركين من أهل الكتاب والمشركين من الوثنيين، فليس هذا قاصراً على من يعبد غير الله ـ عزَّ وجلَّ ـ بل حتى أهل الكتاب في الحقيقة هم مشركون، حيث قالوا كاليهود، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} وَكما قَالَتِ النَّصَارَى: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} التوبة (30) وقد قالت النصارى {اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} وقال الله ـ تعالى ـ: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} المائدة (73) وقوله -رحمه الله-: المشركون هنا يشمل كل من لم يؤمن بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سواء كان كتابيا أو كان وثنيا أو كان ملحداً لا دينيًّا، واللا دينيُّ الملحد قد يقول قائل: كيف يكون مشركاً؟ يكون مشركاً ؛ لأنه اتخذ إلهه هواه، قال الله ـ تعالى ـ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} الجاثية (23) فهذا مشرك حيث جعل إلهه هواه، فنفى عبادة كل شيء، ونفى وجود رب يعبد، وهو في الحقيقة عابدٌ لهواه، لأن الحاكم عليه الذي يأتمر بأمره ويتوجَّه من خلاله، هو هواه وميل نفسه .
هذه ثلاثة أمور، تدخل في قوله ـ رحمه الله ـ: (من لم يكفر المشركين).
ونستكمل إن شاء الله في الدرس القادم والله تعالى أعلم .