إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلل فلن تجد له وليًّا مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتَّقوا الله أيها المؤمنون، اتَّقوا الله حق التّقوى، فإن تقوى الله تعالى سبيل النجاة، هي الطريق القويم الذي يدرك به الإنسان سعادة الدنيا وفوز الآخرة، والله -جل وعلا- أنزل الكتاب المبين، وهدى عباده المؤمنين إلى ما يكون به سعادة دنياهم وما يكون به فوز أخراهم، فقال -جل وعلا-: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾[الإسراء:9]، فكل هدي وسبيل يخرج عن طريق القرآن وسُننه وسبيله، فإنما هو سبيل من سبل الشقاء، وقد يتوارى ويخفى ذاك عن كثير من الناس في بدايات الأمور، إلا أن العواقب يتبين بها خطأ البدايات، فإن كثيراً من الناس يدرك بانحرافه شيئاً من اللذة أو شيئاً من المطالب النفسية في مخالفته لأمر الله تعالى، لكن سرعان ما تنقلب تلك المخالفات وتلك الأعمال إلى غُصَص وأنكاد يصطلي بنارها الإنسان في قلبه، كما أنها تنعكس على مسيرته ومسلكه، كما أنها تَطَال مُجتمعه وأُمَّته، بل تطال الناس جميعاً، ولذلك كان من حق الناس أن يأمروا بالمعروف وأن يتناهوا عن المنكر لتقوم السلامة بينهم، ويصح وجودهم ويسلم مجتمعهم.
أيها المؤمنون! إن مخالفة أمر الله تعالى في أمر من الأمور، قد يخفى نتاجها على عليل البصر ضعيف النظر، الذي يحصر نظره في الآني والساعة، لكن مع مرور الوقت وتبيُّن الأمور يتضح عظيمُ الضرر في مخالفة أمر الله ورسوله، وخذ لذلك مثلاً:
الزنا يدرك الإنسان به شيئاً من اللذة، ويُفرغ به شيئاً من مطلب نفسه، لكن شيوعه وظهوره مُؤذِن بفساد كبير وشرٍّ عظيم على الفرد والمجتمع، وما هذه النسب العالية من انتشار الأمراض، والتفكُّك الأُسري، وضياع الأنساب وما إلى ذلك من بلايا ينالها من بُلوا بهذه الظاهرة، وشيوعها بينهم إلا نموذج يمكن أن يُحتذى في كل مخالفة لأمر الله ورسوله.
إن الربا حرمه الله تحريماً قاطعاً في كتابه الحكيم، ووصف أهله بأبشع الأوصاف فقال -جل وعلا-: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾[البقرة:274]، فهذا الوصف بيان لعظيم الاضطراب الحاصل بأكل الربا وشيوعه، فإن ظهور الربا وشيوعه بين الناس هو سبب للاضطراب، كما أن ذاك المصروع الذي بُلي بتسلُّط الجانِّ عليه لا يستقيم له حال ولا تصلح له مسيرة، بل هو في اضطراب وانتكاس وتدهور وتسلط من الشياطين عليه، فكذاك كلُّ من بُلي بأكل الربا لا بد أن يناله من هذا التخبُّط ما يصدق به قول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾[البقرة:274].
إن الاقتصاد العالمي مبنيٌّ على أكل الربا، ولذاك أكل الربا هو روح الرأسمالية التي تحكم الاقتصاد العالمي، وبالتالي نحن نشهد في هذه الأيام نموذجاً من النماذج التي أثمرها هذا النظام من الاضطراب الذي لا ينحصر في مجال، ولا يقتصر على ناحية من نواحي الحياة، فإن الاضطراب الاقتصادي يطال أثرُه وضررُه جميعَ النواحي الإنسانية، في مسالك الناس الخاصة وفي مسالكهم العامة، في مسيرة الأفراد كما أنه في مسيرة الأمم والمجتمعات.
أيها المؤمنون! إن الأزمة الاقتصادية التي أصمَّت آذاننا سماعاً، فيما نسمعه من القنوات ووسائل النشر، كذلك أعمت أبصارنا فيما نقرؤه ونشاهده من آثار تلك الأزمة التي عجَّت وأصابت نظاماً اقتصادياً يحكم العالم، لا شك أنه برهان قاطع على سوء عاقبة أكلة الربا، فإن سبب هذه الأزمة لم يشخِّصْه عالِم، ولم يتكلم به واحدٌ من علماء المسلمين، بل الذي شخَّصه هم أصحابها؛ ذلك أن السبب لهذه الأزمة هو شيوع الربا بصوره ابتداءً وانتهاءً، ببيع الديون والقروض وتحويل العقارات إلى أوراق مالية تُتداوَل، فيكون بذلك أكل الربا أضعافاً مضاعفة حتى عجَزَ المدينون عن السداد، وعجزت البنوك عن توفية احتياجات الناس، فأصاب الناس ما أصابهم من أزمة اقتصادية كبرى تكاد تعصف بهذا النظام.
أيها المؤمنون! إن المؤمن يُبصِر بنظر الشريعة، فلا تستفزُّه الحوادث، ولا تُقلِقْه تلك المظاهر التي تكون إما في دعم نظرية مخالفة للشريعة أو في إسقاطها، بل يجب على المؤمن أن ينطلق من قول العليم الخبير الذي هو بكل شيء عليم، فالله تعالى -سبحانه وبحمده- عالم بمصالح الخلق، وجاءت شريعته تهدي للتي هي أقوم في كل جانب وفي كل شأن.
اللهم ألهمنا رشدنا، اللهم ألهمنا رشدنا، اللهم قنا شر أنفسنا، اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، أحمده جل في علاه، لا أحصي ثناءً عليه كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، اتقوا الله تعالى، وثقوا بوعده والتزموا شرعَه، فإن كلَّ من اعتصم بالله فقد فرَّ إلى من بيده ملكوت كل شيء، الذي يرفع من يشاء ويضع من يشاء، يهب الملك لمن يشاء وينزعه ممن يشاء، فالله -جل وعلا- بيده مقاليد الأمور، إلا أنه سبحانه جرت حكمته بأن يُملي للظالم، أي: يجعل له من المُكْنة والتسلُّطِ والتمكن ما قد يكون سبباً لزيادة ظلمه ومُضيِّه في غَيِّه، لكن العاقبة للمتقين، وبنهايات الأمور تتبيَّن صحة البدايات، فمن كانت بدايته صحيحة كانت نهايته وعاقبته حميدة، ومن كانت بدايتُه مُنحرفِة فإنه وإن حصَّل ما حصَّل في بدايات طريقه لابد وأن ينكشف عَوارُه، وأن يظهر زوره، وأن يتساقط كلُ بَهرَجٍ وزخرف يوضع لتجميل مظهره ومنظره.
إن الرأسمالية التي شاعت وانتشرت في اقتصاديات الدنيا، قائمةٌ على أكل المال بالباطل، قائمة على الظلم والغرر وسائر المحرمات الشرعية.
إن الشريعة بَنَت نظامها الاقتصادي من لدن حكيم خبير، على تحريم الربا في أول محرماته، ثم على تحريم الغرر والميسر، ثم على تحريم أكل أموال الناس بالباطل بألوان وأنواع من التغرير، وغير ذلك من وسائل التدليس التي يؤكل بها أموال الناس، بل الله -جل وعلا- قرن بين النهي عن أكل المال بالباطل وقتل النفوس، فقال -جل وعلا-: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾، ثم ذكر النهي عن قتل النفوس، ذلك أن المال قليل النفع، فكم من إنسان يهلك بهلاك ماله، ولا قوام للناس إلا بأموالهم، لذا يجب علينا أيها المؤمنون أن نعظِّمَ شرعَ الله وأن نلجأ إليه؛ ففيه المخرج والمهرب.
إن المؤمن ينبغي أن يستفيد من هذه الحادثة ليس فقط في نظام اقتصادي أو في شأن من شؤون حياته، بل يجب أن يعمِّمه على كل شأن من شؤون الدنيا، فإن طاعة الله تعالى فلاح، ومعصيته خيبة وخبال وخسار، ليس فقط في الآخرة، بل إن ذلك في الدنيا بظلمة القلوب وانتشار الفساد، قال الله -جل وعلا-: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا﴾[الروم:41].
اللهم إنا أسألك الهدى والتُّقَى والعفاف والرشاد والغنى، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، اللهم قنا شرَّ كل ذي شرٍّ أنت آخذ بناصيته.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قوبنا غلًّا للذين آمنوا، ربنا إنك رءوف رحيم.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.