التعليق على كتاب
نواقض الإسلام
((الدرس التاسع والأخير ))
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال المؤلف-رحمه الله-الناقض التاسع:
(مَن اعتَقَدَ أَنَّ بَعضَ النَّاسِ يَسَعُهُ الخُرُوجُ عَن شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَمَا وَسِعَ الخَضِرَ الخُرُوجُ عَن شَرِيعَةِ مُوسَى ـ عليه السلام ـ فَهُوَ كَافِرٌ).
الحمد لله رب العالمين، أحمده حق حمده، لا أحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، أما بعد..
فهذا هو الناقض التاسع من نواقض الإسلام التي ذكرها المصنف رحمه الله في هذه الرسالة المختصرة المشهورة الموسومة في نواقض الإسلام.
يقول: (التاسع) أي من نواقض الإسلام (مَن اعتَقَدَ أَنَّ بَعضَ النَّاسِ يَسَعُهُ الخُرُوجُ عَن شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَمَا وَسِعَ الخَضِرَ الخُرُوجُ عَن شَرِيعَةِ مُوسَى؛ فَهُوَ كَافِرٌ).
(من اعتقد) أي وطن قلبه ـ كما تقدم ـ على الإقرار والجزم بأنَّ من الناس من يسعه الخروج عن شريعة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أي إنه يعتقد أن الشريعة وما جاء به محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا تلزمه وليست واجبة عليه، ولهذا صور عديدة مما يندرج تحت هذا الناقض.
الصورة الأولى: من يعتقد أن شريعة الإسلام من أصلها ليست لازمة للناس، بل من شاء آمن بها ومن شاء لم يؤمن ولا إثم عليه ولا مؤاخذة عليه، فهذا كافر سواء دخل في الإسلام أو لم يدخل، سواء تعبد بدين الإسلام أو لا، اعتقاده أن الإسلام وما جاء به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ غير لازم للناس تكذيب للقرآن، لأن القرءان دل على وجوب متابعة ما جاء به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى ذلك دلت السنة، وعليه أجمع علماء الأمة، فلا خلاف بينهم أنه لا يجوز لأحد أن يخرج عن شريعة الإسلام، فمن اعتقد أن يجوز لأحد من الناس ألا يتعبد بالإسلام وأنه لايلزمه شريعة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه يكون بذلك كافراً، هذا هو القسم الأول، ولا فرق في هذا بين أن يكون المعتقد التزم بأحكام الإسلام أو لم يلتزم.
الثاني: من ظن أن شريعة الإسلام أو ماجاء به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من دين الإسلام لا يلزمه في بعض العمل، كالذي يقول مثلاً لا تلزمه الشريعة في باب الاقتصاد، لا تلزمه شريعة الإسلام في باب العلاقات الزوجية، لا تلزمه شريعة الإسلام في باب العلاقات الدولية، لا تلزمه شريعة الإسلام في تحريم الخمر، حتى لو كان في حكم واحد؛ فهذا خارج عن دين الإسلام؛ لأنه ممن يدخل فيمن ذمَّهم الله ـ تعالى ـ كما قال ـ جل وعلا ـ:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} {البقرة: 85} والله ـ تعالى ـ قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} البقرة : 208.
أي في الإسلام كلّه، فمن ءامن ببعض وكفر ببعض لم يحقق ما أمر الله ـ تعالى ـ به من الدخول في الإسلام كافة.
أما ثالث الصور التي تندرج في هذا: أن يعتقد أنه يترقَّى في العبادة إلى أن يصل إلى درجة يسقط فيها التكليف عنه فلا يؤمر ولا يُنهى، وهذا يقول به بعض غلاة الصوفية الذين يظنُّون أنهم إذا بلغوا منزلة من التعبد خرج عن حدود الشريعة، وأصبح الشرع غير لازمٍ لهم.
وقد يقول قائل أين هذا وهل هو موجود؟ أقول: نعم موجود، قد حدثني من رأى بعض هؤلاء في بعض بلاد الدنيا، يرى أنه لا تجب عليه صلاة ولا زكاة، ولا تلزمه أحكام الشريعة لأنه قد بلغ درجة من الإيمان واليقين أسقطت عنه التكليف، ويتأوَّلون في ذلك جهلاً وضلالاً قول الله ـ تعالى ـ:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}سورة الحجر: 99 قالوا: اليقين منزلة إذا بلغها العبد، سقط عنه التكليف، وهذا لم يتحقَّق لسادات الدنيا، ولم يتحقَّق للنبي -عليه الصلاة والسلام- ولا لأصحابه الكرام، ولا للعشرة المبشرين بالجنة، فكيف يُقبل هذا فيمن هو دونهم؟ لو كان هذا معنى الآية لكان أول من يتحقق فيه هذا النَّبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخيار الصحابة ـ رضي الله عليهم ـ لكن هذا لم يجرِ لأحد منهم، فهذا فهم مغلوط، وقوله ـ تعالى ـ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}الحجر:99 هو مشروعية عبادة الله ـ تعالى ـ إلى الموت، فاليقين هو الموت، وليس اليقين هو درجة من الإيمان والعبودية يسقط بها التكليف.
والدليل على أنه لا يخرج أحد مهما بلغ من العبادة والصلاح والتقى عن حدود العبودية ورسمها، قول الله ـ تعالى ـ: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المسلمين} الأنعام الآية 162
فهو أمر مأمور به لايخرج عنه أحد، وقال ـ تعالى ـ:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} سورة الملك:2.
هذه الصور الثلاثة التي تندرج تحت قول المصنف: (من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن الشريعة) سواء خروجاً كلّيّاً أو جزئيّاً أو في مرحلة عمرية أو درجة عبادية.
وهذا الناقض لا خلاف بين العلماء في أنه من اعتقد ذلك فهو خارج عن دين الإسلام وهو بذلك يكون قد وقع في مكفِِّر من المكفرات.
وأما قوله ـ رحمه الله ـ: (كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى)فهذا أشار إلى شبهة، شبَّه بها بعض المنحرفين الذين يجيزون لأنفسهم الخروج عن الشريعة، وقد أبطلنا ذلك بدلالة الكتاب والإجماع.
ثم ذكر المصنف شبهتم لدحضها وإبطالها فقوله: (كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى فهو كافر) وهذا التشبيه والتشكيك ترده النصوص، فالخضر ـ عليه السلام ـ لم يكن مخاطباً برسالة موسى، فإبطال هذا بأن يُقال: إنَّ الخضر الذي ترون أنه خرج عن شريعة موسى، لم يكن مخاطبا بشريعة موسى فإنه ليس من بني إسرائيل، وذلك أن لما جاء إليه موسى ـ عليه السلام ـ قال: "موسى بني إسرائيل"صحيح البخاري (4727) فقد سمع به لكنه لم يكن مأمورا باتباع شريعته، ولم يكن من أهل ملته، وقد كان يبعث النبي إلى قومه خاصة، كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بيان خصائصه كما في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى الناس عامة"صحيح البخاري (335)، وأما موسى ـ عليه السلام ـ وسائر الأنبياء، فإنهم لا يخاطَب الناس بدعوتهم إلا من كان من قومه، ولهذا تميَّزت هذه الشريعة بعموم النذارة فيها إلى النَّاس كافَّة، كما قال ـ تعالى ـ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} الانبياء 107.
وكما قال: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً}الأعراف : 158. والذي قال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً}الفرقان: 1 فليس هذا خاصّاً بأمة دون غيرها، بل هو عامٌّ للأمم كلها، وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في الصحيح من حديث أبي هريرة "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ" صحيح مسلم (153). والأمة المقصود بها أمة الدعوة، وهذا يشمل كل من كان بعد بعثته –صلى الله عليه وسلم-فكل من كان بعد بعثته فهو من أمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من جهة أنه يُطلب منه الإيمان به، وهذا معنى قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ" صحيح مسلم (153).
وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، وقد اتفق عليه علماء الأمة وكلُّ من اعتقد خلاف ذلك فهو مبطل ضالٌّ.
ولذلك ظنُّ هؤلاء بأن الولاية تقتضي خروجهم عن شريعة الإسلام وعن أحكام الدين هو من الكفر المتفق عليه، يقول شيخ الإسلام-رحمه الله- "هو معلوم بالاضطرار من دين المسلمين واتفاق جميع المسلمين أن من سوَّغ اتباع غير دين الإسلام أو اتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر، وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، والله ـ تعالى ـ يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} بماذا حكم الله عليهم؟ قال: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا}النساء : 151.
فالقضية ظاهرة جليَّة في كتاب الله عز وجل.
ليس لأحد أن يخرج عن شريعة الإسلام وعن دين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ}آل عمران: 19 {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ}آل عمران: 85 .
فمن سوَّغ غير دين الإسلام أو قبله أو جوَّز عدم الالتزام بدين الإسلام، فقد خرج عن حدود الشريعة، وكذب ما دلت عليه نصوص القرءان، هذا هو الناقض التاسع وهو جلي ظاهر.
أما الناقض العاشر:
فقد قال فيه المصنف-رحمه الله- (الناقض العَاشِرُ: الإعرَاضُ عَن دِينِ الله لا يَتَعَلَّمُهُ وَلَا يَعمَلُ بِهِ.
و الدَّلِيل قولُهُ ـ تَعَالى ـ: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ۚ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ﴾سورة الكهف:54.
هذا هو الناقض العاشر وهو آخر ما ذكره المصنف من نواقض الإسلام، وهو الإعراض عن دين الله.
الإعراض مأخوذ من أعرض عن الشيء، وهو بمعنى الصد والتولي، فالمعرض صادٌّ ومتولٍّ عن الشيء، فالإعراض عن دين الله المقصود به الصدود عنه والتولي عنه.
ثم بيّن المصنف -رحمه الله- موضع التولي، أو فسر الإعراض فقال: (لا يتعلمه ولا يعمل به) فجعل الإعراض نوعين:
- إعراض تعلم
- إعراض عمل
وكلاهما ناقض، ولا يلزم اجتماعهما، بل إعراض التعلم أو إعراض العمل كله داخل في النقض وأنه ناقض.
فمَا المقصود بالإعراض؟ هل المقصود بالإعراض الاشتغال عن طلب العلم ومعرفته؟
هذا حال كثير من الناس، أكثر الناس لا يشتغلون بالعلم ولا يرفعون به رأسا لكن ليس هذا هو المقصود بقول المصنف: (الإعراض عن دين الله) إنما المقصود بقوله:(الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به) الإعراض عما يدخل به في دين الإسلام.
الصدود عن تعلم مايعرف به الدين، ولهذا قال سليمان بن سحمان ـ رحمه الله ـ: "الإنسان لا يكفر إلا بالإعراض عن تعلم الأصل الذي يدخل به الإنسانُ في الإسلام، لا ترك الواجبات والمستحبات، فلو أنه فرَّط في معرفة أحكام الصيام، أو فرط في معرفة أحكام الحج، وفي أحكام المعاملات، هذا لا يكون به كافرا، إنما يكون كافرا إذا أعرض عن تعلم ما يعرف به دين الإسلام، ولهذا قال العلماء في تقسيم الكفر وصنوفه من أصنافه وأقسامه كفر الإعراض، وذلك بأن يعرض بقلبه وسمعه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما جاء به حتى ولو لم يكذبه، فلو قال: ما يهمني لا أصدق ولا أكذب، ولا يوالي ولا يعادي لكن أغلق أذنه، وصرف قلبه عن النظر فيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذا من الكفر، ولهذا أصل الضلال الواقع في كثير من الانحرافات هو الإعراض عما جاء به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الكتاب والحكمة، وجزء منه يرجع إلى طلب الهداية من غيره، فمن كان هذا أصله معرضا عن الكتاب والسنة، ومعرض عما جاء به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومقبل على غيره فهو كافر لا ريب فيه، ولهذا ينبغي أن يُعرف أن هذا الأصل ينطبق على كثير ممن لا يهتمون بالديانة، وهمهم الدنيا قد أخذت في قلوبهم فأعرضوا عن تعلم ما يجب عليهم تعلمه مما يصح به إسلامهم ويستقيم به دينهم.
وقد استدل المصنف -رحمه الله- على أن الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به أنه من الكفر بقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ}الكهف: 57.
هذا دليل على أن الإعراض عن دين الله ظلم كبير، فلا أحد أظلم ممن أعرض عن آيات الله من بعد أن ذُكِّر بها وبينت له ووضحت، وقد قضى الله ـ تعالى ـ بأنه من المجرمين حيث قال ـ جلّ في علاه ـ:{إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ}السجدة:2.
ووجه الجِرامة هو التولي عن معرفة دين الله ـ تعالى ـ وقد قال الله ـ تعالى ـ في الكافرين:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ}الأحقاف: 3، فذكر من أفعال الكفار الإعراض، وهذا في غاية التشديد على هؤلاء الذين تولوا عن الهدى الذي جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-
وقد قال الله ـ تعالى ـ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}طه: 124.
كل هذا فيه من العقوبة والتشديد على من أعرض عما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام.
وخلاصته أن الإعراض هو التولي والصدود عما جاء به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الحق والهدى، مما لا يصحُّ إسلام العبد إلا به، ومن ذلك أيضاً عدم التصديق والتكذيب وعدم المبالاة بما جاء به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما لا يصح الدين إلا به فكل هذا إعراض عن دين الله عز وجل.
هذا فيما يتعلق بالعمل، تكلمن عن الإعراض العلمي، أما الإعراض العملي يمكن أن يقال إنه نوعان: إعراضا كليا، وإعراضا جزئيا.
أما الإعراض الكلي: فهو الإعراض عن جنس العمل، أي إنه لا يعمل بشيء من الإسلام، وهذا إذا تبين له الدين وعرفه أو تمكن من معرفته، لكنه لا صلاة ولا زكاة ولا يؤدي واجبا ظاهرا ولا واجبا باطنا، فهذا إعراضٌ يُلحق صاحبه بالكفار، فهو كفر، لأن الدين لا بد فيه من قول وعمل، لأن الإيمان قول وعمل، فيمتنع أن يكون الرجل مؤمنا بالله ورسوله بقلبه أو بقلبه ولسانه ثم لا يؤدي واجبا ظاهرا لا صلاة ولا زكاة ولا حج ولا عمرة ولا صيام ولا غير ذلك من الواجبات، يمتنع، لأنه لو كان صادقاً في إيمانه؛ لكان له عمل يُصدِّق به إيمانه، هذا الإعراض الكلي عن العمل، وصاحبه كافر.
أما الإعراض الجزئي عن العمل، فهذا لا يكفر صاحبه، بل يكون صاحبه من جملة العصاة بقدر ماحصل معه من إعراض.
إذاً عرفنا أن الإعراض في العلم والإعراض في العمل، هو من موجبات الكفر من نواقض الإسلام، لكن ينبغي أن يعلم أن الإعراض الذي هو كفر في العلم أو في العمل: الإعراض عما لا يصحُّ الإسلامُ إلا به تعلما أو عملا.
هل من الإعراض عن العلم ما يكون معصية ولا يكون كفرا؟ أم أن كل الإعراض عن العلم كفر؟
الجواب: لا، من الإعراض عن العلم مايكون معصية وليس بكفر، اذكر في هذا ما جاء في الصحيحين حديث أبي واقد الليثي -رضي الله عنه-: أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان جالسا بين أصحابه فجاء ثلاثة نفر أما اثنان فأحدهما وجد فرجة فتقدم إليها وأما الآخر فجلس وراء الحلقة، وأما الثالث فأعرض، يعني لم يجلس، فلما قضى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : "ألا أنبئكم عن مثل هؤلاء الثلاثة ؟" أي : صفتهم ؟ "أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله" حيث كان له من الرغبة ما جعله يزاحم في تحصيل العلم وسماع الذكر , آوى إلى الله , وفيه فضيلة حلق العلم وأن حلق العلم من الإيواء إلى الله التي يترتب فيها أن الله ـ تعالى ـ يؤويه ومن آواه الله فلا خوف عليه , هذه المنزلة الأولى , أما المنزلة الثانية فذاك الذي تأخر فجلس وأما الآخر فاستحيا أن يزاحم في حلق العلم وأن يدخل "فاستحيا الله منه "وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه" صحيح البخاري (66)، وصحيح مسلم (2176).
وفيه فضيلة حِلَق العلم، وأنّ حلق العلم من الإيواء إلى الله، التي يترتب بها أن الله تعالى يؤويه، ومن آواه الله فلا خوف عليه، هذا المنزلة الأولى.
أما المنزلة الثانية، فذاك الذي تأخر فجلس، قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (وأما الآخر فاستحيا) أن يزاحم في حلق العلم ويدخل مجالسه (فاستحيا الله منه).
وأما الثالث: -وهنا الشاهد- (فأعرض فأعرض الله عنه).
وهذا ليس كفراً، هذا الإعراض كان جزاؤه إعراض الله ـ تعالى ـ عن العبد، لكن هذا ليس كفرا، قد يكون نفاقا وقد يكون معصية، فمن أهل العلم من قال إنه إعراض نفاق لأنه كان منافقاً، ومنهم من قال إنه وعيد لمن ترك تعلّم ما يجب عليه تعلم ولو لم يكن مما لا يصح الإسلام إلا به، فتنوَّعت كلمات العلماء ـ رحمهم الله ـ في بيان المقصود من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه".
هذا ما يتصل بالناقض العاشر من نواقض الإسلام.
بعد ذلك انتقل المصنف -رحمه الله- إلى خاتمةٍ ختم بها هذه النواقض، فقال -رحمه الله-:
"وَلَا فَرقَ فِي جَمِيعِ هَٰذِهِ النَّوَاقض بَينَ الهَازِلِ وَالجَادِّ والخَائِفِ، إِلَّا المُكرَه، وَكُلُّهَا مِن أعظَمِ مَا يَكُونُ خَطَرًا، وَ أكثَرِ مَا يَكُونُ وُقُوعًا، فَيَنبغِي لِلمُسلِمِ أن يَحذَرَهَا، وَ يَخَافَ مِنهَا عَلَى نَفسِهِ، نَعُوذُ بِالله مِن مُوجِبَاتِ غَضَبِهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ".
هذه الخاتمة التي ذكرها المصنف ـ رحمه الله ـ هي أشبه بما يكون ببيان سبب اقتصار المصنف على ذكر هذه النواقض العشرة، كما أنها بينت قاعدة فيما يتصل بإجراء الكفر بسبب تورّط أحدٍ في هذه النواقض التي ذكرها. فقال-رحمه الله-:"وَلَا فَرقَ فِي جَمِيعِ هَٰذِهِ النَّوَاقض" التي تقدم ذكرها وهي العشرة، "بَينَ الهَازِلِ وَالجَادِّ والخَائِفِ، إِلَّا المُكرَه" فإذا حصل شيءٌ من هذا الذي ذكره وقام في الشخص شيءٌ من النواقض فإنه يكون كافراً سواء كان هازلاً فيما يتلبس به من النواقض، والهزل هو الاستخفاف والهزء والعبث واللعب فإنه كفر، وقد قال ـ تعالى ـ: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ *لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}التوبة: 65.
وقال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)}{المائدة:57} فهذا هو الحكم الأول الذي ذكره، وهو عدم التفريق بين الهازل وغيره.
قال: (والجادُّ) أي لا فرق بين هازل وجادٍّ في إجراء هذه الأحكام، وهذا محل اتفاق بين أهل العلم، وأن لا فرق في هذه النواقض بين الهازل والجاد، لأنه لا يجوز الهزل بما هو كفر، فكل من هزل بما هو كفر فإنه كافر.
قال ابن العربي المالكي-رحمه الله- في أحكام القرآن: "الهزل بالكفر كفر، لا خُلف فيه بين أهل الأمة، فإذا هزل بما هو كفر قولاً أو فعلاً فإنه يكفر بذلك" لا خلاف بين علماء الأمة في ذلك كما حكى الاتفاق على ذلك ابن العربي رحمه الله.
أما (الخائف):
فقد قال المصنف -رحمه الله-:(والخائف) فالخائف أيضاً إذا وقع في شيء من المكفرات السابقة، فإنه يكون بذلك كافرا، والمقصود بالخائف هنا من كان خوفه لا يبيح له الوقوع في شيء من ذلك، هذه المسألة مسألة ينبغي تحريرها ذاك أن الخائف على مراتب ودرجات، والمقصود به هنا من لم يبلغ به الخوف الحدَّ الذي يُبيح له الوقوع في مكفر من المكفرات، وهي ما أشار إليه (إلا المكره) فإذا كان قد وصل به الحدُّ إلى الإكراه في خوفه فإنه سيأتي بحثه والكلام عليه.
إنما المقصود بالخائف هنا أن يتورَّط في شيء من الكفر، لخوف نقص دنيا أو نقص جاه أو مجاراة أحد، أو ما أشبه ذلك من الأسباب التي يخرج بها الإنسان عن الصراط المستقيم لأجل مصلحة من مصالح الدنيا أو دفع مفسدة من المفاسد التي قد تناله بسبب إسلامه أو بسبب عدم وقوعه في هذه النواقض.
وقد ذكر الله -جل وعلا- قوما استهزأوا بآياته ووقعوا في الكفر، ولم يعذرهم إلا في حال الإكراه، قال: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} النحل: 106 فلم يعذر الله ـ عز وجل ـ في الوقوع في الكفر إلا من أُكره، شريطة أن يكون قلبه مطمئناً بالإيمان، أما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه، فعليه من وقع في شيء من هذه المكفرات هزلاً أو خوفاً؛ فإنه يكون بذلك قد وقع في الكفر، والكفر سواء كان مداراةً لكبير أو خوفاً على أهله أو عشيرته أو ماله أو مداراة لهم، كل هذا يكون من الكفر إلا إن بلغ حد الإكراه فقال {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} فلم يستثن الله ـ تعالى ـ إلا المكره، ومعلوم أن الإكراه مرتبة تلغي الاختيار أو تفسده، ويكون ذلك في القول أو الفعل، دون أن يكون في القلب، ولهذا قال: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} فمادام القلب مطمئناً بالإيمان فإنه يكون بذلك من الحالات التي يعذر فيها بالكفر إكراها.
أما إذا كان فعل الكفر لمصلحة دنيوية أو لدفع مفسدة دنيوية لاتصل بالإنسان إلى حد الإكراه، فهذا كفر بالاتفاق، وقد قال الله ـ تعالى ـ في الكفار: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ}{النحل: 107}.
فصرح أن هذا الكفر والعذاب الذي نالوه بسبب تقديمهم الحياة الدنيا على الآخرة، قال الله ـ تعالى ـ:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ} فميز الله ـ تعالى ـ بين من فعل ذلك مكرهاً، وبين من فعله طلباً لمصلحة ومنفعة دنيوية أو جاهٍ، أو ما أشبه ذلك مما يندرج في متع الدنيا، وأما الإكراه فإنه دفع ضرر وليس طلب نفع، وشتان بين دفع الضرر وطلب النفع.
هذا ما ذكره المصنف-رحمه الله تعالى- فيما يتعلق باستواء هذه المكفرات في حصول الكفر لمن تلبس بها، سواء كان هازلا أو جادًّا أو خائفاً إلا المكره فإنه قد جاء النص بالعفو عنه، وقد اختلف العلماء هل الذي يباح من الكفر في حال الإكراه القولُ فقط أم القول والفعل؟ للعلماء في ذلك قولان:
منهم من قال: إنه لايباح إلا الكفر بالقول فقط، دون الكفر بالفعل.
وذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه يجوز القول والفعل مادام أن القلب مطمئن بالإيمان.
أرجح هذين القولين هو أن الإكراه على الكفر تسقط به المؤاخذة، سواء كان الكفر المكره عليه قوليًّا أو فعليا، الدليل أن الله ـ تعالى ـ لم يستثنِ إلا المكره حالَ كونه مطمئن القلب بالإيمان، فاشترط فقط أن يبقى القلب على الإيمان.
ماهو قسيم القلب؟
عمل الجوارح وقول باللسان، فإذا كان الإكراه يحمل الإنسان على تخلُّف قول اللسان، وعلى تخلف العمل بالجوارح فإنه يُعذر لأنه قد بقي منه عملُ القلب، وهو الاطمئنان بالإيمان.
فإن كان الإكراه يوقعه في كفر قولي أو يوقعه في كفر عملي، فلا حرج عليه إذا كان قلبه مطمئناً بالإيمان، وهذا هو القول الراجح من قول العلماء في هذه المسألة.
سؤلا: ما ضابط الإكراه الذي يبيح الوقوع في الكفر؟ هل هو أدنى إكراه؟
الجواب: لا، إنما هو الإكراه الذي يلحق الإنسان فيه مضرة شديدة، يخشى فيها على نفسه أو أهله أو ماله هلاكاً أو تلفاً، فلابد أن يكون الإكراه ملجئاً.
وقوله -رحمه الله-: (وَكُلُّهَا مِن أعظَمِ مَا يَكُونُ خَطَرًا، وَأكثَرِ مَا يَكُونُ وُقُوعًا) هذا جواب سؤال: ما الذي خصَّ هذه النواقض عن غيرها، مع أن نواقض الإسلام لا تنحصر في عشرة، هذا جوابٌ على ذلك! أي: قوله: (وَكُلُّهَا مِن أعظَمِ مَا يَكُونُ خَطَرًا) وهذا يستوي فيه ما ذكره المؤلف من النواقض وما لم يذكره، فكل ناقض من نواقض الإسلام فهو خطير، لأنه يفسد الدين ولأنه يُحبط العمل إذا مات عليه الإنسان، لكن قال: (وأكثرُ ما يكونُ وقوعاً) فهي خُصَّت بالذكر في هذه الرِّسالة، واصطفاها المصنف ذكراً لكونها الأكثر وقوعاً والأكثر فشوًّا، فخصَّ المصنف ـ رحمه الله ـ هذه بالذكر لكثرتها وانتشارها.
ثم عاد إلى التذكير بأهمية الحذر منها فقال: (فَيَنغِي لِلمُسلِمِ أن يَحذَرَهَا) يحذر هذه النواقض، وحذره منها هو في أن يكون على علم بها، وعلى تجافٍ عنها، لأن الحذر فرع العلم، يلزم للحذر أن يكون الإنسان عالماً بها، فإذا علم بها عمل على البعد عنها وتوقيها، فينبغي للمسلم أن يحذرها، ومحاذرة الشيء تقتضي مجانبته وتوقِّيه.
(ويَخَافَ مِنهَا عَلَى نَفسِهِ) والخوف أقل من الحذر، لأنه قد يحذر الإنسان من الشيء مع الأمن، لكن لما يكون حذراً خائفاً فإنه سيكون أعظم احتياطا وتوقِّياً وبعداً ونأياً بالنفس عن أن يصيبه شيءٌ منها، وهذا هو سبيل المفلحين، فقد قال الله ـ تعالى ـ: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}الأعراف الآية 99 فالخوف من الوقوع جاءت النصوص للحث عليها، ومنه هذه الآية، وقد قال النّبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في المسند من حديث محمود بن لبيد: "إنَّ أخوفَ ما أخافُ عليكم الشركُ الأصغر" أخرجه أحمد 5/428 (24030). ، وهذا ما يدلُّ على أنَّ جلَّ الخوف من الشِّرك والكفر.
وأيضا إبراهيم -عليه السلام- على عظيم منزلته وكبير مكانته في تطبيق العبودية والتوحيد ذكر الله ـ تعالى عنه ـ أنه قال في دعائه: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} إبراهيم:35
وهذا دليل للمؤلف في قوله: (فَيَنغِي لِلمُسلِمِ أن يَحذَرَهَا، ويَخَافَ مِنهَا) أي: من هذه النواقض وأمثالها وأشباهها.
ثم قال ـ رحمه الله ـ: (نَعُوذُ بِالله مِن مُوجِبَاتِ غَضَبِهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ)
(نَعُوذُ بِالله) نعوذ بالله أي نعتصم به ونحتمي ونلتجئ إليه ـ جل وعلا ـ (مِن مُوجِبَاتِ غَضَبِهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ) فالاستعاذة تدور على الاحتماء والاعتصام والالتجاء، فإذا قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أي أعتصم وأحتمي وألتجِئ إليه ـ جل في علاه ـ من شر ما استعاذ منه.
فهنا قال:(نعوذ بالله مِن مُوجِبَاتِ غَضَبِهِ) موجبات أي مقتضيات، جمع موجبة، والموجب هو المقتضي السبب أو المسبب، أي: نعوذ بالله من مسببات غضب الله ومقته، ومقته وغضبه يُتقى ويُخشى ويستعاذ بالله منه، ولذلك جاء في دعاء النبي في سجوده: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك"صحيح مسلم (486) فالاستعاذة بالله من غضبه، جاء بها النص والاستعاذة بالله من غضبه، تقتضي التوقي من أسباب الغضب والنأي بالنفس عن كل ما يوقع فيه.
وأما قوله: (وَأَلِيمِ عِقَابِهِ) هذه نتيجة الغضب، فإنه إذا غضب عاقب {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ}الزخرف 55.
فاستعاذ بالله من الموجب للعقوبة والثمرة وهي العقوبة، فمن ثمرة الغضب حصول العقوبات.
ولهذا ختم المصنف -رحمه الله- هذه الرسالة بالاستعاذة من موجبات غضبه وأعظم ما يوجب غضب الرب كفر العبد به فإن الله تعالى لا يرضى لعباده الكفر، ويمقت على ذلك أشد المقت، ولهذا ختم المصنف الرسالة من موجبات غضبه وهي المكفرات، وثمرة ذلك وهي العقوبة الأليمة.
وبهذا نكون قد فرغنا ـ ولله الحمد ـ من استعراض هذه الرسالة المهمة، فيما يتعلق بمسائل المكفرات ونواقض الإسلام، أسأل الله ـ تعالى ـ أن يجزي مؤلفها خير الجزاء، وأن يرزقنا وإياكم البصيرة في الدين، وأعيد وأكرر أهمية ألا يخوض الإنسان في هذا الباب إلا بعلم وبصيرة، فإنه من أخطر الأبواب، وينبغي ألا يغريه ويلفت انتباهه قول قائل مجتهد في هذا الباب لم يتمكن من ضبط أصوله فهو زلة قدم، ولهذا لابد في هذا الباب أن لا تأخذه إلا عن إمام، أما أن يأخذه الإنسان من طلبة علم ومن مشتغلين بالتدريس، فإنه يخشى عليه لأنه قل من يضبط هذا الباب من طلبة العلم، فإن التعجل في قضية التكفير شائعة، إمّا لغضب أو لغيرة أو حمية، وهذا مجال خطير ومزلة قدم تستوجب أن يتوقف طالب العلم عند هذا الباب مليًّا، وقد قدمنا في قراءتنا لهذه الرسالة بجملة من الضوابط المهمة، وختم المصنف ـ رحمه الله ـ الرسالة بذكر ضابط في التفريق بين الحكم على هذه الأشياء بالكفر وبين الفاعلين، وهذه إشارة إلى تقدم من ضوابط وهو التمييز بين الحكم على الفعل والحكم على الفاعل، فالفاعل لابد فيه من توافر الشروط وانتفاء الموانع.
اسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرزقنا بصيرة في الدين، وأن يرزقنا الفقه في التأويل وأن يرزقنا العمل بالتنزيل وأن يجعلنا وإياكم من حزبه وأوليائه، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.