عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ((إن الصدق يهدي إلى البرِّ، وإنَّ البرَّ يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)) صحيح البخاري (6094)، صحيح مسلم (2607).
مقدمة:
في هذا الحديث النبوي الشريف بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فضيلة الصدق.
والصدق: هو أن يُخبر الإنسان بما يُطابق الواقع.
وضدّه الكذب: وهو الإخبار بما يُخالف الواقع.
والصدق يكون في القول بأن يُخبر الإنسان بما يكون موافقاً للواقع، كما يكون الصدق بالفعل، وذلك بأن يكون ما يفعله مطابقاً لما في قلبه، فليس فعله مخالفاً لما في قلبه، فيكون بذلك صادقاً في القول وصادقاً في العمل.
والصدق يكون مع الله عز وجل، ويكون مع الخلق، وأعلى مراتب الصدق الصدق مع الله جل في علاه، وذلك بأن يصدُق المؤمن في طلب ما عند الله جلَّ في علاه، وأن يكون في غيبه وشهادته وحضوره وخفائه على حال تُرضي الله جلَّ وعلا.
معنى الحديث:
يقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث الشريف: ((إن الصدق يهدي إلى البر)) أي: إنّ الصدق في القول والصدق في العمل ((يهدي إلى البر)): والبرُّ هو الجنة، كما قال الله ـ تعالى ـ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} آل عمران: 92 أي: لن تنالوا الجنة، وقيل: البر هو العمل الصالح والخير، فقوله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} أي: لن تدركوا العمل الصالح وتبلغوه، حتى تنفقوا مما تحبون: فقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث: ((إن الصدق يهدي إلى البر)) أي إن الصدق يهدي إلى صالح العمل، فمن كان صادقاً صلح عمله، وقوله صلى الله عليه وسلم بعدها: ((وإن البر يهدي إلى الجنة)) يؤكد أن معنى البر هنا هو العمل الصالح.
أما المقابل للصِّدق، فهو الكذب، سواء كان على الواقع والحقيقة، أو كان على وجه المزح والهزل، فكلّه يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم:((وإن الكذب يهدي إلى الفجور))، والفجور هو المعصية، فمن كذب وقع بكذبه في المعصية ولا بدَّ، ثم يقوده ذلك إلى معاصٍ أخرى، ليتمَّ له ما يشتهي ويريد من الكذب، ثم قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((وإن الفجور يهدي إلى النار))، أي: يوصل إليها، قال تعالى: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} الانفطار: 14، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ:((ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عند الله كذاباً)) أي: يكون من الكذابين والموصوفين بهذا الوصف عند الله عز وجل، ولذا فإنّ الكذب مع الخلق ليس منتهياً عنده فقط، بل يكون صاحبه مقيداً عند الله تعالى وموصوفاً بأنه كذاب.
ويقول الرّسول ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ مبيّناً ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن: ((إن الرجل ليصدق)) أي: في قوله وفي عمله، وفي رواية: (ويتحرى الصدق) أي: يطلبه، ويتحرى ألا يقع منه شيء من الكذب، سواءً كان ذلك في قوله أو عمله، وذلك ((حتى يُكتب عند الله صديقاً)) أي: حتى يبلغ هذه المنزلة العليا، ومرتبة الصديقين هي المرتبة التي تلي مرتبة النَّبيين، فإنَّ الله ـ تعالى ـ لما ذكر الذين أنعم الله عليهم ذكر أولاً النبيين، ثم ذكر الصديقين والشهداء والصالحين، كما قال تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} النِّساء: 69 فمرتبة الصديقية مرتبة عالية ينالها المؤمن بأن يصدق في قوله، وأن يتحرى الصِّدق يطلبه فيراقب كلماته ويراقب أفعاله، ويطلب أن يكون القولُ والفعل على نحوٍ مطابقٍ للواقع، لا زورٌ فيه ولا كذب، (وقيل للقمان الحكيم: ما بلغ بك ما نرى؟ قال: صدق الحديث، وأداء الأمانة، وتركي ما لا يعنيني) شرح صحيح البخاري لابن بطال (9/280) فقوله (صدق الحديث) أي الصدق في القول، وقوله (وأداء الأمانة، وتركي ما لا يعنيني)، يعني الصدق في العمل، قال الشاعر:
ما أقبحَ الكذب المذمومَ قائله *** وأحسنَ الصدقَ عند الله والناس
فوائد هذا الحديث:
-منها: أن نحرص على تحري الصدق، فإن تحري الصدق يفتح أبواب الخير ويقود إلى الجنة.
-ومنها: أن نتجنب الكذب "فإنَّ الكذب يهدي إلى الفجور" والمعاصي، والمعاصي طريقٌ إلى النار.
-ومنها: أن نعلم أن الوصول إلى الجنة والوصول إلى النار، عملية ناتجة عن مسار الإنسان ومسلكه العام، فليس عن صدق واحد ولا عن كذب واحد يبلغ الإنسان هذه المراتب، إنما يبلغه عن الصدق وتحريه، أو عن الكذب وتحريه، فبهذا يبلغ الإنسان إما أن يكون صديقاً، أو يكون كذاباً، فيكون إما من أهل الجنة وإما من أهل النار.