الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشداً، أحمده جلَّ في علاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتَّبع سنته بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتَّقوا الله عبادَ الله، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التقوى، فإن تقوى الله تعالى سبب لخير الدنيا والآخرة، فالله ينجِّي المتقين بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون، والله -جل وعلا- وعد المتقين مفازاً:﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا﴾[النبأ:31].
فتقوى الله تعالى هي خير ما يتزوَّد به العبد لمقابلة ما يعانيه من أمر الدنيا، من أهوالِها وكُرُباتها وشدائدِها وبلاياها، ومن أعظم ما ينجو به العبد يوم القيامة، يوم لا درهم ولا دينار، وإنما هي الأعمال التي هي مطايا عباد الله.
أيها المؤمنون! إن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- خصَّه الله تعالى بأن آتاه جوامعَ الكلم، وجوامعُ الكلم هي الكلمات القليلة التي تشمل خيراً كثيراً، ونفعاً ممتدًّا لا يحدُّه زمان ولا مكان، فتتجاوز المعاني الألفاظ، فعلى وِجازةِ اللفظ يكون نفع الكلام وعظيم أجله كبيراً لا يحدُّه حد، ولا يقتصر عند أَمَدٍ أو مكان أو زمان.
أيها المؤمنون! روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: «المؤمن القويُّ خيرٌ من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ»، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «احرص على ما ينفَعُك، واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك أمرٌ فلا تقل: لو أَنِّي فعلت كان كذا وكذا، وإنما قل: قَدَرُ اللهِ وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان»[صحيح مسلم:ح2664/34]
فهذا الحديث النبوي الجامع لخير كثير في أمر الدين وأمر الدنيا، كثير من الناس في غفلة عنه ومخالفة له، فإن الحديث قد جمع من أبواب السعادة ومفاتيح انشراح الصدر وطمأنينة القلب، ما إذا أخذ به المؤمن فاز فوزاً عظيماً وسبق سبقاً كبيراً.
إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «احرص على ما ينفعُك»، وهذه وصية لكل مؤمن أن يحرص على ما ينفعه، وما ينفعك إما أن يكون في أمر دينك، وإما أن يكون في أمر دنياك، وكلاهما يشملُه قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: «احرص على ما ينفعك«.
وإنَّ الحرص مقتضاه السعي والكدُّ والعمل في تحصيل المطالب وإدراك المرغوبات والمُحال، إن الحرص لا يمكن أن يكون قائماً في منهج أحد ولا في عمله وقد توانى وكسل، فإن من الخذلان مُسامرةَ الأماني، كما أن من التوفيق بغضَ التواني، والإنسان لابد أن يسعى ليدرك مطلوبه في أمر الدنيا وأمر الآخرة.
توكَّل على الرحمن في الأمر كلِّه
ولا ترغبنَّ في العجز يوماً عن الطلب
ألم تر أن الله قال لمريم:
وهُزِّي إليك الجذعَ يتساقطِ الرُّطَب
ولو شاء أن تجنيه من غير هزِّه
جَنَتْه ولكن كلُّ رزق له سبب
فينبغي للمؤمن أن يسعى في تحصيل الأمور وإدراكها، إن الطالب الذي يتوانى عن التحصيل طوال العام ثم يريد نجاحاً ليس صاحبَ عقل ولا كَيس ولا فِطنة، إن التاجر الذي يتراخى في تجارته ثم يريد مكاسبًا وجنيَ أرباح لا يمكن أن يدرك ذلك بالكسل، فإنه من لم يطلب ويجدَّ لم يجد ولم يحصِّل، فينبغي لنا أن نعمل بهذه الوصية، وأن نأخذها في أمر ديننا وأمر دنيانا، أن نحرص حرصاً عظيماً على كل ما فيه نفعنا، ولقد أمركم ربكم بذلك فيما أمركم به نبيكم صلى الله عليه وسلم: «احرص على ما ينفعُك»، وليس ذلك مقصوراً على طاعة أو عبادة، بل يشمل كل أمر يكون من أمر الدنيا والآخرة، فإن كل شيء له سبب يُدرك به.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والرشاد والغنى، اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمد الشاكرين، أحمده سبحانه وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، اتقوا الله تعالى تدركوا مطالبكم وتحصلوا خير الدنيا والآخرة، قال الله تعالى:﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق:3]، وقال -جل وعلا-: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾[الطلاق:2 – 3].
أيها المؤمنون! إن الإنسان يسعى في هذه الدنيا، وسعيه لا يُخرجه عن قدر الله تعالى، فكل شيء بقضاء وقدر، ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾[القمر:49]، وقد بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لا يدرك الإنسان مطالبه في دين أو في دنيا إلا بأمرين: بالحرص الذي هو كدُّ الإنسان البدنيُّ وعمله وجهده في سعيه، كما أنه لابد أن يعطف على ذلك عملاً قلبيًّا وهو الاستعانة بالله تعالى، طلب العون ممن بيده مقاليد كل شيء، فلا يدرك الإنسان أمراً من أمر الدنيا إلا بعون الله تعالى، فشربة الماء لو لم يُعِنْك الله تعالى على تحصيلها ما حصلتها، فكيف بالأمور العظيمة والكبيرة، فالله تعالى يُطلب منه كل شيء، ويُسأل منه الدقيق والجلي.
»احرص على ما ينفعك»، ولا تنس: «واستعن بالله»، فإن من الناس من يحرص على ما ينفعه لكنه يعتمد على جهده ويرى نفسه أهلاً لإدراك كل مطلوب، وإذا وُكل الإنسان إلى جهده وعمله فإنه وكل إلى ضعف وهوان.
إذا لم يكن عون من الله للفتى*** فأول ما يجني عليه اجتهاده
إننا بحاجة إلى أن نعلق قلوبنا بالله تعالى في طلب العون في دقيق الأمر وفي جليله، في صلاح أنفسنا وصلاح أولادنا، واستقامة أحوالنا، استقامة دنيانا وأُخرانا، إننا لا ندرك مطلوباً من المطالب إلا بصدق الاعتماد على الله تعالى، فمن صدق في اعتماده على الله وسعى بأخذ الأسباب وتوكَّل عليه -جل وعلا- في إدراك مطلوبه كان ذلك من أسباب نجاحه وإدراك سعيه.
على المرء أن يسعى ويبذلَ جهده
ويقضي إلهُ الخلق ما كان قاضيا
فالله -جل وعلا- يقضي ما يشاء ويحكم ما يريد، فإذا جاء الأمر على خلاف ما تحب وتتمنى بعد حرصك واستعانتِك؛ فاعلم أن الله لم يقدِّر ذلك لك لا عجزاً، ولا إخلافاً لوعد، ولا بخلاً، فهو الغني الحميد القوي العزيز جل وعلا، وإنما اقتضت حكمته ورحمته أن يمنعك لمصلحتك ونفعك، لا لعجزه وبخله، فهو الغني الحميد القدير جل وعلا، ولذلك ينبغي أن يستسلم الإنسان عند فوات مطلوبه بعد بذل جهده واستعانته بربه، ولذلك قال: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله»، فإذا لم تأت النتيجة على ما تريد فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فإذا أصابك شيء فلا تقل: لو فعلت كذا كان كذا وكذا، وإنما قل: قدر الله وما شاء فعل«.
جاء رجلان يختصمان عند النبي صلى الله عليه وسلم في قضية فقضى لأحدهما، فلما خرج قال المقضي عليه الذي حُكم عليه: حسبي الله ونعم الوكيل، فقال له النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «إياك والعجز وعليك بالكيس، فإن الله يلوم على العجب ويحب الكيس» يعني: الفطنة والاحتياط، ثم قال: «فإذا غَلَبَك أمرٌ فقل: حسبي الله ونعم الوكيل«.[سنن أبي داود:ح3627، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع:ح1759]
أما أن يتجرأ الإنسان بمثل هذه الكلمات الطيبة، في مقام عجزه وقصوره وتقصيره؛ فإنها لا تنفعه ولا تدفع عنه مكروهاً، فإذا فات ما تُحبُّ وترغب بعد أخذك الأسباب واستعانتك برب العباد فقل: قدر الله وما شاء فعل، يعني: هذا تقدير الله، وهذا ما شاءه -جل وعلا- وهو الحكيم فيما يعطي ويمنع، لا معطي لما منع ولا مانع لما أعطى، له الحكمة في كل ما يفعله، والقدرة النافذة في كل ما يريده سبحانه وبحمده.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والرشاد والغنى، اللهم ألهمنا رشدنا وقِنا شرَّ أنفسنا، اللهم املأ قلوبنا بمحبتك، وارزقنا تعظيمك، وارزقنا التوكل عليك، اللهم أعنَّا على ما ينفعنا، وخذ بنواصينا إلى ما تحب وترضى في أمر ديننا ودنيانا، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
أقول هذا القول وأسأله -جل وعلا- أن يعاملنا برحمته ولطفه، وأن يحشرنا في زمرة عباده وأوليائه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.