الحمد لله رب العالمين، أحمده حق حمده، لا أحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسانه إلى يوم الدين.
أما بعد:- فأعوذ بالله من الفتن، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يقبضنا إليه غير مفتونين.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يسير في طائفة من أصحابه في مسير معتاد، فجالت به راحلته أثناء السير حتى كاد أن يسقط من راحلته، ثم دار ببعض القبور فقال: «قبور من؟ أفي الإسلام أم في الشرك ماتوا؟ فأخبر عنهم، ثم قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «تعوذوا بالله من الفتن»، فقالوا: نعوذ بالله من الفتن، ثم قال: «تعوذوا بالله من الفتن»، قالوا: نعوذ بالله من الفتن، ثم قال: «تعوذوا بالله من الفتن»، قالوا: نعوذ بالله من الفتن، ثم قال: «تعوَّذوا بالله من فتنة المسيح الدجال»، قالوا: نعوذ بالله من فتنة المسيح الدجال.[صحيح مسلم(2867/67)].
هذا الأمر النبوي المتكرر لأصحابه وهم في دار هجرته في المدينة حيث أمنوا على أنفسهم ودينهم يُشعر بخطورة ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأن يتعوذوا بالله منه، فإن استعاذة المؤمن من شيئ لا تكون إلا من مرهوب، لا تكون الاستعاذة إلا من مَخُوف، لا تكون الاستعاذة إلا من شيئ يخاف؛ لأنها طلب الحماية، لمَّا تقول: أعوذ بالله أي: اعتصم بالله، أحتمي بالله، ألتجئ إلى الله، أطلب العون والوقاية من الله، وهذا لا يكون في الغالب إلا فيما لا حيلة للإنسان في دفعه، فإن الإنسان يسعى إلى توقي الأضرار والسلامة من الشرور والآفات، قد يوفَّق إلى ذلك، لكنه عندما يعتصم بالله عز وجل؛ ينال من الوقاية من الأضرار والشرور مالا يدرك بجهده وقوته وعمله، فإن ما يدفعه الله تعالى عن العبد بإيمانه وتقواه أعظم مما يدفعه بحوله وقوته، لا حول ولا قوة إلا بالله.
الفتن أيها الإخوة شيئ يصرف الإنسان عن الحق إلى الضلال، شيئ يُنقص دين الإنسان، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتعوذ من الفتن، فقال: «تعوذوا بالله من الفتن»، وقد يقول قائل: إن الناس كلهم مفتونون، نعم قال تعالى: )الم *أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(.
فما من أحد إلا وهو جار عليه فتنة، فليس منا إلا وهومختبَر، إلا وهو ممتَحن، إلا وهو مبتلى، فمادة الحياة وموضوعها هو البلاء )الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُور(. [الملك:الآية2]
)وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً(. [الأنبياء:35] فما من أحد إلا وهو في ابتلاء واختبار وامتحان وفتنة، لكنَّ هذا الذي قضى الله تعالى سَنَن الكون عليه، وأجرى عليه حال الناس؛ ليس هو المطلوب في قوله:« تعوذوا بالله من الفتن»؛ يعني لما نقول: نعوذ بالله من الفتن فنحن لا نسأل الله عز وجل أن لايختبرنا؛ فما منا إلا وهو مختبر، لكننا نسأل الله عز وجل أن يقينا الصوارف التي تصرفنا عن الحق ؛ نسأل الله عز وجل لمَّا نقول: نعوذ بالله من الفتن أن لا نسقط فيما نختبر به، سواء كان اختبارا خاصًّا أوعاماً ، ومن هنا نصل لمعنى الفتنة.
فما معنى الفتن؟ وما معنى الفتنة التي ترد في كلام الله، وفي كلام رسوله، وفي كلام أهل العلم؟
الفتنة: هي الاختبار، وقد جرت على كل إنسان، فما من إنسان إلا وهو مختبر، وكلنا سنُفتن ونخُتبر في معاشنا وفي مماتنا، ولذلك نحن نتعوذ بالله من فتنة المحيا ومن فتنة الممات، ليس التعوذ هنا بأن لا نختبر؛ إنما التعوذ أن لا نسقط في الاختبار، هذا أمر لابد أن يتضح، لأن بعض الناس يقول كيف نستعيذ بالله من الفتن ونحن مختبرون؟ على كل حال، فما منا إلا مختبر، كل لحظة في حياة الإنسان هي اختبار له، كل موقف هو اختبار له، إما أن يوفَّق إلى هدى وينجح، وإما أن يخذل فلا يوفق إلى ما يجب عليه في ذلك الموقف فيُفتن.
إذا الفتنة تطلق على الاختبار وهذا لا سلامة لأحد منه، فموضوع الحياة هو الابتلاء والاختبار، لكن الفتنة تطلق أيضا ويراد بها نتيجة الاختبار، وهو إما السقوط في تلك الاختبارات، أو عدم التجاوز لما امتُحن فيه الإنسان، وهذا هو الذي يستعيذ منه المؤمن عندما يقول: نعوذ بالله من الفتن، وهذا هو الذي يستعيذ منه المؤمن حين يقول في صلاته: أعوذ بالله من فتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال، فتنة المسيح الدجال إذا خرج لن تستثني أحدا، فكل أحد يبتلى به إلا من يعصمه الله عز وجل، وابتلاء الناس به نتيجته إما سلامة ووقاية ونجاة، وإما خذلان وانصياع واتباع لفتنته وشره.
لذلك لنفهم عندما نقول: نعوذ بالله من الفتن ما الذي نستعيذ بالله منه؟ إننا نستعيذ بالله عز وجل -أيها الأحباب أيها الإخوة- نستعيذ بالله من السقوط في الفتنة، من الفشل، من أن يكلنا الله تعالى إلى أنفسنا، من أن لا نوفَّق إلى ما يحب الله تعالى ويرضى في تلك الاختبارات.
إن النبي صلى الله عليه وسلم نصح الأمة نصحاً بينًا ظاهرًا في كل ما يخشاه عليها، ومما كان يؤكد عليه صلى الله عليه وسلم الاستعاذة بالله من الفتن كما تقدم في حديث زيد بن أرقم في القصة التي ذكرت في مسير النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم الاستعاذة بالله من الفتن كما يعلمهم السورة من القرآن. ففي الصحيح من حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن يقول: «اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات»[صحيح مسلم(590/134)]
إن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك في زمن كان بين أصحابه، وكان عصمة لأصحابه رضي الله عنهم، فإن الله تعالى قال: )وَمَا كَانَ اللَّـهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚوَمَا كَانَ اللَّـهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ(.[الأنفال:33]
وقد مضى صلى الله عليه وسلم، وبقيت الأمة بعده، فالعصمة بعده في التزام هديه والسير على طريقه صلى الله عليه وعلى آله وسلم. إن الفتنة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن واسعة وعريضة رغم كل الشدائد التي مرت بالصحابة في أول المبعث، لكن ما يأتي من الفتن بعد ذلك شيئ عظيم مهول، لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهو يحدث الأمة ويخبرها بحالها، قال صلى الله عليه وسلم: «إن أمتكم هذه جُعل عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتنة فيرقِّق بعضها بعضاً، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيَّته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأتِ إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه».[صحيح مسلم(1844/46)]
أي جعل سلامتها ووقاية الشرور فيها في أولها. «هذه هذه»:أي هذه التي سيدركه الهلاك بها.
إن أمر الفتنة أمر عظيم، استشفَّه العلماء واستفادوه من كتاب الله تعالى ومن سُنًّة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا يخلو كتاب من كتب السُنًّة إلا وفيه باب أو كتاب مستقل عن الفتن، وعن ما يتعلق بها وطريق الوقاية منها والسلامة.
إن الفتنة أيها الإخوة لا تُصيب الناس خبط عشواء، بل لها أسباب ولها مقدمات، متى ما جاءت هذه الأسباب أدرك الإنسان من الفتنة ما يدركه، ذاك أن الفتن يختبر فيها الناس ليرى إيمانهم، ليرى ما معهم من الصدق، ليرى ما معهم من الإقبال على الله والصبر على دينه، ولذلك السعيد من جُنِّب الفتن، أي وُقي شرها، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ, وَلَمَنِ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ»[سنن أبي داود(4263)، وصححه الألباني في صحيح الجامع(1637)]، ولذلك كان الصحابة -رضي الله عنهم- يستشعرون الفتنة ويبادرون إلى المعالجة. وإليك هذا النموذج في قصة أبي طلحة -رضي الله عنه- ، فإن أبا طلحة كان له بستان قبال مسجد النبي صلى الله عليه وسلم من أطيب بساتين المدينة ماءً، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل فيشرب منه، صلى أبو طلحة يوما في بستانه، فطار دِبْسِيّ ( طائر صغير) فأعجبه وهو في صلاته، فطفق أبو طلحة يتبع الطائر وهو يصلي يتنقل الطائر بين نخيل بستانه وأشجاره، حتى رجع إلى صلاته فلم يدرِ كم صلى، أصلى ركعة أم ركعتين أم ثلاثًا، فقال مباشرة: لقد أصابتني في مالي هذه الفتنة، هذا الطائر الذي أعجبه يتنقل بين مزرعته، أشجار ونخيل بستانه، عده فتنة، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال: يارسول الله أصابتني في حائطي من الفتنة ما أصابني، ثم قال: يارسول الله هو صدقة لله فضعه حيث شئت.[أخرجه مالك في الموطأ(413)، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب(286)]
تصدق بالبستان لأنه أشغله عن صلاته بتتبع طائر تنقل بين أغصانه وأشجاره.
هذا الحس المرهف، هذا الاستشعار الدقيق، هذه المبادرة لمعالجة الفتنة من أوائل ظهور علاماتها هي من توفيق الله عز وجل للعبد، فهذا الصحابي الكريم -رضي الله عنه- أشغله هذا النظر، وهذا الإعجاب بسعة مزرعته وتنقل الطير فيها حتى وقع في نفسه ما وقع، فانصرف عن صلاته فرأى أنه لا خروج له من هذه الفتنة إلا أن يتخلص مما فتنه وصرفه عن لقاء ربه- الله أكبر- .. ما أطيب تلك القلوب، إنها قلوب حية، قلوب ترجو ما عند الله عز وجل، قلوب نفذت ببصائرها إلى الدار الآخرة، فكان غاية مناها بلوغ ما عند الله عز وجل، فمهما خسروا قبل ذلك، ومهما تخلوا قبل ذلك.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ذاك نظر لا يكون إلا لمن صدق إيمانه باليوم الآخر، فإنه من صدق إيمانه باليوم الآخر هانت عليه الدنيا كلها؛ لأنه يعلم أن ما عند الله خير وأبقى.
الفتن أيها الإخوة أول ما تعلق تعلق بالقلوب، فإذا كانت القلوب سليمة صحيحة راشدة نقية طاهرة طيبة سلمت من الفتن، وكانت كحال أبي طلحة في فتنته ومعالجة انصرافه، وإذا كانت القلوب غافلة مريضة أو حتى ميتة تمكنت منها الفتنة فزادتها هلاكا وفسادا، ولهذا محور النجاح، مفتاح النجاح في الفتن هو ما في صدرك، ما بين جنبيك من قلب، أصالح هو فأبشر بالنجاة، أم فاسد هو فتدارك نفسك قبل الهلاك، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث حذيفة: « تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ، مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ »[صحيح مسلم(144/231)] ماذكر النبي صلى الله عليه وسلم عضوا آخر، ما ذكر سمع ولا بصر ولا بدن، إنما ذكر أول ماذكر المحور، المركز الذي تعرض عليه الفتن، فمتى كان مقدم الجيش قويا انصدت الفتنة وانخذلت، ومتى كان ضعيفا إذا أسر القلب أسر البدن، ولذلك يجب على المؤمن في مقابلة كل فتنة عامة أو خاصة، أن ينظر إلى قلبه، فإن كنت ذا قلب سليم فأبشر فالنجاة تلوح في الأفق، وإن كنت ذا قلب مريض أو قلب ميت فتدارك نفسك قبل أن تزداد هلاكا وموتا، فإن القلوب هي مراكب النجاة زمن الفتنة، هي المركب الذي يركبه الإنسان، أشبه ما يكون بالسفينة التي يخرق بها الإنسان عُبَاب أمواج الفتن المتلاطمة، فإذا كانت قوية متينة محكمة صالحة نجى وإلا هلك، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم تُعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودا عودا، ثم ذكر انقسام القلوب في هذه الاختبارات، الفتن هنا هي الاختبارات والنتيجة واحدة من اثنين، فأي قلب أشربها نُكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب ردها واستفاق من خطرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تصير القلوب مع توالي هذا الاختبار إلى قلبين؛ على أسود مربادا كالكوز مُجخِّيا، أي كالكوب مقلوبا لو صببت فيه من اليوم إلى غد ماء لم يدخله شيئ، بمعنى أنه يختم عليه ويطبع، ولا ينتفع بشئ من الذكر ولا من الهدى ولا من الوحي، فالماء يشبه الوحي في حياة القلوب، بل هو كالماء في حياة الأبدان، أتحيا الأبدان بلا ماء؟ لا
كذلك القلوب لا تحيا بلا هدى، وإن كان الكوب مقلوبًا فإنه لن يدخله ماء، كذا القلب إذا كان منكوسا فإنه لن يقبل هدى، ولن ينتفع من وعظ، ولن يجري فيه خير، هذا هو القلب الأول الذي أشرب الفتن، لا يلزم هذا أن يكون من أول اختبار، إنما هذا من اختبارات متوالية متعاقبة يتلو بعضها بعضا، نهاية تلك الاختبارات هو أن يكون القلب على هذه الحال، كالكوز مجخِّيا، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا، أما القسم الثاني على أبيض مثل الصفا، أبيض مثل الصفا هذا لون وقوة، مثل الصفا مثل الحصاة في قوتها وردها للواردات، وصدها للفتن القادمة عليها، لا تضره فتنة، هكذا تكون القلوب بعد عرض الفتن عليها، فشبه عرض الفتن على القلوب شيئا فشيئا كعرض عيدان الحصير، وهي في تواليها تشكل حال القلب من الاستقامة والانحراف.
إن الفتن ألوان وأشكال، وما يفتن زيدا قد لا يفتن عبيدا، وما يفشل فيه فلان قد لا يفشل فيه آخر، ولذلك ليست الفتنة واحدة في حال الناس كلهم بل مختلفة، فمن الناس من فتنته المال، ومنهم من فتنته النساء، ومنهم من فتنته الجاه، ومنهم من فتنته المناصب، ومنهم من فتنته الولد، ومنهم من فتنته العقار، ومنهم من فتنته الأسهم، أشكال وألوان في صور الفتن ونماذجها، فمن سلم من فتنة قد لا يسلم من الأخرى، لذلك ينبغي أن يعرف أن الفتن لا تنحصر في لون واحد، في الجملة هي نوعان:
- فتن شبهات.
- فتن شهوات لو أردنا الحصر الإجمالي للفتن وصنوفها وأنواعها وجدناها تندرج تحت مظلتين، فتن الشبهات، وفتن الشهوات، والفرق بينهما:
أن فتن الشبهات تتعلق بالعلم والمعرفة، وأما فتن الشهوات تتعلق بالإرادة والقصد والرغبة.
كلاهما خطر على القلب، كلاهما مفسد للقلب إذا استسلم له الإنسان وبُلِي به، لكن فتن الشبهات أعظم خطرا وأشد إفسادا للقلب من فتن الشهوات، وكلاهما من أسباب هلاك القلب وفساده، يجب وقاية القلوب من هذا وذاك، اليوم حياة الناس مليئة بالنوعين من الفتن، فتن الشبهات بالأفكار المنحرفة، والآراء الصادة عن دين الله عز وجل من التشكيك والتشبيه والمعارضة لشرع الله تعالى والطعن في أحام الشريعة، والنيل من أولياء الله عز وجل، والاستهزاء بالصالحين، وما أِشبه ذلك من قائمة طويلة تتعلق بالشبهات، أما القسم الثاني من الفتن التي مُلئت بها حياة الناس اليوم، فتن الشهوات بشتى صورها، إن كان في مال، إن كان في نساء، إن كان في انحرافات عملية وسلوكية، كل ذلك مندرج تحت فتن الشهوات وهما مما يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم:« تعوَّذوا بالله من الفتن».
قولوا يا إخواني: نعوذ بالله من الفتن؛ فإنه لا نجاة الله لكم إن لم يعصمكم الله ويحميكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، إن الوقوع في الفتنة ليس خبطا عشوائيا، الوقوع في الفتنة له أسباب، لا يفتن الإنسان ويقع في فساد القلب وفساد العمل دون سبب، بل لابد من أسباب، خلق الله تعالى الخلق على الفطرة وهي محبة العبادة والإقابل عليها، قال صلى الله عليه وسلم : «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»[صحيح البخاري(1358)، ومسلم(2658/22)]
فكل إنسان مجبول على محبة الله في أصل الخلقة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم من حديث عياض بن حمار:« خلقت عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ »[صحيح مسلم(2865/63)] حنفاء: أي على الجادة مائلين عن الشرك، عن الفساد عن الانحرف، فاجتالتهم الشياطين: أي صرفتهم، أخذتهم يمينا وشمالا، أخرجتهم عن الصراط المستقيم، أي صرفتهم عن طريق الهدى إلى أنواع الانحرافات وسبل الغواية والضلال، «خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين»: أفادنا هذا أن الأصل في الناس الاستقامة، أن الأصل في الخلق الهداية، ثم الناس بعد ذلك ينشأون على أنواع من الصوارف تصرفهم عن طريق الاستقامة.
أعظم أسباب الانصراف عن الهدى: قبول القلب للفساد، فإن القلب إذا كان مستعدا للفساد، متهيئا لقبوله انصرف عن الحق والهدى، ولذك في حديث حذيفة الذي ذكرته قبل قليل في عرض الفتن على القلوب قال صلى الله عليه وسلم: "فأي قلب أُشربها" أشربها تصور هذا المنديل إذا أحضرنا له هذا الماء ووضع فيه تبلل وشرب الماء، هكذا يكون القلب مع الفتنة، يشربها يتشرب، يسحب كل الماء على قدر حجم القلب، على قدر حجم الاسفنجة أو المادة التي تتشرب الماء، يجتمع فيه الماء، كذلك القلوب في الفتن إذا كانت متهيأة ليست متحصنة بالله عز وجل أشربت الفتن كما شرب هذا المنديل الماء، وتخلل جميع أجزاء القلب، أيُّ قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، هذه النكتة هي غلاف على القلب يتبعه آخر، يتبعه آخر، حتى يصبح القلب مغلفا بطبقة السواد التي تحيط به نتيجة المعاصي والسيئات.
إذا الفتن لا تصيب القلوب بالفساد إلا إذا كانت القلوب متهيئة، إلا إذا كان في القلوب إقبال واستعداد لتشرب تلك الفتن، أما القلوب الحية فإنها ترد الفتنة، ولذلك أيما قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها ردها بصلابته وقوته نكتت فيه نكتة بيضاء، إذا الفتن لابد في عرضها على القلوب أن تترك أثرا، إما أثرا سيئا رديئا بأن يشربها القلب وتترك فيه نكتة سوداء، أو الأثر الآخر أثرا طيبا بما يكون في القلب من أثر طاعة الله عز وجل، لذة الإيمان التي تنعكس على القلب بياضا ونصاعة، هذا هو السبب الأول من أسباب الوقوع في الفتنة، استعداد القلوب.
الاستشراف لها: التعرض للفتنة، هنا سواء كانت فتنة خاصة أو فتنة عامة، فالذي مثلا يدخل إلى المواقع الإباحية يقول أرى هذا عرَّض نفسه للفتن، الذي يذهب لأماكن الشر والفساد العملي هذا عرض نفسه للفتنة، الذي يقرأ الكتب المنحرفة التي فيها الأفكار المعارضة للشريعة والمكذبة للدين هذا عرض نفسه للفتنة، هذه كلها أنواع من الاستشراف، واليوم يقال خلي الناس يطَّلعون، دعهم يرون، دعهم يدرون، حسنا لا بأس أن يقرؤوا وأن يطلعوا لكن إذا كانوا ذوي قدرة وبصر، أما أن تدخل من لا يحسن السباحة في موج متلاطم وتقول له: اسبح ودعه يتعلم السباحة، أنت تحكم عليه بالغرق، ليس صحيحا أن يفتح الباب للناس وأن يقال: هيا ادخلوا خذوا ماشئتم أنتم الآن بلغتم عقلا ورشدًا تستطيعون أن تأخذوا النافع من الضار، هذه فرضية ليست صحيحة، هي تماما لو ذهبنا جميعا، الآن منا من يعرف السباحة ومنا من لا يعرف السباحة، وذهبنا للبحر وركبنا السفينة فلما توسطنا قلنا الجميع يلقي بنفسه في البحر، من يعرف ومن لا يعرف السباحة، من لا يعرف السباحة يتعلم، ومن يعرف السباحة فالحمد لله سيقي نفسه، هل هذا من الحكمة في شيئ؟ هل هذا رشد؟ أليس هذا إلقاء بالنفس إلى التهلكة؟ كل أحد يقول نعم هذا إلقاء بالنفس إلى التهلكة، لكن في موضوع الديانة أن نفتح للناس كل أبواب الفساد، وكل أبواب الشر، سواء كان الشر العملي السلوك الأخلاقي، أو الشر الفكري العقدي نقول لا هم يميزون ويعرفون دعهم يرون حتى يعرفوا الخير من الشر، غير صحيح فتح أبواب الشر للناس بدعوى قدرتهم على التمييز، نحن في هذه الحال كمن أشعل النار في قش وتركه وقال سينطفئ من نفسه، أو سيتوقى الناس شره بكل سبيل من سبل التوقي، من الغلط أن تعرض نفسك للهلاك، عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسند أخبر عنه أنه كان في يده قطعة من التوراة، والتوراة من أشرف كتب الله عز وجل بعد القرآن، لم يأت ذكر كتاب في القرآن مثل ما جاء التوراة، ولذلك هو أعظم كتاب أنزله الله على رسول بعد القرآن، إلا أنه كتاب جرى فيه من التحريف والتعديل والتبديل والتغيير ماجرى مما أصبح لا يعرف فيه الحق من الباطل، رآه النبي صلى الله عليه وسلم وفي يده قطعة من بالتوراة فقال صلى الله عليه وسلم : «أمتهوكون فيها يابن الخطاب؟»[أخرجه أحمد في مسنده(15156)، وحسنه الألباني في الإرواء(1589)] أثقل الناس إيمانا بعد النبي في الأمة وبعد أبي بكر: عمر رضي الله عنه، ومع ذلك أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم مطالعته لهذه الكتب لما فيها من الانصراف عن الهدى الخالص، ولما فيها من التعريض للنفس بضلالات وانحرافات الإنسان عنها غني، ينبغي للمؤمن أن يبعد نفسه عن الفتن، سواء كانت فتن شهوات أو فتن الشبهات، ولذلك كان من علامات الآخرة ودلائل قرب الساعة أن يفر المؤمن بدينه من الفتن، لما تكثر يطلب مَفرًّا، والنبي صلى الله عليه وسلم قال في أعظم فتنة في الدجال قال: « فمن سمع به فلينأ عنه»[أخرجه أبو داو في سننه(4319)، وأحمد في مسنده(19982)، وقال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط مسلم, ولم يخرجاه] أي يبعد عنه، فلا يقول: آت وأريك أُحاجُّه وأقيم عليه وأبطل قوله، فإن الرجل يأتيه وهو مؤمن ولايزال يبعث فيه من الشبهات حتى يتبعه، وهذا فيه الخوف على الإيمان، لذلك لا تعجب حين يأتي خبر عن سعيد بن المسيب حين يأتيه رجل يقول: أقرأ عليك آية من أهل البدع، فيقول: ولا آية، حتى القرآن لا يسمعه منهم، فلا يسمع القرآن من المبتدع خشية أن يكون في ذلك ضرر أو ضلال، ويأتي آخر لمالك بن أنس -رضي الله عنه- يقول: أريد أن أناظرك، قال: اذهب فابحث عن دينك فإني قد هديت، ويمتنع عن مناظرته، كل هذا لأجل النأي بالنفس عن الفتن.
الآن نحن حصيلتنا ضحلة في غالب أمور الشريعة هذا هو المستوى العام، وتجد الواحد منا يقلب في القنوات مناظرة رافضي مع سني، ونصراني مع مسلم، ويقلب في الدنيا يقول أرى وأعرف، لا بأس إن كنت على حصيلة جيدة ومعرفة بالصواب من الخطأ وقواعد أن تعرف، لكن عندما تقدم وتدخل هذا البحر دون أن يكون عندك معرفة، ولا بصيرة ولا قواعد متينة تبني عليها أنت تعرض نفسك للهلاك.
أضرب مثالا :كلنا يتفق عليه:الآن هل يدخل أحدنا الحجر الصحي الذي يحجر فيه على المرضى مرضا معديا، ويقول: ما يضر أن أدخل وأرى المرضى وأخالطهم مع أنهم محجورون صحيا ؟ لا؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " فر من المجذوم فرارك من الأسد" وهو مرض عضوي، إذا ابتلي به الانسان فصبر كان له من الأجر عند الله ما يكتبه للصابرين، الأمراض الإيمانية القلبية أعظم خطراً ولذلك كان الوقاية منها أكبر وأوجب وألزم لمن يحافظ على دينه وإيمانه، ولهذا جاء التحذير في كلام النبي صلى الله عليه وسلم عن التعرض للفتن قَالَ: «سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ فَمَنْ وَجَدَ مِنْهَا مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ»[صحيح البخاري(3601) ، ومسلم(2886/10)]، مراتب التورط في الفتنة ( قعود - قيام – مشي – سعي) كلما كنت أبعد عن الفتنة كنت أسلم في دينك، وكنت أقرب إلى الخير، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر مراتب الناس : «من تشرف لها تستشرفه»، أي من تعرض لها تستذله وتأخذ بقلبه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: « فمن وجد منها ملجأً أو معاذا فليعذ به» ، وبهذا يصون الإنسان نفسه من الفتنة.
الغفلة عن أسباب الهداية: فإنه من غفل عن أسباب الهداية كان ذلك موقعا له في الفتن، فالذي يقصر في أسباب الهداية من الأذكار، قراءة القرآن، الصلاة، سائر الواجبات الشرعية، كل ذلك يجعل الإنسان ضعيف القلب، وإذا ضعف القلب تعرض للفتن وتوالت عليه أنواع الصوارف التي تصرفه عن الحق، لذلك كان من الضروري للمؤمن أن يأخذ بأسباب الهداية وأن يستكثر من أصحاب الصلاح، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث معقل بن يسار: « العبادة في الهرج كهجرة إلي»[صحيح مسلم(2948/130)] يعني العبادة في زمن الفتنة كهجرة إليّ، يعني يقول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا اشتغل الإنسان بالعبادة زمن الفتن وكثر الفساد في الناس هو في الأجر كما لو هاجر إليه صلى الله عليه وسلم زمن الهجرة المشروعة هذا في الأجر، وهو في الصيانة والأمان على دينه كما لو هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالعبادة زمن الفتن والشرور ويقصد العبادة بمفهومها العام عبادة القلب. وعبادة البدن: الاشتغال بالواجبات، والاشتغال بالمستحبات، والإقبال على الله تعالى وكثرة الدعاء وكثرة الذكر كلها مثبتات القلوب، إذا اشتغل بها الإنسان توقى شر الفتن، وحُفِظ منها وصان الله تعالى قلبه من الضلال، وإن ما ذكرته قبل قليل هو مجمل ما ترجع إليه أسباب الفتنة، فأسباب الفتنة إما أن تكون استعداد القلب، إما أن تكون الاستشراف، إما أن تكون للتقصير في أسباب الهداية، فإن التقصير في أسباب الهداية توقع في الانحراف والضلال.
من أسباب الوقاية من الفتن: اللجوء إلى الله، وصدق الإقبال عليه والتضرع بين يديه، ولذلك كان الدعاء بالسلامة من الفتنة كثيرًا في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان يعلِّم أصحابه الدعاء الذي يسألون الله تعالى فيه الوقاية من الفتن كما يعلمهم السورة من القرآن، هذا يظهر لنا أهمية هذا الدعاء، وضرورة الناس إليه، وأن الناس في حاجة ماسة إلى أن يسألوا لله تعالى أن يصونهم وأن يحفظهم، وأن يقيهم شر الفتن ما ظهر منها وما بطن.
الإنابة إلى الله عز وجل، فالإنابة إلى الله عز وجل بكثرة التوبة وكثرة الاستغفار تكسب القلب قوة وتكسبه صلاحا واستقامة وبذلك يتوقى الفتن.
المبادرة للأعمال الصالحة: لذلك جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ »[صحيح مسلم(118/168)] أي الأعمال الصالحة، كقطع الليل البهيم الذي لا يرى فيه شيئ لأنه مظلم وبهيم شديد الظلمة فلا يرى الإنسان فيه شيئا، الذي يعينه على الرؤية في هذا الظرف هو صلاح عمله، فانظر إلى عملك وصلتك بالله عز وجل، بادر إلى الصلاح والاستقامة، حافظ على الصلوت فالصلاة نور، والله تعالى قد جعل هذا النور في اليوم خمس مرات زادًا، تستزيد به كماتور الكهرباء تقويه، الآن الجوالات إذا انتهى الشحن تزيد الشحن بوضعها في موضع الشحن، كذلك القلوب تحتاج إلى شحن حتى يكون نورها مضيئا يميز به الإنسان بين الحق والباطل، وتشحن القلوب بالطاعة والإحسان، هذه الصلوات محطات يقف فيها الإنسان ليتزود، فكلما زادت صلاتك، وصلحت صلاتك إزداد نورك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الصلاة نور»[صحيح مسلم(223)]، فاستقلَّ واستكثِر، والنور يميز به الإنسان بين الحق والباطل، ويكشف الله تعالى به مواطن الضلال ويهديه به سبل السلام. استعمال التقوى: فإن الله تعالى قد أمر المؤمنين بالتقوى فقال: )وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً(. [الأنفال:25]، ووعد المتقين بالمخرج من كل ضيق، قال تعالى: )وَمَن يَتَّقِ اللَّـهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ([الطلاق:3]
وتقوى الله تجلب للإنسان الخير وتصرف عنه الشر، الاستجابة لله ولرسوله من أسباب الوقاية من الفتن، قال تعالى:)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّـهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖوَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(.[الأنفال:24]
لزوم السُّنة من أسباب الوقاية من الفتن، فكلما ازداد الإنسان لزوما للسنة وإقبالا عليها كان ذلك من دواعي سلامته من الفتن الظاهرة والباطنة.
دعاء الله صادقا بكل دعاء يهدى به إلى الرشد ويتوقى به من الشر يكون ذلك من أسباب وقايته من الفتن، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «تعوذوا بالله من الفتن»[سبق]
الخوف من الفتنة وعدم الأمن من مكر الله هو من أساب الوقاية من الفتن والهداية، ولذلك كان من دعاء الصالحين والنبيين الصادقين أن يتوفاهم الله تعالى على الإيمان، فهذا يوسف عليه السلام يقول: )تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ([يوسف:101]، وإبراهيم -عليه السلام- يدعو الله أن يقيه شرَّ الأصنام وعبادته ويقول: )وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ ([إبراهيم:35] لا تأمن على نفسك من الفتنة، فالخوف من الفتن سبيل عظيم للوقاية منها قال تعالى: )أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّـهِ ۚفَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّـهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ([الأعراف:99]
بقي لنا شيئ يسير مما يتعلق بالأسباب التي يتوقى بها الإنسان الفتن، ذكرنا جملة من الأسباب، ومن أبرزها: أن يدعو الإنسان الله عز وجل صادقا في أن يقيه من الفتن، أنت إذا قلت في آخر الصلاة: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ ».[صحيح البخاري(1377)، ومسلم(588/128)]
قلها بقلب حاضر وأبشر بعطاء الله عز وجل فإن الله لا يخيب من اعتصم به والتجأ، كثير من الناس يقولون الأذكار والأدعية دون تأمل ولا فكر ولا اعتبار، ولا حضور قلب فتكون ككلام يقوله دون أثر، ولا يكون له نفع، قد يؤجر عليه أجر الذاكر بلسانه، لكن لا يتذوق طعمه، ولا يعرف منزلته، ولا يجني ثماره.
إذا لم يكن ذا قلب حاضر، لذلك تنبه وكن على فطنة أن كل ذكر تقوله أو كل دعاء تقوله دون حضور قلب أن أثره ضعيف، تماما مثل السهم الذي في يد ضعيف الرمي لا يصل إلا إلى مدى قريب، لكن إذا كان ذا رمي قوي وهو نفس السهم هذا وذاك كلاهما رميا بسهمٍ واحد، لكن منهم من وصل آخر المرمى، ومنهم من لم يتجازو السهم موضع قدميه، الفرق بين هذا وذاك في قوة الرامي، فإذا قلت: أعوذ بالله من الفتن يتحرك قلبك قبل أن يتحرك لسانك، ليحضر قلبك في معنى هذا الدعاء قبل أن تنطق به وأنت غافل، فإن ذلك من دواعي حصول الإجابة والتوفيق إلى الهداية.
أن يُكثر المؤمن ذكر هادم اللذات، من أسباب توقي الفتن ذكر الموت، والنفاذ بالبصر إلى الآخرة، من أعظم أسباب الوقاية من الفتن، لأنه يذكر أنه سيقف بين يدي الله تعالى وسيسأله عن الدقيق والجليل، وسيحاسبه على ماكان منه من عمل، فيكون ذلك حاملا له على الاستقامة، حاملا له على الهداية، معينا له على مراجعة المسار، وتصويب الخطأ، وتقويم المعوج، والاستزادة في الخير.
الإقبال على القرآن العظيم من الأسباب العظيمة التي بها تحصل النجاة من الفتن، فبقدر ما يكون معك من الإقبال على كتاب الله عز وجل، بقدر ما تحيى روحك ويسلم قلبك، ويستنير فؤادك، وتبصر مواقع الهدى وتخرج من الظلمات إلى النور، يقول الله عز وجل في وصف رسوله: )ويُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ([المائدة:16]
أخرجهم بهذا الكتاب المبين، هذا النور العظيم الذي جعله الله تعالى رسالة لكل واحد من البشر، فكل واحد منا بين يديه رسالة من الله جل في علاه، بقدر ما يقبل على القرآن تلاوة، وحفظا، وفهما، وتدبرا، وعملا، ودعوة، ينال من الهداية، ويتوقى سبل الردى والضلالة، ولذلك نعجب أن كثيرا من الناس يقرؤون القرآن لكنهم لا يجدون له أثرا في سلوكهم، بسبب أن إقبالهم محصور على حروفه دون معانيه، على قرائته دون العمل به، فيكون القرآن ضعيف الأثر، القرآن من عظيم تأثيره يقول في رب العالمين: )وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ ۗبَل لِّلَّـهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا ۗ([الرعد:31] هذه الآية تبين عظيم تأثير القرآن، معنى الآية أنه لو أن هناك شيئا يقرأو يتلى، فتتحرك به الجبال أي تسير، أو تقطع به الأرض على عظيم صلابتها، أو يخاطب به الموتى فيقومون ويتكلمون، لو كان هناك شيئاً يفعل هذا التأثير لكان هذا القرآن، فالقرآن له من التأثير العظيم ما بينه رب العالمين في هذه الآية، وقال تعالى: )لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّـهِ (. فكيف بقلوبنا أين أثر القرآن فيها؟ غائب في كثير من الأحيان، السبب أن القرآن مغفول عنه، ثم إذا قرِئ، تقرأ ألفاظه دون فهم معانيه، وإذا قُرِئ كان في اللسان دون أن يكون في القلب والجوراح، وبالتالي ضعف أثره، القرآن أعظم أسباب الهداية، ولذلك يقول الله لرسوله: )قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا(. [النحل:102]
فالقرآن تثبيت للقلوب، وجعل فيه من القصص والأخبار ما يجعل القلوب في غاية الحضور، قال تعالى: )وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ(.[هود:120]
يثبت الفؤاد، ويحفظه من المزللات والمزيغات والمضلات، كل ذلك من فضل الله عز وجل، والمؤمنون الصادقون تتحرك قلوبهم عندما يستمعون إلى القرآن، قال تعالى: )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّـهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا(.[الأنفال:2]
وأعظم ذكر الله تلاوة آياته، هكذا يكون المؤمن مع القرآن في زيادة وخير، أما من يقرؤه فلا يجد له أثرا في سلوكه ولا في عمله، فذاك المنقوص الذي يُصد عن القرآن إما غافلا أو خاسرا.
التحلي بالصبر من أسباب الوقاية من الفتن، ولذلك كان أعظم ما يعطاه العبد الصبر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: « وما أعطي أحد عطاء خيرا ولا أوسع من الصبر»[سنن النسائي الصغرى(2587)، وصححه الألباني]
فعطاء الصبر أعظم عطاء يعطيه الله تعالى العبد ويوفقه؛ لأن بالصبر يتوقى الشبهات، وبالصبر يتوقى الشهوات، وبالصبر يقوم بالطاعات، وبالصبر يتوقى السيئات، وبذلك يبلغ أعلى الدرجات، فيكون من الذين قال فيهم -جل في علاه-: )إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ(.[الزمر:10]
هذه جملة من المسائل التي تتعلق بالتعوذ بالله من الفتن.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعيذنا وإياكم من الفتن، وأن يرزقنا وإياكم قلوبا سليمة، وأن يحفظنا وإياكم فيما بقي من أعمالنا، وأن يغفر لنا ما كان من الخطأ والزلل، وأن يجعلنا من أوليائه المتقين وحزبه المفلحين وعباده الصالحين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.