ولهذا قال بعده: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} يعني: يقطعون الصخر بالوادي. قال ابن عباس: ينحتونها ويخرقونها. وكذا قال مجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد. ومنه يقال: "مجتابي النمار". إذا خرقوها، واجتاب الثوب: إذا فتحه. ومنه الجيب أيضا. وقال الله تعالى: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} الشعراء:149. وأنشد ابن جرير وابن أبي حاتم هاهنا قول الشاعر:
ألا كُلّ شيء -ما خَلا الله-بائدٌ ... كَما بَاد حَيٌّ من شنيف ومارد ...
هُم ضَرَبُوا في كُلِّ صَمَّاء صَعدة ... بأيد شِدَاد أيّدات السَّواعد
وقال ابن إسحاق: كانوا عربا، وكان منزلهم بوادي القرى. وقد ذكرنا قصة "عاد" مستقصاة في سورة "الأعراف" بما أغنى عن إعادته.
وقوله: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ} قال العوفي، عن ابن عباس: الأوتاد: الجنود الذين يشدون له أمره. ويقال: كان فرعون يوتد أيديهم وأرجلهم في أوتاد من حَديد يعلقهم بها. وكذا قال مجاهد: كان يوتد الناس بالأوتاد. وهكذا قال سعيد بن جبير، والحسن، والسدي. قال السدي: كان يربط الرجل، كل قائمة من قوائمه في وتد ثم يرسل عليه صخرة عظيمة فتشدخه.
وقال قتادة: بلغنا أنه كانت له مَطَالٌّ وملاعب، يلعب له تحتها، من أوتاد وحبال.
وقال ثابت البناني، عن أبي رافع: قيل لفرعون {ذِي الأوْتَادِ} ؛ لأنه ضرب لامرأته أربعة أوتاد، ثم جعل على ظهرها رحى عظيمة حتى ماتت.
وقوله: {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} أي: تمردوا وعتوا وعاثوا في الأرض بالإفساد والأذية للناس، {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} أي: أنزل عليهم رجزا من السماء، وأحل بهم عقوبة لا يردها عن القوم المجرمين.
وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} قال ابن عباس: يسمع ويرى. يعني: يرصد خلقه فيما يعملون، ويجازي كلا بسعيه في الدنيا والآخرى، وسيعرض الخلائق كلهم عليه، فيحكم فيهم بعدله، ويقابل كلا بما يستحقه. وهو المنزه عن الظلم والجور.
وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديثًا غريبًا جدًا -وفي إسناده نظر وفي صحته-فقال: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن أبي الحواري، حدثنا يونس الحذاء، عن أبي حمزة البيساني، عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معاذ، إن المؤمن لدى الحق أسير. يا معاذ، إن المؤمن لا يسكن روعه ولا يأمن اضطرابه حتى يُخَلَّف جسر جهنم خلف ظهره. يا معاذ، إن المؤمن قيده القرآن عن كثير من شهواته، وعن أن يهلك فيها هو بإذن الله، عز وجل، فالقرآن دليله، والخوف محجته، والشوق مطيته، والصلاة كهفه، والصوم جنته، والصدقة فكاكه، والصدق أميره، والحياء وزيره، وربه، عز وجل، من وراء ذلك كله بالمرصاد".
قال ابن أبي حاتم: يونس الحذاء وأبو حمزة مجهولان، وأبو حمزة عن معاذ مرسل. ولو كان عن أبي حمزة لكان حسنًا. أي: لو كان من كلامه لكان حسنًا. ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا صفوان بن صالح، حدثنا الوليد بن مسلم، عن صفوان بن عمرو، عن أيفع بن عبد الكلاعي: أنه سمعه وهو يعظ الناس يقول: إن لجهنم سبع قناطر -قال: والصراط عليهن، قال: فيحبس الخلائق عند القنطرة الأولى، فيقول: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} الصافات:24، قال: فيحاسبون على الصلاة ويُسألون عنها، قال: فيهلك فيها من هلك، وينجو من نجا، فإذا بلغوا القنطرة الثانية حُوسبوا على الأمانة كيف أدوها، وكيف خانوها؟ قال: فيهلك من هلك وينجو من نجا. فإذا بلغوا القنطرة الثالثة سُئلوا عن الرحم كيف وَصَلُوها وكيف قطعوها؟ قال: فيهلك من هلك وينجو من نجا. قال: والرحم يومئذ متدلية إلى الهُويّ في جهنم تقول: اللهم من وصلني فَصِلْه، ومن قطعني فاقطعه. قال: وهي التي يقول الله عز وجل: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} .
هكذا أورد هذا الأثر، ولم يذكر تمامه.