إِنَّ الحَمْدَ للهِ, نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ, وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا وَسَيِّئاتِ أَعْمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ إِلَهُ الأَوّلِِينَ وَالآخِرِينَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ, وَأَشَهْدَ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ اللَّهُمَّ صَلَّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِ مُحَمَّدٍ كَما صَلَّيْتَ عَلَى إِبْراهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْراهِيمَ إِنّكَّ حَمِيدٌ مَجِيدٌ, أَمَّا بَعْدُ:
فاتَّقُوا اللهَ أَيُّها المؤْمِنونَ, وَالْزَمُوا صِراطَهُ المسْتَقِيمَ, وَعَلَيْكُمْ ِبهدْيِ خَيْرِ الأَنامِ مُحَمَّدٍ الأَمِينِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَقَدْ زَكَّاهُ اللهُ في كِتابِهِ وَذَكَرَهُ بِأَفْضَلِ الذِّكْرِ وَأَكْمَلِ الوَصْفِ ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: 29] . اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْهُمْ, وَاسْلُكْ بِنا سَبِيلَهُمْ, وَاجْعَلْنا يا رَبَّ العالمينَ مِمَّنْ حَمَلَ هَدْيَهُمْ وَعَمِلَ بِعَمَلهِمْ يا ذا الجَلالِ وَالإِكْرامِ.
أَيُّها المؤْمِنُونَ, أَصْحابُ النَّبِيِّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-هُمْ خَيْرُ قَوْمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضاهُمْ, فَضائِلُهُمْ عَظِيمَةٌ, وَمَنْزِلَتُهُمْ كَبِيرَةٌ؛ فَهُمْ في الفَضْلِ أَعْلَى مَراتِبَ الأُمَّةِ «خَيْرُ القُرونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» البُخارِيُّ(2651), وَمُسْلِمٌ(2535) هِكِذا قالِ النَّبِيُّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-وَخَيْرُ أُولَئِكَ الرَّهْطِ خَيْرُ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ: أَبُو بَكْرٍ الصَّدِّيقُ صِدِّيقُ هَذِهِ الأُمَّةِ
خَيْرَ الْبَرِّيَّةِ أَتْقَاهَا وَأَعْدَلَهَا ... بَعْدَ النَّبِيِّ وَأَوْفَاهَا بِمَا حَمَلَا
وَالثَّانِيَ التَّالِيَ الْمَحْمُودَ مَشْهَدُهُ ... وَأَوَّلَ النَّاسِ مِنْهُمْ صَدَّقَ الرُّسُلَا قالَهُما حَسَّانُ بْنُ ثابِتٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ ح(33885) .
أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ صاحِبُ رَسُولِ اللهِ وَخَلِيفَتُهُ صَحِبَ النَّبِيَّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-في الجاهِلِيَّةِ وَالإِسْلامِ هُوَ أَعْظَمُ الصَّحابَةِ اجْتِماعًا بِالَّنِبِّي –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-كانَ مَعَهُ لَيْلًا وَنَهارًا حَضَرًا وَسَفَرًا, لازَمَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حَياةَ النَّبِيِّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-فَلَمْ يُفارِقِ النَّبِيَّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-في مَشْهَدٍ ,كانَ مَعَهُ في مَكَّةَ قَبْلَ الهِجْرَةِ مُعِينًا وَنَصِيرًا وَكانَ مَعَهُ في الهِجْرَةِ إِلَى المدِينَةِ رَفِيقًا شَفِيقًا وَكانَ مَعَهُ في المدِينَةِ عَضِيدًا وَزِيرًا, لَهُ مِنَ الفَضائِلِ وَالمناقِبِ ما لَمْ يَبْلُغْهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحابَةِ؛ فَقَدْ كانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجالِ وَأَسْلَمَ مِنَ الصَّحابَةِ عَلَى يَدَيْهِ خَمْسَةٌ مِنَ العَشَرَةِ المبَشَّرِينَ بِالجَنَّةِ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ عُثْمانُ بْنُ عَفَّانٍ وَالزُّبَيْرُ بْنُ العَوَّامِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ كُلُّ هَؤُلاءِ أَسْلَمُوا عَلَى يَدَيْهِ, أَجْرَى اللهُ تَعالَى عَلَى يَدَيْهِ خَيْرًا عَظِيمًا وَفَضْلًا كَبِيرًا شَهِدَ المشاهِدَ كُلَّها مَعَ النَّبِيِّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-وَلمَ ْيفُارِقْهُ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-في مَنْزِلَةٍ وَلا في مَكانٍ, بَلْ قَدْ قالَ اللهُ تَعالَى فِيهِ: ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: 40] وَالإِجْماعُ مُنْعَقِدٌ لا خِلافَ بَيْنَ أَهْلِ الإِسْلامِ أَنَّ المرادَ بِقَوْلِهِ –جَلَّ وَعَلا-﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ﴾ أَنَّهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. يُنْظَرُ تَفْسِيرُ الطَّبَرِيُّ(14/258), وَالسَّعْدِيُّ ص(337).
فَقَدْ شَهِدَ اللهُ لَهُ بِالصُّحْبَةِ وَلَمْ يَبْلُغْ هَذا أَحَدٌ مِنْ أَصْحابِ النَّبِيِّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلُّمَ-.
أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كانَ حِبَّ رَسُولِ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-, وَكانَ أَقْرَبَ النَّاسِ لَهُ, فَكانَ في صُحْبَتِهِ عَلَى غايَةِ البَذْلِ وَالعَطاءِ وَالتَّفانِي في خِدْمَةِ رَسُولِ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-وَنُصْرَتِهِ بِنَفْسِهِ وَمالِهِ وَما يَسْتَطِيعُ حَتَّى أَنَّ النَّبِيَّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-قالَ فِيهِ: «إنَّ مِن أمنِّ النَّاسِ عليَّ في صُحبتِهِ ومالِهِ أبو بَكْرٍ ، ولو كُنتُ متَّخذًا خليلًا ـ أَيٌّ مِنَ النَّاسِ ـ لاتَّخَذْتُ أَبا بَكْرٍ خَلِيلًا وَلَكِن أُخُوَّةُ الإِسْلامِ» البُخارِيُّ(3654), ومُسْلِمٌ(2382)، وَقَدْ قالَ النَّبِيُّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-في شَهادَتِهِ لأَبِي بَكْرٍ وَعَظِيمِ تَصْدِيقِهِ وَكَبِيرِ فَضْلِهِ «إنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إلَيْكُمْ فَقُلتُمْ: كَذَبْتَ، وقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ، ووَاسَانِي بنَفْسِهِ ومَالِهِ، فَهلْ أنتُمْ تَارِكُوا لي صَاحِبِي؟ مَرَّتَيْنِ» البُخارِيُّ(3661).
أَيُّها المؤْمِنُونَ, إِنَّ أَبا بَكْرٍ الصِّدِيقَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمْ يُحَصِّلْ تِلْكَ المنْزِلَةَ وَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ المكانَ إِلَّا بِجِدٍّ وَإِخْلاصٍ وَصِدْقٍ وَتَصْدِيقٍ وَجِهادٍ وَصَبْرٍ وَهِمَّةٍ عالِيَةٍ وَرَغْبَةٍ صادِقَةٍ وَأَعْمالٍ صالِحَةٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ.
إِنَّ أَبا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كانَ ذا يَدٍ باذِلَةٍ وَعَيْنٍ باكِيَةٍ, جَمَعَ اللهُ لَهُ الفَضائِلَ وَجَمَعَ لَهُ الخَيْراتِ ظاهِرًا وَباطِنًا, فَقَدْ كانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى كَمالِ التَّصْدِيقِ في قَلْبِهِ وَتَمامِ الاتِّباعِ وَالمحَبَّةِ لِلنَّبِيِّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-في ظاهِرِهِ في صَباحٍ مِنَ الأَيَّامِ قالَ النَّبِيُّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-لأَصْحابِهِ «مَن أصْبَحَ مِنْكُمُ اليومَ صائِمًا؟ قالَ أبو بَكْرٍ: أنا، قالَ: فمَن تَبِعَ مِنْكُمُ اليومَ جِنازَةً؟ قالَ أبو بَكْرٍ: أنا، قالَ: فمَن أطْعَمَ مِنكُمُ اليومَ مِسْكِينًا قالَ أبو بَكْرٍ: أنا، قالَ: فمَن عادَ مِنْكُمُ اليومَ مَرِيضًا قالَ أبو بَكْرٍ: أنا، فقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: ما اجْتَمَعْنَ في امْرِئٍ إلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ» مُسْلِمٌ(1028) أَيُّ ما اجْتَمَعْنا لأَحَدٍ في يَوْمٍ إِلَّا كانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِدُخُولِ الجَنَّةِ، فَهذا اشْتِغالٌ بِصَلاحِ الصِّلَةِ بِاللهِ صِيامًا وَصَلاحِ الصَّلِةِ بِالخَلْقِ صَدَقَةً وَإِحْسانًا وَاتِّباعًا لِلجَنائِزِ وَأَداءً لِحُقُوقِ المسْلِمينَ.
أَيُّها المؤْمِنونَ, عَنْدَ الصَّباحِ يَحْمَدُ القَوْمُ السُّرَى فَأَبُو بَكْرٍ سابِقٌ إِلَى الخَيْراتِ يُدْعَى يَوْمَ القِيامَةِ مِنْ أَبْوابِ الجَنَّةِ الثَّمانِيَةِ ذاكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ اللَّهُمَّ أَلْهِمْنا رُشْدَنا وَقِنا شَرَّ أَنْفُسِنا تَبِّعْنا آثارَ الصَّالحينَ وَاسْلُكْ بِنا سَبِيلَهُمْ يا رَبَّ العالمينَ، أَقُولُ هَذا القَوْلَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالِمينَ, نَحْمَدُهُ حَقَّ حَمْدِهِ لا أُحْصِي ثَناءً عَلَيْهِ هُوَ كَما أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ إِلَهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ, الَّلهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَما صَلَّيْتَ عَلَى إِبْراهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْراهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
أَيُّها المؤْمِنُونَ عِبادَ اللهِ, إِنَّ أَبا بَكْرٍ الصِّديقَ خَيْرُ الأُمَّةِ بَعْدَ النَّبِيِّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-إِيمانًا وَتَصْدِيقًا، أَبُو بَكْرٍ أَعْظَمُ الأُمَّةِ صَبْرًا بَعْدَ النَّبِيِّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-وَأَثْبَتُهُمْ يَقِينًا وَأَعْظَمُهُمْ إِيمانًا, وَشَواهِدُ ذَلِكَ في سِيرَتِهِ وَعَمَلِهِ في زَمَنِ النَّبِيِّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-وَبَعْدَ وَفاتِهِ كَثِيرَةٌ عَدِيدَةٌ.
فقد ثبَّتَ اللهُ تَعالَى بِأَبِي بَكْرٍ صَحابَةَ رَسُولِ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-لماَّ أَدْهَشَ عُقُولَهُمْ وَفاةُ النَّبِيِّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-وَارْتَجّْتِ أَفْئِدَتُهْمْ وَزُلْزِلَتْ أَقْدامُهُمْ لماَّ سَمِعُوا مَوْتَ النَّبِيِّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-قامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ تَحَقَّقَ مِنْ وَفاةِ النَّبِيِّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-وَقالَ لَهُ بَعْدَ أَنْ قَبَّلَهُ طِبْتَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي حَيًّا وَمَيْتًا يا رَسُولَ اللهِ.
خَرَجَ إِلَى الصَّحابَةِ وَهُمْ في أَمْرٍ مَرِيجٍ بَيْنَ قائِلٍ إِنَّهُ قَدْ ماتَ وَبَيْنَ قائِلٍ إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-, فَقالَ بَعْدَ حَمْدِ اللهِ وَالثَّناءِ عَلَيْهِ:" أَلا مَنْ كانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ ماتَ" قالهَا أَبُو بَكْرٍ بِيَقِينٍ ثابِتٍ مَعَ أَنَّهُ أَعْظَمُ الصَّحابَةِ مَحَبَّةً لِلنَّبِيِّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-لَكِنَّهُ الإيمانُ الرَّاسِخُ في قَلْبِهِ الَّذِي جَلَّى لَهُ ما الْتَبَسَ عَلَى غَيْرِهِ فَقامَ بَيْنَ أَصْحابِهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-مَقامًا ثَبَّتَ اللهُ بِهِ قُلُوبَهُْم وَبَصَرَهُمْ بِهِ مِنَ العَمَى وَهَداهُمْ بِهِ مِنَ الارْتِيابِ وَالشَّكِّ الَّذِي أَصابَهُمْ فَقالَ:" أَلا مَنْ كانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ ماتَ, وَمَنْ كانَ يَعْبُدُ اللهَ فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ" كَلِماتٌ مٌوجَزَةٌ أَدَّتِ الغَرَضَ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ وَأَوْضِحِ بَيانٍ وَأَرْسَخِ إِيمانٍ وَيَقِينٍ ثُمَّ تلَا عَلَيْهِمْ قَوْلَ اللهِ تَعالَى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر: 30] وَقَوْلَهُ –جَلَّ وَعَلا-: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 144], وَالحَدِيثُ أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ (3667) .
فَكَشَفَ اللهُ بِهِ عَنْهُمْ الاضِّطِرابَ؛ فَآمَنَ الصَّحابَةُ بِالخبَرِ وَأَيْقَنُوا بِصِدْقِ ما بَلَغَهُمْ مِنْ وَفاةِ النَّبِيَّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-وَثابَ النَّاسُ إِلَى كَلامِهِ وَأَخَذُوا بِقَوْلِهِ فَصَلُّوا عَلَى رَسُولِهِمْ صَلَواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا فَكانَ أَنْ بايَعَ الصَّحابَةُ أَبا بَكْرٍ خَلِيفَة للنبي –صلى الله عليه وسلم-.
وَقَدْ قالَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ أَنَّ خِلافَةَ أَبِي بَكْرٍ لِلنَّبِيِّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-كانَتْ بِالنَّصِّ الصَّرِيحِ, وَقالَ آخَرُونَ بَلْ كانَتْ بِالإيماءِ وَالتَّنْبِيهِ لِبَيانِ فَضْلِهِ فَمِمَّنْ قالَ بِالإِشْارَةِ: الحَسَنُ البِصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى وَجَماعَةٌ مِنْ أَهْلِ الحَدِيثِ, وَهُوَ رِوايَةٌ عَنِ الإِمامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَمِمَّنْ قالَ بِالنَّصِّ الجَلِيِّ: أَهْلُ الحَدِيثِ, وَابْنُ حَزْمٍ.يُنْظَرُ: الفَصْلُ في المِلَلِ(4/107), وَمِنْهاجُ السُّنَّةِ(1/134), تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (1/125) .
فَالنَّبِيُّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-اخْتارَهُ يُصَلِّي بِأَصْحابِهِ في أَيَّامِ مَرَضِهِ.
وَثَمَّةَ شَواهَدُ عَدِيدَةٌ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ المصْطَفَي لِلنَّبِيِّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-في الخِلافَةِ؛ فاجْتَمَعَ عَلَيْهِمُ الصَّحابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَبِايَعُوهُ فَكانَتْ خِلافَتُهُ خِلافَةَ رُشْدٍ وَإِقامَةَ حَقٍّ عَلَى مِنْهاجِ النُّبُوَّةِ.
كانَ أَبُو بَكْرِ رَضِيَ اللهَُ عَنْهُ جَبَلًا شامِخًا لا تُزَعْزِعُهُ العَواصِفُ وَلا تَسْتَفِزُّهُ الأَزَماتُ كانَ رَابِطَ الجَأْشِ سَدِيدَ الرَّأْيِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَما أَنْ ذَاعَ نَبَأُ مَوْتِ النَّبِيِّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-في الأَنْصارِ حَتَّى ارْتَدَّ أَحْياءٌ مِنَ العَرَبِ وَامْتَنَعَ قَوْمٌ مِنْ دَفْعِ الزَّكاةِ وَظَهَرَ النِّفاقُ وَتَرَبَّصَ اليَهُودُ وَالنَّصارَى لأَهْلِ الإِسْلامِ لما أَصابَهُمْ مِنْ جَلِيلِ خَطْبٍ، وَلَكِنَّ اللهَ قَيَّضَ أَبا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَأَمْضَى ماكانَ النَّبِيُّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-قَدْ عَقَدَ لِوائَهُ فَإِنَّ النَّبِيَّ قَبْلَ مَوْتِهِ عَقَدَ اللِّواءَ لأُسامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَوَجْهُهُ إِلَى الشَّامِ لَكِنَّهُ ماتَ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-قَبْلَ أَنْ يَمْضِي، فَكانَ أَوَّلُ ما عَمِلَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ أَمْضَى ذَلِكَ بَعْدَ وَفاةِ النَّبِيِّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. يُنْظَرُ: البِدايَةُ وَالنِّهايَةُ(9/423)ط هَجَرَ. وَقِصَّةُ إِنْفاذِ البَعْثِ كامِلَةً ذَكَرَها الحافِظُ في المطالِبِ مُسْنَدَةً (2149) وَعَزاهُ لِعَبْدِ الرَّزَّاقِ. وَرِجالُ إِسْنادِهِ ثِقاتٌ غَيْرَ أَنَّه مُرْسَلٌ. وَبِنَحْوِها أَخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ في الاعْتِقادِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْصُولاً ص(345) وَلايَصِحُّ؛ فَعِبَّادُ هُوَ الثَّقَفِيُّ المتْرُوكُ بِالاسْتِقْراءِ. وَقالَ ابْنُ كَثِير:"عَبَّادُ بْنُ كَثِيرٍ هَذَا أَظُنُّهُ الرَّمْلِيَّ ; لِرِوَايَةِ الْفِرْيَابِيِّ عَنْهُ، وَهُوَ مُتَقَارِبُ الْحَدِيثِ، فَأَمَّا الْبَصْرِيُّ الثَّقَفِيُّ فَمَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. .
ثُمَّ إِنَّهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لما رَأَى ما رَأَى مِنَ امْتِناعِ مَنِ امْتَنَعَ وَرِدَّةَ مَنِ ارْتَدَّ عَنِ الإِسْلامِ سَيَّرَ إِلَيْهِمْ مَنْ يُعِيدُهُمْ إِلَى الصَّوابِ وَيعُيدُهُمْ إِلَى حِياضِ الإِسْلامِ ويَنَفْيِ عنَهُمْ كٌلَّ رَيْبٍ وَشَكٍّ فَحارَبَ المرْتَدِّينَ وَأَقامَ للهُ قَوْمَةً حَفِظَ اللهُ بِها الدِّينَ؛ فَرَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضاهُ.
سارَ في الخِلافَةِ عَلَى نَحْوٍ رَفِيقٍ رَشِيدٍ حَتَّى أَتاهُ اليَقِينُ فَلَحِقَ بِصاحبَهِ بَعْدَ سَنَتَيْنِ وَبِضْعَةِ أَشْهُرٍ.
هَكذا كانَتْ خِلافَتُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْه عَلَى نَحْوٍ مِنَ الرِّفْقِ وَإِقامَةِ الحَقِّ وَالصِّيانَةِ للِدِّينِ ما ثَبَّتَ اللهُ بِهِ الإِسْلامَ وَأَهْلَهُ؛ فَرَضِيَ اللهُ عَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَأَلْحَقَنا بِه في جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَجَمَعَنا بِهِ مَعَ سَيِّدِ المرْسَلِينَ نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ وَمَعَ آلِهِ وَأَصْحابِهِ الكِرامِ أَجْمَعِينَ.
الَّلهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفافَ وَالرَّشادَ وَالغِنَى، اللَّهُمَّ امْلَأْ قُلُوبَنا بِمَحَبَّة نَبِيِّكَ وَمَحَبَّةِ أَصْحابِهِ وَالسَّيْرِ عَلَى هَدْيِهِمْ وَالعَمَلِ بِسُنَّتِهِمْ وَالذَّبِّ عَمَّا كانُوا عَلَيْهِ مِنْ هُدَى يا رَبَّ العالمينَ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُك الهُدَى والتُّقَي وَالعَفافَ وَالرَّشادَ وَالغِنَى، رَبَّنا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسِرينَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنا وَلِإخْوانِنا الَّذينَ سَبَقُونا لِلإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ في قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذينَ آمِنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطانِنا وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنا وَوُلاةَ أُمُورِنا وَاجْعَلْ وِلايَتَنا فِيمَنْ خافَكَ واتَّقاكَ وَاتَّبَعَ رِضاكَ يا رَبَّ العالمين، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ الأَمُورِ إِلَى ما فيهِ خَيْرُ العِبادِ وَالبِلادِ اجْمَعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الحَقِّ وَالهُدَى أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَأَصْلِحْ ذاتَ بَيْنِهِمْ وَيَسَّرِهُمْ لما فِيهِ خَيْرُ العِبادِ والبِلادِ.
الَّلهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الفِتَنِ ما ظهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ، اللَّهُمَّ إِذا أَرَدْتَ بِعِبادِكَ فِتْنَةً فاقْبِضْنا إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونِينَ يا رَبَّ العالمينَ، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ حالَ إِخْوانِنا في كُلِّ مَكانٍ، اللًّهًمَّ أَنْجِ المسْتَضْعَفِينَ في سُورِيَّا وَفي العِراقِ وَفي سائِرِ البُلْدانِ يا رَبَّ العالمينَ، اللَّهُمَّ ائْذَنْ بِنَصْرِ الإِسْلامِ وَأَهْلِهِ يا رَبَّ العالمينَ، أَعِزَّ رَايَةَ الإِسْلامِ في كُلِّ مَكانٍ وَأَذِلَّ الكُفْرَ وَالمشْرِكِينَ يا رَبَّ العالمينَ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَما صَلَّيْتَ عَلَى إِبْراهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْراهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.