وقفة مع قول الله تعالى:)يمنون عليك أن أسلمواْ(
)يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(سورة الحجرات، الآية:18
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فأسأل الله تعالى أن يعفو عني وعنكم، وأن يرزقنا وإياكم البصيرة في الدين، وأن يعيننا على ما فيه الخير لأنفسنا، والخير للبشرية كآفة.
أيها الأحباب! الكلمة التي سألقيها، لن تتجاوز العشرة دقائق إن شاء الله تعالى، هذا الذي آمله".
وهي في الحقيقة تذكير لي ولكم، بما ذكّر الله تعالى به المؤمنين، في هذه السورة العظيمة [سورة الحجرات]
يقول الله تعالى مخبراً عن قومٍ، أتوا النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقالواْ له: يا محمد؛ نصرناك حين عداك الناس، ولم نقاتلك حين قاتلك الناس، وأسلمنا وآمنا حين كفر الناس.
فأنزل الله تعالى الآية في سورة الحجرات:)يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ(
هذه الآية الكريمة كانت جوابًا لنازلة، هذه النازلة والحادثة ليست خاصة بأولئك الذين جاءوا وقالوا هذا الكلام للنبي صلى الله عليه وسلم، هو معالجة لشعور يملأ صدور كثير من الناس ممن يوفقهم الله تعالى للطاعة، كثير ممن يوفق للطاعة، يشعر بنوعٍ من الفرح، والفرح بالطاعة عبادة؛ لأن من سرَّته حسنته، وساءته سيئته، فهو المؤمن.
لكن هذا الفرح قد يزيد إلى حدٍ يُنسى الإنسان فضل الله عليه بالطاعة، فيظن أن التوفيق للطاعة، والعمل بالصالح، إنما هو كسب يده، إنما هو جهده، إنما هو من نفسه، فينسى فضل الله عليه الذي اصطفاه، واختاره، وجعله من عباده المتقين، وجعله من أوليائه المؤمنين، الله تعالى يقول: )ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا(سورة فاطر، الآية:32.
فالله تعالى اصطفى من عباده من أورثهم الكتاب، وكل مسلمٍ فقد أورثه الله تعالى الكتاب، لأن الله تعالى قسم الذين أورثهم الكتاب، إلى ثلاثة أقسام:
1- فمنهم ظالم لنفسه.
2- ومنهم مقتصد.
3- ومنهم سابق بالخيرات.
فالله تعالى يصطفي للهداية من يشاء من عباده، ويمن عليه بشرح صدره للاستقامة، فينبغي للمؤمن المشتغل بالطاعة أن يكون بين عينيه فضل الله عليه، حتى لا يغفل عن هذا الحقيقة التي إذا غفل عنها انطمست بصيرته وعمي قلبه)قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي(سورة القصص الآية :87 ، وأُعجِب بعمله، عندما يعجب الإنسان بالعمل يحبط.
ومن أعظم ما يحبط العمل، وأسرع ما يهدم البناء الإعجاب بالنفس، الإعجاب بالعمل، الإدلال بعملك على الله، أن تمن بعملك على الله تعالى.
الله هو الذي تفضل عليك لذلك يقول تعالى: )بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ(سورة الحجرات، الآية:17.
لم يذكر الله تعالى في سياق النعم؛ التي أنعمها على عباده المن )وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ(سورة النحل الآية : 53نعمة السمع، البصر، الصحة، العافية، المال، الولد، الوظيفة، الأزواج، الأهل، العشيرة، الأمن، سائر ما أنعم الله تعالى به علينا، لم يذكر المن على عباده في شيء، من تلك النعم.
إلا نعمة الهداية هي الوحيدة؛ التي جاء فيها بصيغة المن، لأنها النعمة العظيمة، التي لا يقوم لها شكر العبد مهما فعل؛ فالعبد مهما فعل شكراً لله تعالى، على نعمة الهداية لن يكافئ الله حقه.
ولذلك إذا وجدت من نفسك إقبالاً على الطاعة، فبادر إلى شكر الله (عزَّ وجلَّ)، فإن كثيرين من خلق الله، يتمنون الذي أنت فيه، وذاك فضل الله، فإن الله هو الذي يلقي في قلب العبد النور، الذي يحمله على الاستقامة والطاعة.
يقول الله تعالى: )أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ(سورة الأنعام، الآية:122
هو الذي أحيا قلوبنا، فجعلنا نأتي إلى صلاة المغرب.
كم هم الذين في الشوارع، والأسواق، وفي بيوتهم، واستراحاتهم، وفي أماكن عملهم، لم يفكروا أن يأتوا إلى المساجد، أضعاف مضاعفة.
فلماذا جئت أنت؟ إنه فضل الله عليك)أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ(سورة الأنعام، الآية:122لا والله لا يستويان، ليس هذا كذاك، فينبغي للمؤمن أن يستحضر نعمة الله تعالى عليه بالهداية
يقول الله تعالى: )حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً (سورة الحجرات، الآية: 7و8 .
هذه الهداية للطاعة، الهداية للعمل بالصالحات، الهداية لكراهية المعصية، هي فضل من الله، هي نعمة من الله، تستوجب الشكر، نحن الآن حينما ينعم الله علينا؛ بولد مثلاً، لمن لم يعطه ولد، ينعم الله عليه بمال، نجد سرورًا، نقول: الحمد لله، الله رزقنا كذا.
فأعظم من كل رزق رزق الهداية، ولكم هذا المثل، في سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) لما فرغ النبي، (صلى الله عليه وسلم) من غزوة حنين، قسم الفيء، الذي أفاء الله تعالى به عليه، على جماعة من العرب؛ ممن أسلم، لاسيما من كان حديث عهدٍ بكفر، تأليفاً لهم، فرَّق بينهم الفيء، ولم يعط الأنصار شيئاً، فوجد بعض الأنصار في نفوسهم شيئاً، من أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أعطى غالب العرب، ولم يعطهم شيئاً، فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وسلم)، فجمعهم فقال لهم: (صلى الله عليه وسلم) مذكراً بالنعمة ،قال:»ألم تكونوا ضلّالاً فهداكم الله بي، فأرخوا رؤوسهم»، وهم في مثل هذا المجلس يبكون، ولا يجدون إلا أن يجيبواْ بقولهم :«الله ورسولُه أَمَنُّ»[ صحيح البخاري(4330)، ومسلم(1061/139)]
أى نعمة الله علينا، بالهداية ونعمة النبي (صلى الله عليه وسلم)، وفضله علينا بما خصنا به من الدلالة والهداية والبقاء في مدينتنا، أعظم من كل ما أعطيه الناس، ألم تكونوا فقراء عالة، فأغناكم الله بي، فما يقولون إلا:«الله ورسوله أمنُّ».
«ألم تكونوا متفرقين فجمعكم الله بي»، فلا يجيبواْ إلا بقولهم: الله ورسوله أمل. فكان كلما ذكر شيئاً، قالوا الله ورسوله أمل، ثم قال النبي (صلى الله عليه وسلم) ذاكراً فضلهم ومكانتهم، لو شئتم لقلتم كذا وكذا، أي لو شئتم أن تجيبواْ علىَّ هذا الكلام، بأن تقولوا: أنت جئتنا مهاجراً، طريداً فآويناك، ضعيفاً فقوَّيناك، محارباً فنصرناك.
لكنهم لم يقولوا ذلك، كانوا يعرفون أن نعمة الله عليهم بتلك الأعمال هي من فضل الله عليهم، وليس منهم شيء، ألم يكونوا يقولون: في وقت حفر الخندق«: والله لولا الله ما اهتدينا، والله لولا الله لولا توفيقه، وتسديده وإعانته ما اهتدينا، «ولا تصدَّقنا ولا صلينا». [صحيح البخاري(2837)، ومسلم(1802/124)]
كل عملٍ صالحٍ تقوم به، هو من فضل الله عليك، هو الذي يسره لك، هو الذي أعانك عليه، هو الذي دلك عليه، هو الذي يتفضل بقبوله منك، إذاً فضل الله لاحق، ومقابل العمل الصالح، وسابق له. سابق هو الذي دلك عليه، مقارب هو الذي أعانك؛ على سلوك الطريق المستقيم، لاحق هو الذي يتقبله منك، إنما يتقبل الله من المتقين، فنعمة الله عليك في كل عمل صالح.
تخيل هذا الأمور الثلاثة:
من الذي دلك على هذا العمل؟ (الله).
من الذي يسره وأعانك على القيام به؟ (الله).
من الذي يتفضل عليك بقبوله، ويأجرك عليه ويشرح صدرك به؟ (الله).
إذاً الله ورسوله أمن كما قال الصحابة (رضوان الله عليهم)، الذين فقهوا عظيم منة الله عليهم، من النبي (صلى الله عليه وسلم) ثم قال لهم كلمة طيبت خواطرهم.
فقال: « أَتَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالبَعِيرِ، وَتَذْهَبُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رِحَالِكُمْ ؟»، لا شك أنه لا تقارن نعمة الله بالهداية، بنعمة الأموال مهما كانت طائلة.
فأعظم منه أن كان النبي (صلى الله عليه وسلم) بين أظهرهم .
ثم قال (صلى الله عليه وسلم): « وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا، الأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ ».[صحيح البخاري(4330)، ومسلم(1061/139)]
وهذا بيان لفضلهم ومكانتهم؛ فالمقصود من هذا أنه مهما عظمت النعمة عليك، مهما رأيت لنفسك الفضل في الطاعة، فى الإحسان، تذكر أن ذاك فضل الله، منّ به عليك، وأن أعظم ما ينعم الله تعالى به عليك أن يشرح صدرك للهداية، لماذا؟ لأنها نعمة تكون في الداريين، تكون في الحال، تكون في المآل والمستقبل، بخلاف سائر النعم؛ لأنه لو جاءك ولد، لو جاءك مال، لو جاءتك وظيفة، هي نعمة محدودة في زمان، يعتريها ما يعتري سائر النعم المقصورة في زمان لا تتعدى هذا الزمان، وهو الحياة الدنيا، لكن نعمة الهداية، نعمة تكون في الدنيا، بالطمأنينة، والسعادة، والانشراح، وتكون في الآخرة، بالعطاء الجزيل والأجر الكبير،)وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(سورة الزخرف، الآية: 72 .
أسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، أن يمن عليَّ، وإياكم بطاعته (آمين)، وأن يسلك بنا سبيل الرشاد، وأن يشرح صدورنا للبر والتقوى، وأن يجعلنا من أوليائه وحزبه، وأن يوفقنا وإياكم، للعمل الصالح ظاهراً وباطناً، وأن يصلح فساد قلوبنا، وأن يقيمنا على الحق، وأن يعيننا على الثبات، وأن يجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاه، وصلى الله وسلم عل نبينا محمد.