الحَمْدُ للهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبارَكًا فِيهِ، أَحْمَدُهُ سُبْحانَهُ وَأُثْنِي عَلَيْهِ الخَيْرَ كُلَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ بِإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدَ:
فنحمد الله سبحانه وتعالى على ما يسر من تجدد هذا اللقاء الشهري الذي نتناول فيه شيئًا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة الكرام.. إن موضوع هذا الدرس هو ما قرأتموه: لماذا نتعلم؟ إنه سؤال قليل العبارة لكنه يتضمن في جوابه معانيَ كبيرة، وذلك أن المسئول عنه أمر عظم الله جل وعلا شأنه في كتابه، وذكر فضل أهله، وبيّن مناقبهم، وحث على الاستكثار منه، وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مليئة بالنصوص الحاثة على العلم، المرغبة فيه، الداعية إليه، ويكفي أن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه كما في حديث أم سلمة أنه كان يستفتح النهار بأذكار منها: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا» أخرجه النسائي في الكبرى (9850)، وابن ماجه (925).
وقد أمر الله جل وعلا رسوله صلى الله عليه وسلم بسؤال الله المزيد من العلم؛ فقد قال جل وعلا: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ طه: 114. . ولم يأمر جل وعلا رسوله صلى الله عليه وسلم بطلب الزيادة في شيء إلا العلم؛ وذلك أنه مفتاح الفضائل، وفيه خير عظيم، فالعلم كما قال الإمام مالك: خير كله. لكن ينبغي للمتعلمين وللمعلمين ولمن يشتغل بالتعليم على أي وجه كان أن يعرف لماذا نتعلم.
أيها الإخوة الكرام... إن جواب هذا السؤال يحتاج إلى أن نبين أن أنواع العلم التي يشتغل بها الناس نوعان من حيث الجملة: النوع الأول وهو أشرفها وأعظمها أجرًا عند الله عز وجل العلوم الشرعية، العلوم الدينية، وهذه العلوم هي كل علم يقرب إلى الله جل وعلا؛ علم الكتاب وعلم السنة، علم قول الله عز وجل وعلم قول رسوله صلى الله عليه وسلم، ويدخل في هذا العلم كل ما أعان على فهم كتاب الله وفهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يحصل لمتعلمه الفضل إذا قصد بهذا التعلم فهم كلام الله وفهم كلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة الكرام... لماذا نتعلم العلم الشرعي؟ لماذا أطال العلماء في الحث على تحصيل العلم والصبر على مضاضة الطلب وما فيه من الكد والعناء؟ هل هو لتحصيل مكاسب قريبة وانتزاع مناصب في الدنيا أم هو لأمر أبعد من ذلك؟ إن طلب العلم الشرعي له مقاصد عديدة، من أهمها وأولها أنه يعرف به الله سبحانه وتعالى، فالعلم الشرعي أيها الإخوة به يعرف الإنسان ربه سبحانه وتعالى، يعرف ما لله جل وعلا من الأسماء وما له من الصفات، وما له من الأفعال، هذا فيما يتعلق بذاته جل وعلا، ويعرف أيضًا ما يجب له من الحقوق، فإن العلم الشرعي هو السبيل الذي يتعرف به الخلق على ربهم سبحانه وتعالى، فإن الله سبحانه وتعالى بعث المرسلين به معرفين، وإليه داعين، فكل الرسل جاءت تعرف الخلق بربهم وتدلهم عليه، وتبين لهم شيئًا من أوصافه ليعرفوه سبحانه وتعالى ويعبدوه، وذلك أيها الإخوة أنه لا سعادة للناس في حياتهم ولا لذة لهم في معاشهم إلا بمعرفة الله جل وعلا؛ فإن معرفة الله سبحانه وتعالى أصل السعادة ورأسها، وهذه السعادة ليست مقتصرة على سعادة الدنيا فحسب، بل هي التي تبقى بعد الموت، وتنفع في الآخرة، فلذة العلم بالله جل وعلا ومعرفته سبحانه وتعالى فوق كل شيء، فالعلم بذاته يستلزم العلم بما سواه؛ لأن من عرف الله تفتحت له أبواب العلم، وأبصر السبيل، واستضاء له الطريق، فلا يحتاج بعد ذلك أكثر من العلم بالله جل وعلا؛ لأن به يفتتح كل مغلق، ويحصل به كل مطلوب، أما من لم يعرف ربه جل وعلا فإنه عن كل خير غافل، قال الله جل وعلا: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ الحشر: 19.
فتأمل هذه الآية تجد فيها أن الله عز وجل هدد من نسيه بأنه سبحانه وتعالى ينسيه نفسه، ومن نسي نفسه أيها الإخوة كيف يعرف مصالحها؟ كيف يعرف فلاحها؟ كيف يستقيم معاشه فضلًا عن معاده؟ إن من غفل عن الله عز وجل ونسي ربه سبحانه وتعالى يصدق عليه قوله جل وعلا: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ الكهف: 28 فإن مَن غفل عن الله عز وجل وعن ذكره انفرط عليه أمره، ولم ينتظم له شيء من الأشياء، بل تفوته مصالح دينه ومصالح دنياه، وهذا -أيها الإخوة- ليس مبالغة في بيان أهمية العلم بالله عز وجل، بل هذا هو الواقع. وليس ما نراه عند الكفار من إتقان عمارة الدنيا من تشييد المباني، وإتقان المصنوعات، والسبق الحضاري؛ ليس ذلك أمام ما فاتهم من الخيرات التي في الدنيا والخيرات التي أخبر بها جل وعلا في الآخرة؛ ليس ذلك بشيء، إنما هو كما قال الله جل وعلا: ﴿كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ﴾ المرسلات: 46. ، فهو أكل وشرب وتمتع قليل، لكن لا ينزع عنهم هذا وصف الإجرام.
أيها الإخوة الكرام.. إننا نطلب العلم الشرعي لنعرف به نبينا صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله حجة على الإنس والجن، بعثه الله سبحانه وتعالى بين يدي الساعة بالحق بشيرًا ونذيرًا يدعو إلى الله عز وجل، يبلغ الرسالات، يبصر من العمى، ويهدي من الضلال، فمن أقبل على العلم الشرعي عرف النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا عرف النبي صلى الله عليه وسلم وعرف ما جاء به تيقن صدق ما جاء به صلى الله عليه وسلم، فإن أهل العلم يعرفون صدق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم بما معهم من العلم يدركون صحة خبره صلى الله عليه وسلم فيما عقلوه من معاني هذا الكتاب العظيم، وفيما أدركوه من آيات الله عز وجل في الأنفس والآفاق، قال الله جل وعلا: ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ سبأ: 6. ، وقال جل وعلا: ﴿قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا﴾ الإسراء: 107. . ولا يمكن أن يكون منهم هذا إلا إذا صدقوا بما جاء في الكتاب؛ فإنهم يخرون تعظيمًا لله عز وجل، وتعظيمًا لكلام الله سبحانه وبحمده، وتعظيمًا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الحق والهدى والنور.
أيها الإخوة الكرام.. إن من فوائد تعلم العلم الشرعي أن العلم الشرعي يعصم العبد من الوقوع في أعظم الظلم، وهو الشرك، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ آل عمران: 18. فاستشهد الله سبحانه وتعالى العلماء دون غيرهم من الناس على أعظم مشهود، وهو أنه لا إله إلا هو سبحانه وبحمده المتفرد بالألوهية، واستشهاد الله للعلماء بيان لفضلهم، وتزكية لهم؛ لأنه لا يمكن أن تقبل شهادة أحد ما لم يكن عدلًا، فاستشهد الله سبحانه وتعالى العلماء على أعظم مشهود، وهو التوحيد، وكان في ذلك تعديل لهم؛ لأن الله لا يستشهد من خلقه إلا العدول، قال الله سبحانه وتعالى في بيان ما كان عليه أهل الجاهلية لما فقدوا العلم: ﴿وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ نوح: 23.، فهذه وصية بعض الجهال من المشركين لأتباعهم ولمن يسمع نصحهم، لكنه متى كان هذا؟ كان هذا لما نُسي العلم وارتفع أثره، ولم يبقَ لدى الناس له وجود؛ عبد هؤلاء الأصنام من دون الله عز وجل، فالعلم يعصم الإنسان من الشرك.
روى البخاري في صحيحه رقم (4920). عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في بيان معنى هذه الآية: كان هؤلاء رجالًا صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم أنصابًا وسموها بهم، فنصبوا الأنصاب ليتذكروا عبادة هؤلاء، وسموها بأسمائهم لينشطهم هذا على شدة السعي للخير والعمل به، ففعلوا ولم تُعبَد حينًا من الزمن، حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلم عُبدت.
ومن هذا نفهم أن نسيان العلم سبب لكل شر، بل هو سبب لأعظم الشرور، وهو الشرك بالله سبحانه وتعالى.
أيها الإخوة.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» أخرجه البخاري (2651)، ومسلم (2535).. وإن المتأمل الناظر لهذا الترتيب للفضل يعلم أن هذا الترتيب للفضل إنما هو بالنظر إلى ما مع القرن الأول من العلم والإيمان ، فلما كان القرن الأول سابقًا في العلم والإيمان كان متقدمًا على غيره من القرون، وهكذا القرن الذي بعده والقرن الذي بعده، ولا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه، وذلك بسبب نقص العلم، فإنه كلما تقدم الزمن وكلما مضى الدهر كلما قل العلم في الناس، ولا يقل برفع العلم؛ فإن الله لا يرفع العلم ولا ينتزعه انتزاعًا من صدور الناس، إنما ينتزعه بموت العلماء.
أيها الإخوة الكرام.. إننا نطلب العلم الشرعي لأن العلم الشرعي به تكمل الأخلاق الفاضلة، وبه يحصل الإنسان محاسن الخصال، ولذلك قال الله جل وعلا: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ آل عمران: 164. فالله جل وعلا أخبر بأنه منّ على المؤمنين بأن بعث فيهم رسولًا من أنفسهم، أي: من جنسهم، ما مهمته؟ ما وظيفته؟ ما عمله؟ يتلو عليهم آياته ويزكيهم، يتلو عليهم الآيات التي جاءت في كتاب الله عز وجل، والتلاوة هنا ليست تلاوة اللفظ فقط، بل هي تلاوة اللفظ والمعنى، فهو يبين لهم بقوله وفعله ما أنزل الله جل وعلا من الكتاب المبين ويزكيهم، والتزكية هي التدرج بالنفس إلى أعلى درجات كمالها، فالنبي صلى الله عليه وسلم بعثه الله مزكيًا مكملًا للأخلاق، ولذلك جاء في مسند الإمام أحمد رقم (8952) بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ». قال أنس رحمه الله: إذا قلَّ العلم ظهر الجفاء.
فالخلق الفاضل والسجايا الكريمة تنبع -أيها الإخوة- عن العلم الشرعي، فإذا أقبل الإنسان على تعلم كتاب الله عز وجل تعلمًا، وعلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم تلقيًا، بصدر منشرح، وهمة عالية، ورغبة في الخير، فإنه لا بد وأن تزكو أخلاقه، ولا بد أن يظهر للعلم أثر في أخلاقه، وفي قوله، وفي عمله، وفي هديه، وفي سمته، وفي سائر شأنه.
أيها الإخوة.. مدح الله جل وعلا في كتابه صفاتٍ كثيرة، وأثنى على أهلها، واعلم أن كل صفة مدح الله بها العبد إنما منشؤها العلم، وهذا يبين لك أهمية العلم، وأن العلم به تكمل الفضائل، وبه تحصل على السبق في ميادين الخير والبر والشرف، وإن من قعد عن العلم فقد قعد عن تكميل أخلاقه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ».
أيها الإخوة.. إننا نطلب العلم الشرعي لأنه به يعصمنا الله جل وعلا من الفتن، والفتن كثرت في هذا الزمان، وهي على مر الوقت ستكثر؛ لأنه كلما تقدم الوقت كثرت أسباب الضلال وأسباب الزيغ وأسباب الشر على مر العصور؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ» أخرجه البخاري (7068)..
أيها الإخوة.. إنما العلم الشرعي حصن يتدرع به الإنسان من الوقوع في شراك الفتن، سواء كانت الفتن فتن الشهوات أو فتن الشبهات، قال الله جل وعلا في بيان أثر العلم في إزاحة العصمة من كل فتنة: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾ وهذا شأن المنافقين وعملهم، إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، أي: أشاعوه ونشروه دون أن يترووا هل في إشاعته مصلحة للمؤمنين وأهل الإسلام أو لا، قال الله جل وعلا: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾النساء: 83.. فالعلم سبب للحفظ وصيانة من الوقوع في أسباب الشر.
أيها الإخوة.. إن الفتن كما ذكرنا تكثر مع مرور الوقت؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ أَيَّامًا يُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ، وَيَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ» وَالْهَرْجُ الْقَتْلُ أخرجه البخاري (7062)، ومسلم (2672). أي: كثرة القتل في الناس، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن أول ما يصاب به الناس بين يدي الساعة رفع العلم؛ لِما لرفع العلم من الشر الذي يصيب الناس.
ويبين هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث أنس رضي الله عنه: «مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ: أَنْ يَقِلَّ العِلْمُ، وَيَظْهَرَ الجَهْلُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا، وَتَكْثُرَ النِّسَاءُ، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً القَيِّمُ الوَاحِدُ»أخرجه البخاري (81)، ومسلم (2671).. وهذا يبين لنا أيها الإخوة خطورة ارتفاع العلم، وأن ارتفاع العلم من المجتمع سبب للوقوع في أنواع الفتن وأنواع الشرور.
وأنت أيها الأخ إذا تأملت مسيرة الأمة تجد أن عمل الصحابة رضي الله عنهم في ذب الفتن والبدع وفي رد الشرور كان أعظم من عمل من بعدهم، وأن الشرور والفتن في وقتهم لم تنتشر وتشيع كما كانت في العصور التي كانت بعد عصر الصحابة وعصر التابعين ثم من بعدهم. إن بوادر الفتن التي ظهرت في عهد الصحابة رضي الله عنهم كانت بوادر خفيفة، وليست من الفتن المغلظة والبدع الشديدة التي يحصل بها زيغ القلوب وطيش الألباب.
أيها الإخوة.. إن التمسك بالعلم والإقبال عليه سبب لأن يقذف الله جل وعلا في قلب العبد النور الذي يحصل به الفرقان بين الحق والباطل، وما أحوج الإنسان إلى أن يقذف الله جل وعلا في قلبه نورًا يمشي به في الناس يميز به بين الحق والباطل، بين الهدى والغي، بين الرشاد والضلال، إننا نحتاج إلى هذا النور، وهذا النور سبب ووسيلة تحصيله تقوى الله جل وعلا مع العلم، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ الحديد: 28..
القلوب إذا مُلئت بالعلم تحصنت من الوقوع في الشبهات، وتحصنت من أن تقر فيها الشهوات على وجه الدوام، بل كل شبهة ترد على القلب يردها القلب بقوته وصلابته، وكل شهوة تترك أثرًا في القلب يردها القلب بما معه من الإيمان الصادق والإقبال على الله عز وجل والتوبة والاستغفار، فلا يبقى في قلبه شيء من الشبهات ولا شيء من الشهوات، قال سبحانه وتعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ الأنعام: 122.. إن الذي أعطي النور هو الذي استمسك بالعلم الشرعي، بالكتاب والسنة، والذي بقي في الظلمات هو ذلك الذي أعرض عن كتاب الله عز وجل، وعن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة الكرام.. إننا نطلب العلم لأن الله سبحانه وتعالى بيّن في كتابه فضل العلم وفضل أهله، ورتّب الأجور العظيمة والفضائل الكثيرة على تحصيل العلم وعلى طلبه، ولذلك ينبغي لمن رغب في تحصيل تلك الفضائل أن يسعى في تحصيل العلوم الشرعية؛ فإن العلوم الشرعية سبب لتحصيل تلك الفضائل؛ كقول الله جل وعلا: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ المجادلة: 11..
وهذا فيه دعوة لكل أحد أن يسعى إلى الترقي في درجات الخير، وفي درجات البر والإحسان، وفي الاستكثار من العلم، فكلما كثر علمك بالله عز وجل كلما كثر علمك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، كلما ارتفعت درجتك وعلت قدمك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»أخرجه البخاري (71)، ومسلم (1037).؛ أي: يرزقه الفقه في الدين، أي: في الشرع، فيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من كتاب الله عز وجل وسنته صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة.. إن أهل العلم هم خلاصة الوجود، وهم الذين بهم يحفظ الله سبحانه وتعالى الأمة من الزيغ والضلال، وهم الذين تكفل الله جل وعلا بنصرهم في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الحَقِّ ظَاهِرِينَ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ – وفي روايةٍ: مَن خالَفَهُمْ - حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ»أخرجه الترمذي (2229). فمن أراد مثل هذه الفضائل فليُقبِل على العلم الشرعي، ليقبل على كتاب الله عز وجل حِفظًا وفهمًا، وعلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم درسًا وضبطًا وفهمًا لكلامه صلى الله عليه وسلم، ليقبل على حلق العلم، ليقبل على المعاهد ودور التعليم؛ فإن فيها خيرًا عظيمًا، بها يحصل للإنسان مبادئ العلم التي تنير له السبيل، ومن خلالها يستطيع أن يتوصل إلى خير عظيم؛ فإن حِلق العلم ودور التعليم إنما هي بوابات فيها المفاتيح التي تفتح لك أبواب العلم، ثم بعد ذلك يفتح الله جل وعلا على العبد على حسب ما معه من الإيمان والتقوى والرغبة والإخلاص، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
أيها الإخوة الكرام.. إن من فوائد ومنافع طلب العلم أن العلم من أهم ما يحتاجه من يقوم بالدعوة إلى الله عز وجل، فلا يسوغ لمن يقوم بالدعوة إلى الله عز وجل -والدعوة إلى الله هي أشرف المقامات- لا يسوغ له أن يكون جاهلًا، بل لا بد وأن يكون عالمًا بما يدعو وبمن يدعو، فمن علم من يدعو وبما يدعو فإنه داخل في قول الله عز وجل: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ يوسف: 108..
فالعلم أيها الإخوة هو الذي يثمِر البصيرة التي أثنى الله عليها في كتابه، وأثبتها الله عز وجل لرسوله في قوله: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾، أي: أنا ومن اتبعني على بصيرة ندعو.
أيها الإخوة .. إن الناس في هذا الزمان أحوج ما يكونون إلى من يبصرهم بالله عز وجل، وإلى من يدعوهم إلى الهدى، وهذا ليس خاصًّا بأهل الإسلام فحسب، إن أهل الإسلام يحتاجون إلى دعوة من أهل العلم ممن عرف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويحتاجون إلى من يعلمهم القرآن ويفهمهم القرآن، ويبين لهم معاني القرآن، ويحتاجون إلى من يعرفهم بالله عز وجل، ويعرفهم بدينه وما يجب له سبحانه وتعالى، ولا تنظر إلى محيطك الضيق الذي تعيش فيه؛ فإن الأمة بحاجة ماسة إلى العلم، بل إن الإمام أحمد رحمه الله قال: إن حاجة الناس إلى العلم فوق كل حاجة. يقول رحمه الله: الناس محتاجون إلى العلم قبل الخبز والماء؛ لأن العلم يحتاج إليه الإنسان في كل ساعة، والخبز والماء في اليوم مرة أو مرتين. العلم أيها الإخوة يحتاجه المسلمون وغيرهم بعدد الأنفاس، كلما كثر علم الإنسان كلما كانت بصيرته ونظره وعبادته وتقواه وصلاحه ونفعه أكبر. ولذلك ينبغي لنا أن نحرص على الاستكثار من العلم، وأن نشيع العلم الذي تعلمناه بين الناس؛ فإن إشاعة العلم ونشره مما يثبت العلم ويزكيه وينميه.
أيها الإخوة .. إن أمتنا الإسلامية في هذا الوقت هي بحاجة إلى العلم لكثرة ما في بلدان المسلمين من الجهل بالله عز وجل، وذلك يظهر بمظاهر الشرك الكثيرة المنتشرة في بلاد المسلمين، ويظهر أيضًا بالبدع الكثيرة التي انتشرت في بلاد المسلمين، ويظهر أيضًا بتقصير كثير من المسلمين فيما أوجبه الله عليهم، ومن ذلك تقصيرهم في ثاني أركان الإسلام؛ في الصلاة؛ فإن كثيرًا من المسلمين يقصرون فيها إما أنهم لا يؤدونها ولا يقومون بها في أوقاتها التي أمر الله بها أن تقام فيها، وإما أنهم يقصرون فيها بالتأخير أو بأنهم لا يقيمونها على وجهها. وتظهر حاجة الأمة إلى العلم بما نشاهده من الدعاوى المنحرفة التي تشيع بين المسلمين وتنتشر بينهم وتروج في أقلامهم وأقوالهم وكتاباتهم وبلدانهم، إننا بحاجة إلى أن نبصر المسلمين بدينهم لما تشهده الأمة من هجمة عظيمة على الإسلام في هذه الأيام الأخيرة؛ فإن أعداء الإسلام ضاقوا بالإسلام ذرعًا وبدءوا يشككون فيه ويبحثون عما يصور لهم أنه تشوه فيه، أو ضعف فيه، والضعف في عقولهم، والتشوه في أذهانهم، وأما كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم فهو الحق المبين، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ هود: 16..
إن العلوم الدنيوية لا تُطلب لأجل التكسب فحسب، بل إن الأمم تدفع الأموال وتشيد المدارس وتبذل الميزانيات الطائلة في سبيل التعليم لا لأجل وجود الوظائف للمتعلمين، بل لأجل السبق الذي يحصل به رقي الأمة بمجموعها.
أيها الإخوة الكرام.. هذه لمحة في جواب هذا السؤال الذي لا بد أن نشتغل في طلب الجواب عنه في مجالسنا وفي دراستنا وفي عملنا؛ لأن الجواب عنه يختصر علينا ويلخص لنا شيئًا كثيرًا قد نجهله، ووجود هذا السؤال في أذهاننا يفيدنا فائدتين: الفائدة الأولى: تحديد الغايات، وتحديد الغايات مما يعين الإنسان في السعي إلى تحصيلها. الفائدة الثانية: أن ننظر ونقيس سيرنا في تحقيق هذه الغاية، فإذا أجبنا على السؤال يمكننا بعد ذلك أن نقيس ما الذي حصلناه، وما الذي حققناه مما لم نحققه في سبيل التعلم.
الإخوة الكرام.. إننا بحاجة إلى العلم لندعو غير المسلمين؛ فإن الناظر إلى جمهور الناس يرى أن المسلمين لا يشكلون إلا خمس العالم، وهذا بالنسبة لمجموع الناس عدد قليل، فينبغي للأمة أن تجهد وأن تبذل ما تستطيع في سبيل إيصال هذه الرسالة التي أنقذ الله جل وعلا بها الناس وأخرجهم بها من الظلمات إلى النور، فهؤلاء يحتاجون إلى دعوة تبين فيها محاسن الإسلام، ويبين فيها ما في هذا الدين من جوانب العظمة، وكله عظيم، ويبين فيها بطلان ما يدعيه أعداء الإسلام من أن هذا الإسلام فيه وفيه من الشبهات التي يثيرونها، وهي في الحقيقة:
شُبَه تهافت كالزجاج تخالها *** حقًّا وكل كاسِر مَكسورُ
فالجميع لا حجة فيه، بل هي شبه وخيالات وظنون فاسدة؛ إما ناشئة عن فساد نية، أو ضعف علم، فإذا كمل العلم وصحت النية انبهر العالم بما في هذا الدين من النور الساطع المبين الذي يخرجهم الله عز وجل به من الظلمات إلى النور.
فكل هذه الأسباب من أجلها نتعلم العلوم الشرعية، أما ما يتعلق بالعلوم الدنيوية المدنية فإن العلوم الدنيوية المدنية واجبة على الأمة، لا سيما في هذا الوقت الذي تعيش الأمة سباقًا حضاريًّا لا يعرف توقفًا، ولا يعرف كللًا ولا مللًا، بل إن الأمة يسابقها أمم يصلون الليل بالنهار في سبيل تحصيل العلوم، ثم في سبيل تسخيرها والاستفادة منها في تحقيق العز للأمم والدول والمجتمعات. إننا نحتاج للعلوم بشتى صنوفها؛ في الصناعة، وفي الطب، وفي جميع مجالاتها التجريبية والمدنية؛ وذلك لأن بها يحصل فرض الكفاية التي من خلالها تستغني الأمة عن غيرها، ومن خلالها تخرج الأمة من كونها فتنة للذين كفروا؛ فإن من صور افتتان الكفار ما عليه المسلمون اليوم من الضعف والانكسار والتقهقر الحضاري الذي جعل المسلمين في آخر الركب. ومعلوم أيها الإخوة أن السابق لا يمكن أن يقتدي بمن يراه دونه في التقدم والرقي، فلا بد للأمة أن تطلب هذه العلوم لتخرج من هذا الحيز الذي جعلها فتنة للذين كفروا، حيث إن كثيرًا من الكفار يصدهم عن الإسلام ما عليه المسلمون من ضعف وتقهقر وتشرذم وتشقق وعدم استمساك بالدين الحنيف وعدم العمل به.
أيها الإخوة الكرام.. إن العلوم في شتى أنواعها لم تعلم ولم تبذل فيها الأموال ولم يجتهد فيها المربون والمعلمون على مستوى العالم كله لأجل أن تكتسب بها الوظائف وتحصل بها الأموال، إن اكتساب الوظائف والأعمال والمناصب ليس سبيله التعلم فحسب، إن حصول المال من غير طريق العلم أقرب، ولذلك تجد أن أكثر الأثرياء إنما حصلوا ثروتهم من غير العلم، فالعلم ليس سبيلًا للتكسب، بل إنه قد ثبت بالدراسات أن أقل الناس دخلًا هم الذين يشتغلون بالعلم، فالعلم ليس وسيلة لتحصيل المكاسب الدنيوية، فإذا كان كذلك فإنه ينبغي لنا أن نصحح النية، ومن كان غرضه من العلوم الشرعية خاصة أن يحصل بها المكاسب الدنيوية فليذهب إلى غير هذا الميدان، وليبحث عن غير هذا السبيل؛ فإنه من طلب علمًا مما يُبتغى به وجه الله لا يطلبه ولا يبتغيه إلا لدنيا يصيبها لم يرح رائحة الجنة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. وقد قال الله جل وعلا: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ﴾ هود: 15..
أسأل الله عز وجل أن يرزقني وإياكم العلم النافع، وأن يجعلنا من أئمة الهدى العاملين به، وأن يوفقنا وأمتنا إلى نشر العلم والدعوة إليه والعمل به، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.