تفسير سورة البلد
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)}
هذا قسم من الله عز وجل بمكة أم القرى في حال كون الساكن فيها حالا؛ لينبه على عظمة قدرها في حال إحرام أهلها.
قال خَصيف، عن مجاهد: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} لا رد عليهم؛ أقسم بهذا البلد.
وقال شَبيب بن بشر، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} يعني: مكة، {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} قال: أنت -يا محمد-يحل لك أن تقابل به. وكذا رُوي عن سعيد بن جُبَير، وأبي صالح، وعطية، والضحاك، وقتادة، والسدي، وابن زيد.
وقال مجاهد: ما أصبت فيه فهو حلال لك.
وقال قتادة: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} قال: أنت به من غير حَرَج ولا إثم.
وقال الحسن البصري: أحلها الله له ساعة من نهار.
وهذا المعنى الذي قالوه قد وَرَد به الحديث المتفق على صحته: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حَرَامٌ بحُرمَة الله إلى يوم القيامة، لا يُعضَد شجره ولا يختلى خلاه. وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فليبلغ الشاهد الغائب". وفي لفظ آخر فإن أحد تَرَخَّص بقتال رسول الله فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم".
وقوله: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} قال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا ابن عطية، عن شريك، عن خَصِيف، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} الوالد: الذي يلد، وما ولد: العاقر الذي لا يولد له.
ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم، من حديث شريك -وهو ابن عبد الله القاضي-به.
وقال عكرمة: الوالد: العاقر، وما ولد: الذي يلد. رواه ابن أبي حاتم.
وقال مجاهد، وأبو صالح، وقتادة، والضحاك، وسفيان الثوري، وسعيد بن جبير، والسدي، والحسن البصري، وخُصيف، وشرحبيل بن سعد وغيرهم: يعني بالوالد آدم، وما ولد ولده.
وهذا الذي ذهب إليه مجاهد وأصحابه حَسَنٌ قوي؛ لأنه تعالى لما أقسم بأم القرى وهي المساكن أقسم بعده بالساكن، وهو آدم أبو البشر وولده.
وقال أبو عمران الجوني: هو إبراهيم وذريته. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.
واختار ابن جرير أنه عام في كل والد وولده. وهو محتمل أيضا.
وقوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ} رُوي عن ابن مسعود، وابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وإبراهيم النخعي، وخَيْثَمة، والضحاك، وغيرهم: يعني منتصبا -زاد ابن عباس في رواية عنه-في بطن أمه.
والكبد: الاستواء والاستقامة. ومعنى هذا القول: لقد خلقنا الإنسان سويا مستقيما كقوله: {يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} الانفطار: 6 ، 7 ، وكقوله {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} التين:4.
وقال ابن أبي نجيحُ جريج وعطاء عن ابن عباس: في كبد، قال: في شدّة خُلق، ألم تر إليه... وذكر مولده ونبات أسنانه.
قال مجاهد:{فِي كَبَدٍ} نطفة، ثم علقة، ثم مضغة يتكبد في الخلق -قال مجاهد: وهو كقوله: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} وأرضعته كرها، ومعيشته كره، فهو يكابد ذلك.
وقال سعيد بن جبير: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ} في شدة وطَلَب معيشة. وقال عكرمة: في شدة وطول. وقال قتادة: في مشقة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عصام، حدثنا أبو عاصم، أخبرنا عبد الحميد بن جعفر، سمعت محمد بن علي أبا جعفر الباقر سأل رجلا من الأنصار عن قول الله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ} قال: في قيامه واعتداله. فلم يُنكر عليه أبو جعفر.
وروى من طريق أبي مودود: سمعت الحسن قرأ هذه الآية: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ} قال: يكابد أمرا من أمر الدنيا، وأمرا من أمر الآخرة -وفي رواية: يكابد مضايق الدنيا وشدائد الآخرة.
وقال ابن زيد:{لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ} قال: آدم خلق في السماء، فَسُمي ذلك الكَبَد.
واختار ابن جرير أن المراد بذلك مكابدة الأمور ومشاقها.
وقوله: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} قال الحسن البصري: يعني أيحسب أن لن يقدر عليه أحد يأخذ ماله.
وقال قتادة: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} قال: ابن آدم يظن أن لن يُسأل عن هذا المال: من أين اكتسبه؟ وأين أنفقه؟
وقال السدي: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} قال: الله عز وجل.
وقوله: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُبَدًا} أي: يقول ابن آدم: أنفقت مالا لبدا، أي: كثيرا. قاله مجاهد والحسن وقتادة، والسدي، وغيرهم.
{أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} قال مجاهد: أي أيحسب أن لم يره الله عز وجل. وكذا قال غيره من السلف.