إِنَّ الحَمْدَ للهِ, نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ, وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، وَسَيِّئاتِ أَعْمالِنا, مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ إِلَهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ, لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ صَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ خِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصضحْبِهِ وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ بِإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ, أَمَّا بَعْدُ:
فاتَّقُوا اللهَ أَيُّها المؤْمِنُونَ, اتَّقُوا اللهَ تَعالَى حَقَّ التَّقْوَى، تَقْوَى اللهِ هِيَ: أَنْ تُطِيعَ اللهَ تَعالَى فَيما أَمَرَ بِفِعْلِهِ، وَفِيما نَهَى بِتَرْكِهِ أَنْ تَفْعَلَ الواجِباتِ وَأَنْ تَتْرُكَ المحَرَّماتِ رَغْبَةً فِيما عِنْدَ اللهِ تَعالَى مِنَ النَّعيِمِ، وَخَوْفاً مِمَّا أَعَدَّهُ للِعاصينَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنا مِنْ عِبادِكَ المتَّقينَ وَحِزْبِكَ المفْلِحينَ وَأَوْلِيائِكَ الصَّالحينَ يا رَبَّ العالمينَ ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾[الطلاق: 2- 3].
المتَّقُونَ مُفْلِحُونَ، المتَّقُونَ فائِزُونَ، المتَّقُونَ هُمُ السُّعَداءُ في الدُّنْيا وَهُمُ الفائِزُونَ في الآخِرَةِ.
أَيُّها المؤْمِنُونَ, إِنَّ التَّقْوَى مَبْدَؤُها وَأَصْلُها وَأَساسُها مَحَبَّةُ اللهِ تَعالَى، تَعْظِيمُهُ العِلْمُ بِهِ جَلَّ في عُلاهُ، فَمَتى قامَ في القَلْبِ مَحَبَّةُ اللهِ وَعَمْرُ القَلْبِ بِتَعْظِيمِ اللهِ؛ فَإِنَّ التَّقْوَى تَكُونُ قَدْ حَلَّتْ في القَلْبِ وَجَنَى العَبْدُ ثِمارَها في القَوْلِ وَالعَمَلِ، فَإِنَّ التَّقْوَى تَنْعَكِسُ في قولِكَ ذَكاءً وَصَلاحًا وَفي عَمَلِكَ اسْتِقامَةً وَفَلاحًا وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا، وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا.
فوائِدُ التَّقْوَى وَمَنافِعُها عَظَيِمَةٌ، لِذَلِكَ كانَ مَدارُ خُطَبِ النَّبِيِّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الأَمْرِ بِالتَّقْوَى وَالتَّذْكِيرِ بِها وَهِيَ وَصِيَّةُ اللهِ لِلأَوَّلِينَ وَالآخرِينَ ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾[النساء: 131] فَلا تَأْنَفْ أَنْ تَسْمَعَ اتَّقِ اللهَ، وَلا تَمَلَّ مِنْ تَكْرارِ الأَمْرَ بِالتَّقْوَى، فَإِنَّها الوَصِيَّةُ الَّتِي تَحْتاجُها لَيْلًا وَنَهارًا، سِرًّا وَإِعْلانًا، سَفَرًا وَحَضَرًا، صَغِيرًا وَكَبِيرًا، «اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ»التِّرْمِذِيُّ(1987), وَقالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ .
أَيُّها المؤْمِنُونَ, تَقْوَى اللهِ تَنْعَكِسُ عَلَى الأَخْلاقِ اسْتِقامَةً، وَعَلَى القُلُوبِ صَلاحًا وَفلاحًا وَبَهْجَةً، وَعَلى الأَقْوالِ اسْتقِامَةً ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب: 70- 71] لَيْسَتِ التَّقْوَى انْزواءً في مَسْجِدٍ، وَلَيْسَتْ التَّقْوَى خَلْوَةً في زَاوِيَةٍ، وَلَيْسَتْ التَّقْوَى صَلاةً في انْفِرادِ أَوْ في إِعْلانٍ، إِنَّها أَشْمَلُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.
إِنَّها صِبْغَةٌ ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾[البقرة: 138] لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّها الصِّبْغَةُ وَالقَوْلُ وَالعَمَلُ يَكُونُ ذَلِكَ في مُعامَلَةِ اللهِ في السِّرِّ وَالإِعْلانِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ في مُعامَلَةِ الخَلْقِ في كُلِّ أَمْرٍ وَشَأْنٍ.
وَبِهذا تَكُونُ مِنَ المتَّقِينَ الَّذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾[يونس: 62- 63] مَشْرُوعُكَ في حَياتِكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ المتَّقِينَ فَانْضَمَّ إِلَى هَذا الحِزْبِ وَارْكَنْ إِلَيْهِ؛ فَهَذا هُوَ حِزْبُ اللهِ الَّذِي حَكَمَ لَهُ بِالفَلاحِ ﴿أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[المجادلة: 22].
تَقْوَى اللهِ تَسْتَحْضِرُها في عَمَلِكَ، في خَلْوَتِكَ، في شَهادَتِكَ، في كُلِّ شَأْنٍ مِنْ شُؤُونِكَ عِنْدَ ذَلِكَ أَبْشِرْ بِفُتُوحاتٍ عَظِيمَةٍ وَوِلايَةٍ كَبِيرَةٍ؛ فَإِنَّهُ ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾[الطلاق: 2- 3] لا يَظُنُّ الظَّانُّ أَنْ تَقْوَى اللهِ هِيَ فَقَطْ فِيما بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللهِ في فِعْلِ ما أَمَرَكَ بِهِ مِنْ حُقُوقِ صَلاةٍ، زَكاةٍ، صَوْمٍ، حَجٍّ، فَقَطْ بَلْ هِيَ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ.
دَخَلَ النَّبِيُّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- السُّوقَ يَوْمًا، «فمَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟» قَالَ أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي»مُسْلِمٌ(102).
هَكَذا يُذَكِّرُ النَّبِيُّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ التَّقْوَى لَيْسَتْ في مُعامَلَةِ اللهِ –عَزَّ وَجَلَّ- إِنَّما تَكُونُ أَيْضًا في كُلِّ شَأْنٍ مِنْ شُؤُونِ النَّاسِ حَتَّى في أَسْواقِهِمْ في بَيْعِهِمْ وَشِرائِهِمْ في مُعامَلاتِهِمْ، فَإِنَّ ذاكَ لا يَكُونُ إِلَّا مِنَ المتَّقِينَ الَّذِينَ يَسْتَحْضِرُونَ حَقَّ اللهِ تَعالَى.
إِنَّ المجْتَمَعَ إِذا تَرَبَّى عَلَى هَذا المعْنَى، أَنَّ التَّقْوَى خُلُقٌ شامِلٌ مَنْظُومَةٌ مُكْتَمِلَةٌ مِنَ السُّلُوكِ وَالأَخْلاقِ وَالمعامَلَةِ؛ لَنْ يَكُونَ ذَاكَ إِلَّا مُصْلِحًا لِلمُجْتَمَعِ عائِدًا عَلَيْهِ بِالنِّفْعِ، حاجِزًا لَهُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّيِّئاتِ، إِنَّهُ حَلٌّ لِكَثِيرٍ مِنَ المعاناةِ الَّتي تُعانِيها المجْتمَعاتُ، تَقْوَى اللهِ مِفْتاحُ السَّعادَةِ، وَعِنْدَما نَتَكَلَّمُ عَنْ تَقْوَى اللهِ فَنَحْنُ نَتَحََدَّثُ في كُلِّ شَأْنٍ مِنْ شُؤُونِ النَّاسِ في السَّياسَةِ، في الاقْتِصادِ، في الاجْتِماعِ، في العلاقاتِ الأُسَرِيَّةِ، في العلاقاتِ البَشَرِيَّةِ، في علاقَتِكَ بِالمؤْمِنِ، في عَلاقَتِكَ بِالكافِر، في عَلاقَتِكَ بِالقَرِيبِ، في عَلاقَتِكَ بِالبَعِيدِ.
كُلُّ هَذا يَضْبِطُهُ أَنْ تَكُونَ مِنَ المتَّقِينَ، فَإِذا كُنْتَ مُتَّقِيًا وُفِّقْتَ وَسُدِّدْتَ في كُلِّ شَأْنٍ دَقِيقٍ أَوْ جَلِيلٍ، صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، خاصٍّ أَوْ عامٍّ؛ اللَّهُمَّ اجْعَلْنا مِنْ عِبادِكَ المتَّقِينَ وَحِزْبِكَ المفْلِحِينَ وَأَوْلِيائِكَ الصَّالِحينَ, أَقُولُ هَذا القَوْلَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ فاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبارَكًا فِيهِ، كَما يُحِبُّ رَبُّنا وَيَرْضَى, أَحْمَدُهُ حَقَّ حَمْدِهِ, لا أُحْصِي ثَناءً عَلَيْهِ هُوَ كَما أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ, اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَما صَلَّيْتَ عَلَى إِبْراهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْراهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
عِبادَ اللهِ, اتَّقُوا اللهَ تَعالَى كَما أَمَرَكُمْ في لَيْلِكُمْ وَنَهارِكُمْ، في سِرِّكُمْ وَإِعْلانِكُمْ في كُلِّ شُؤُونِكُمْ، لَيْسَ لِلتَّقْوَى زَمانٌ كَما أَنَّها لا يَحُدُّها حالٌ، بَلْ هِيَ المأْمُورُ بِها في كُلِّ حالٍ وَزَمانٍ وَمَكانٍ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران: 102].
أيُّها المؤْمِنوُنَ, إِنَّ مِنْ تَقْوَى اللهِ تَعالَى أَنْ نُرَبِّيَ أَنْفُسِنا وَالأَبْناءِ عَلَى أَداءِ الأَماناتِ وَالقِيامِ بِالحَقِّ، وَالبُعْدِ عَنِ الغِشِّ وَالَكَذِبِ وَالتَّدْلِيسِ، فَإِنّض ذَلِكَ مِمَّا يَعُودُ عَلَى الإِنْسانِ في خاصَّتِهِ بِالخَيْرِ وَالنَّفْعِ؛ فَالصِّدْقُ يَهْدِي إِلَى البِرِّ وَالبِرُّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ كَما أَنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ وَالفُجُورُ يَهْدِي إِلَى النَّارِ.
وَذَاكَ أَصْلُ كُلِّ فَسادٍ وَأَصْلُ كُلِّ صَلاحٍ، فَأَصْلُ كُلِّ صَلاحٍ الصِّدْقُ، وَأَصْلُ كُلِّ فَسادٍ الكَذِبُ، وَمِنَ الكَذِبِ عَدَمُ أَداءِ الأَماناتِ، اللهُ تَعالَى يَقُولُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾[النساء: 58] وَأَداءُ الأَمانَةِ هُوَ إِعْطاءُ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، مِنْ خاصٍّ أَوْ عامٍّ، مِنْ حاضِرٍ أَوْ مُسْتَقْبَلٍ أَوْ ماضٍ فَأَدِّ الأَمانَةَ إِلى أَهْلِها.
المُعَلِّمُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى ما يَقُومُ بِهِ مِنْ تَعْلِيمٍِ، وَتَقْييمٍ لِلطُّلًّابِ وَنَظَرٍ في إِجابَتِهِمْ وَأَوْلِياءِ الأُمُورِ مُؤْتَمَنُونَ عَلَى أَوْلادِهِمْ في تَزْكِيَتِهِمْ وَإِصْلاحِهِمْ وَتَرْبِيَتِهِمْ وَإِعانَتِهِمْ عَلَى ما فِيهِ خَيْرُ دُنْياهُمْ وَأُخْراهُمْ.
وَالطُّلابُ مُؤْتَمَنُونَ عَلَى ما يُخْتَبَرُونَ فِيهِ وَعَلَى ما يَتَلَقَّوْنَهُ مِنْ عُلُومٍ، كُلُّ هَؤَلاءِ مُؤْتَمَنُونَ كُلُّكُمْ راعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَلْنَتَّقِ اللهَ وَلِْيُؤَدِّ كُلُّ مُؤْتَمَنٍ ما أؤْتُمِنَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُؤَدِّيَ كُلُّ صاحِبِ حَقٍّ ما طُلَبَ مِنْهُ مِنَ الحُقُوقِ، وَذاكَ بِهِ تَصْلُحُ الدُّنْيا وَتَسْتَقِيمُ الآخِرَةُ.
إِنَّ فَتْرَةَ الاخْتِباراتِ فَتْرَةٌ تَتَأَكَّدُ فِيها مَعانِي، لَيْسَتْ غَائِبَةً في غَيْرِها، لَكِنَّها حاضِرَةٌ بِقُوَّةٍ في أَيَّامِ الامْتِحاناتِ فَيَجِبُ عَلَى الأَوْلِياءِ أَنْ يَتَّقُوا اللهَ تَعالَى في أَوْلادِهِمْ: في إِعانَتِهِمْ, وَتَيْسِيرِ الأُمُورِ لَهُمْ, وَتَهْيِئَةِ أَجْواءِ الاخْتِباراتِ, وَمُراعاتِهِمْ, وَالسَّعْيِ في إِصْلاحِ دِينِهِمْ: بِأَمْرِهِمْ بِالصَّلاةِ، وَحَثِّهِمْ عَلَى المحافَظَةِ عَلَيْها, وَأَمْرِهِمْ بِكُلِّ ما يُصْلِحُ دِينَهُمْ وَتَسْتَقِيمُ بِهِمْ صِلَتُهُمْ بِاللهِ –عَزَّ وَجَلَّ-.
كَما يَأْمُرُونَهُمْ بِالمراجَعَةِ, وَيُتابِعُونَهُمْ في دُرُوسِهِمْ وَاخْتَباراتِهِمْ؛ حَتَّى يَجْتازُوا هَذِهِ المرْحَلَةَ عَلَى أَكْمَلِ ما يَسْتَطِيعُونَ كَما عَلَيْهِمْ أَنْ يُظاهِرُوهُمْ بِالدُّعاءِ. فَدُعاءُ الوالِدِ لِولَدِهِ بابُ خَيْرٍ عَظِيمٍ يَفْتَحُ اللهُ تَعالَى بِهِ عَلَى الأَوْلادِ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ كَما يَنْبَغِي أَنْ يَحْفَظُوهُمْ مِنْ كُلِّ ما يُضْعِفُ يَقِينَهُمْ وَيُهَدِّدُ مُسْتَقْبَلَهُمْ فَهِذِهِ الأَيَّامُ أَيَّامُ يَصْطادُ فِيها المفْسِدُونَ بِأَنْواعٍ مِنَ الاصْطِيادِ، عَلاقاتٌ مَشْبُوهَةٌ تُؤَدِّي إِلى خَطَرٍ وَفَسادٍ في الحاضِرِ وَالمسْتَقْبَلِ، كَما أَنَّها تَفْتَحُ أَبْواباً لِلمُخَدِّراتِ بِهَذِهِ الحُبوبِ الَّتي تُرَوَّجُ عَلَى أَنَّها مُنَشِّطاتٌ.
كُنْ قَرِيبًا مِنْ أَوْلادِكَ وَتََنَبَّه لَهُمْ، وَلا يَعْنِي هَذا أَنْ تُرَكِّزَ عَلَى جانِبِ المراقَبَةِ وَالمتابَعَةِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ بِناءِ جِسْرِ الثِّقَةِ وَتَوْثِيقِ الصِّلاتِ بِالتَّبْصِيرِ وَالتَّوْعِيَةِ، وَالقُرْبِ مِنْهُمْ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ عَوْناً لَكَ عَلَى تَوْجِيهِهِمْ وَيَكُونَ عَوْنًا لَهُمْ عَلَى قَبُولِ ما تُوَجِّهُهُمْ إِلَيْهِ.
إِنَّ قِيامَ الأَوْلِياءِ بِحَقِّ أَوْلادِهِمْ في الصِّيانَةِ وَالرِّعايَةِ يَحْصُلُ بِهِ سَعادَةُ الأُسْرَةِ، وَاسْتِقامَتِها كَما يَنْعَكِسُ ذَلِكَ عَلَى سُلُوكِ الأَوْلادِ وَنِتاجِهِمْ مِنَ الذُّكُورِ وَالإِنْاثِ فَلْنُحافِظْ عَلَى هَذا المعْنَى، وَلْنَقُمْ بِالحَقِّ الَّذِي وُكِّلَ إِلَيْنا, نُوصِي الأَبْناءَ بِالحَذَرِ وَبناتِنا أَيْضًا بِالحَذَرِ مِنْ كُلِّ ما يَكُونُ مُبْعَدٌ لَهُمْ عَنِ اللهِ، أَصْحابُ السُّوءِ هُمْ عُنْوانُ فَسادِ الدُّنْيا وَالآخِرَةِ فاحْذَرْهُمْ هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ، يُزَيِّنُونَ لَكَ الشَّرَّ وَيُقَرِّبُونَكَ إِلَيْهِ بِنَوْعٍ مِنَ الملاهِي وَالملَذِّاتَ وَما تَشْتَهِي الأَنْفُسُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَقَعُ صَيْدًا في شِباكِهِمْ قَدْ لا تَسْتَطِيعُ التَّخَلُّصَ مِمَّا تَوَرَّطْتَ فِيهِ مِنَ الشَّرِّ وَالفَسادِ، فَيُفْسِدُ عَلَيْكَ أَمْرَ دُنْياكَ وَأَمْرَ دِينِكَ.
احْذَرْ صاحِبَ السُّوءِ الَّذِي يُقَدِّمُ لَكَ الشَّرَّ بِثَوْبٍ حَسَنٍ جَمِيلٍ، إِنَّهُ يَغُشُّكَ إِنَّهُ يَدْعُوكَ إِلَى ما يُفْسِدُ دِينَكَ وَدُنْياكَ فاحْذَرْهُ، وَحَذِّرْ مِنْهُ, وَعَلَيْكَ بِالصَّاحِبِ الَّذِي يُقَرِّبُكَ مِنْ اللهِ –عَزَّ وَجَلَّ- يُعِينُكَ عَلَى ما فِيهِ صَلاحُ دِينِكَ وَدُنْياكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهْوَ وَما تُؤَمِّلُهُ مِنَ اللَّذَّاتِ تُدْرِكُهُ بِالحَلالِ فَلَيْسَ طَرِيقُ إِدْراكِ الملاهِي وَالملَذَّاتِ هُوَ المحْرَّماتُ فَحَسْب.
بَلْ قَدْ جَعَلَ اللهُ تَعالَى لَنا في المبيحاتِ فُسْحَةً، يُدْرِكُ بِها الإِنْسانُ رَاحَةَ النَّفْسِ وَسَعادَتهَا، دُونَ أَنْ يَتَوَرَّطَ فِيما يُفْسِدُ دِينَهُ وَدُنْياهُ، أُوصِي المعَلِّمينَ بِتَقْوَى اللهِ تَعالَى في تَقْييمِ الطُّلَّابِ وَالإِشْرافِ عَلَيْهِمْ وَأَداءِ الحَقِّ الَّذِي اؤْتُمِنُوا عَلَيْهِ في أَنْ يُصِيبُوا الصَّوابَ في تَقْييمِ أَوْراقِ الطُّلَّابِ دُونَ وَكْسٍ وَلا شَطَطٍ، دُونَ ارْتِخاءٍ وَلا ظُلْمٍ.فَالظُّلْمُ يَكُونُ بِزِيادَةٍ كَما يَكُونُ بِالنُّقْصانِ، وَكِلاهُما وَجْهانِ لمعْنَى وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّ الأَمانَةَ الَّتي اؤْتُمِنَ عَلَيْها؛ فاتَّقِ اللهَ في الأَمانَةِ وَأَدِّ الحَقَّ الَّذِي اؤْتُمِنْتَ عَلَيْهِ في الرَّقابَةِ عَلَى الطُّلَّابِ، فَلا تُمَكِّنْهُمْ مِنَ الغِشِّ تَمْكِينُ الطُّلَّابِ مِنَ الغِشَّ هُوَ غِشٌّ لِلأُمَّةِ، لَيْسَ غِشًّا مُنْفَرِدًا وَالغِشُّ يَعْظُمُ ذَنْبُهُ بِقَدْرِ ما يَتَرَتَّبُ عَلَيْه مِنَ الخَطَرِ، فالَّذِي يُسَهِّلُ الغِشَّ لِلطُّلاَّبِ حَتَّى يَخْرُجَ للمُجْتَمَعِ شَهاداتٌ فارِغَةٌ مِنْ َمَضْمُونِها غَشَّ الأُمَّةَ وَلَمْ يَغُشَّ الطَّالِبَ فَقَطَ.
وِباِلتاَّلِي إِثْمُهُ أَكْبَرُ مِنْ ذَاكَ الَّذِي غَشَّ في طَعامٍ فَقالَ النَّبِيُّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا»مُسْلِم(102)، فَإِنَّ النَّبِيَّ إِنَّما تَبَرَّأَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِعَظِيمِ الضَّرَرِ الحاصِلِ بِهِ، وَكُلَّما كانَ الضَّرَرُ أَعْظَمَ كانَ الذَّنْبُ أَكْبَرَ وَكانَ الوِزْرُ أَعْظَمَ, فَلْيَتَّقِ اللهَ المراقِبُونَ وَلْيَقُومُوا بِما يَجِبُ عَلَيْهِمْ كَما يَجِبُ عَلَيْنا أَنْ نَنْشُرَ ثَقافَةَ أَداءِ الأَمانَةِ في الغَيْبِ وَالشَّهادَةِ.
حَدَّثَنِي أَحَدُ مَنْ يَدْرُسُ في جامِعَةٍ مِنَ الجامِعاتِ أَنَّهُمْ يَخْتَبِرُونَ لِمُدَّةِ أُسْبُوعٍ في اخْتِبارٍ يَأْخُذُونَهُ إِلَى بُيوتِهِمْ يُطالِعُونَ ما شاؤُوا مِنَ الكُتُبِ، لَكِنَّهُمْ يَمْنَعُونَ مِنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنْ يَتَناقَشَ مَعَ زُمَلائِهِ في مَوْضُوعِ اخْتِبارِهِ قُلْتُ لَهُ: هَلْ يَجْرِي بَيْنَكُمْ مُناقَشَةٌ؟ قالَ: أَنا لا أَظُنُّ أَنَّ هَذا يَكُونُ بَيْنَ الطُّلَّابِ بِناءً عَلَى ما غُرِسَ في نُفُوسِهِمْ مِنْ أَنَّ الغِشَّ مَعْنَى رَدِيءٌ يَجْنِي سَوْءَتَهُ الغاشُّ نَفْسَهُ كَما يَجْنِي سَوْءَتَهُ المجْتَمَعُ كُلُّهُ، فَيَنْبَغِي لَنا أَنْ نَشِيعَ مَعْنَى أَداءِ الأَماناتِ, وَأَنَّ تَقْوَى اللهِ تَكُونُ عِنْدَما يَتْسَهَّلُ لَكَ مُخالَفَةُ أَمْرِ اللهِ –عَزَّ وَجَلَّ- قالَ اللهُ تعَالَى: ﴿لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ﴾[المائدة: 94] يَعْنِي سَهُلُ الحُصُولُ فَكُلَّما تَسَهَّلَتِ المعْصِيَةُ وَكانَتْ بَيْنَ يَدَيْكَ قَرِيبَةٌ وَلَمْ يَحْجُزْها عَنْكَ حاجِزٌ إِلَّا تَقْوَى اللهِ كانَ ذَلِكَ ابْتِلاءٌ تُخْتَبَرُ فِيهِ مِنَ اللهِ –عَزَّ وَجَلَّ- فَأَرِ اللهَ مِنْ نَفْسِكَ خَيْرًا، وَلَعَلَّ اللهَ يَفْتَحُ لَكَ مِنْ أَبْوابِ الصِّدْقِ وَالتَّوْفِيقِ بِالبُعْدِ عَمَّا تَيَسَّرَ مِنْ سَيِّءِ البَلاءِ وَسَيِّءِ المُحْرِمِ ما يُغْنِيكَ عَمَّا ظَنَنْتَ أَنَّهُ خَيْرٌ فِيما تُحَصِّلُهُ بِالمحَرَّماتِ.
لِنَتَّقِ اللهَ أَيُّها المؤْمِنُونَ, وَلِنَعْلَمَ أَنَّ تَيْسِيرَ المعْصِيَةِ وَأَنَّ سُهُولَتَها وَقُرْبَها هُوَ مِنَ الاخْتِبارِ، اليَوْم الأَجْهِزَةُ هَذِهِ الَّتي بَيْنَ أيْدِي النَّاسِ تُيَسِّرُ لَهُمْ الوُصُولَ إِلَى ما شاؤُوا مِنَ المحَرَّماتِ هَذا مِنَ البِلاءِ، فَإِذا كانَ يَتَيَسَّرُ لَكَ أَنْ تُشاهِدَ مَقْطعًا مُحَرَّمًا وَتَسْمَعُ كَلامًا قَبِيحًا أَوْ مُحَرَّمًا امْتَنَعْتَ مِنْهُ في خَلْوَةٍ للهِ، فَأَبْشِرْ؛ فَهذا عَلامَةُ التَّقْوَى، وَهَذا أَعْظَمُ في الأَجْرِ مِنَ أَنْ يُحالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ وَتَتَمَنَّاهُ لَكِنْ لا تُدْرِكُهُ.
أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَرْزُقَنا وَإِيَّاكُمْ تَقْواهُ وَأَنْ يُعَمِّرَ قُلُوبَنا بِمَحَبَّتِهِ وَتَعْظِيمِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَنا وَإِيَّاكُمْ مِنْ حِزْبِهِ وَأَوْلِيائِهِ، اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطانِنا وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنا وَوُلاةَ أُمُورِنا، وَاجْعَلْ وِلايَتَنا فِيمَنْ خافَكَ وَاتَّقاكَ وَاتَّبَعَ رِضاكَ يا رَبَّ العالمينَ، اللَّهُمَّ كُنْ لإِخْوانِنا في الشَّامِ, اللَّهُمَّ عَجِّلْ بِفَرَجِهِمْ يا رَبَّ العالمينَ، اللَّهُمَّ مَنْ سَعَى بِهِمْ أَوْ سَعَى فِيهِمْ بِإِفْسادٍ أَوْ إِضْرارِ فَعَلَيْكَ بِهِ فَإِنَّهُ لا يُعْجِزُكَ، اللَّهُمَّ طالَ البَلاءُ وَاشْتَدَّتْ كُرْبَتُهُمْ وَعَظُمَ خَطْبُهُمْ, اللَّهُمَّ انْتَقِمْ لَهُمْ يا قَوِيُّ يا عَزِيزُ.
اللَّهُمَّ انْتَقِمْ لِلمَظْلُومينَ مِنَ الظَّالمينَ، وَأَعْلَي رايَةِ الدِّينِ وَانْصُرْ عِبادِكَ الموَحِّدِينَ حَيْثُ كانُوا يا رَبَّ العالمينَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلَكُ الهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفافَ وَالرَّشادَ وَالغِنىَ، اغْفِرْ لَنا وَلِوالدِينا وَلِلمُؤْمِنينَ وَالمؤْمِناتِ الأَحْياءِ مِنْهُمْ وَالأَمْواتِ يا رَبَّ العالمينَ، اللَّهُمَّ وَفِّقْ أَبْناءِنا وَبَناتِنا فِيما يَسْتَقْبَلُونَ مِنِ اخْتِباراتٍ، اللَّهُمَّ وَفِّقْ الطُّلَّابَ وَالطالِباتِ أَعِنْهُمْ وَسَدِّدْ جَوابَهُمْ وَيَسِّرِ أُمُورَهُمْ وَاكْتُبِ التَّوْفِيقَ لَهُمْ، وَاجْعَلِ النَّجاحَ حَلِيفَهُمْ وَأَسْعِدْهُمْ في دُنْياهُمْ وَأُخْراهُمْ يا رَبَّ العالمينَ، رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسِرينَ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَما صَلَّيْتَ عَلَى إِبْراهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْراهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجيدٌ.