الحمد لله ربِّ العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمهً للعالمين، نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد،
قال رحمه الله: (ويضع يده اليمنى على اليسرى). أي: يضع يده اليمنى على اليسرى، وذلك لمجيء ذلك في أحاديث عديدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، جاء في حديث وائل بن حجر، وجاء في حديث عليٍّ، وجاء في حديث سهل بن سعد، ومن أصح الأحاديث وأصرحها في مشروعية وضع اليمين على اليسار في الصلاة، ما جاء في البخاري، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: « كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة » صحيح البخاري(740).
فهذه صفة من صفات الوضع، طبعًا هذه الصفة هي أريح ما يكون، لأن بها توضع اليمنى على اليسرى في الصلاة، فتكون اليد قريبة من تحت الصدر، وقد يقول قائل: إنها هكذا تحت، يحتمل هذا، لكن فيما يظهر أن أريح ما يكون ما تحت الصدر، لوضع اليد اليمنى على اليد اليسرى في الصلاة، كما في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، وهذه إحدى الصفات.
وجاء أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى، وهنا يصدق عليها هذه الصورة، أن يضع اليد اليمنى على اليسرى، وجاء في صفة القبض أيضًا حديث، بأن يقبض كوع اليمنى، ويبسط اليمنى عليها، ويوجه أصابعه إلى ناحية الذراع، جاء ذلك أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، في ما رواه وائل بن حجر رضي الله عنه، في صفة وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده، قال في وصفه الصفة، « قلت لأنظرن إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يصلي، فنظرت إليه فقام فكبر، ورفع يديه حتى حاذتا بأذنيه، ثم وضع يده اليمنى على كفه اليسرى والرسغ والساعد، فلما أراد أن يركع رفع يديه مثلها قال: ووضع يديه على ركبتيه، ثم لما رفع رأسه رفع يديه مثلها، ثم سجد فجعل كفيه بحذاء أذنيه، ثم قعد وافترش رجله اليسرى، ووضع كفه اليسرى على فخذه وركبته اليسرى، وجعل حد مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، ثم قبض اثنتين من أصابعه وحلق حلقة، ثم رفع إصبعه فرأيته يحركها يدعو بها)) سنن النسائي (889). والرسغ الذي هو المفصل بين اليد والكف، والساعد، هذه الصفة التي نقلها وائل بن حجر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وبعد ذلك قال: (فوق سرته). أي من السنة أن يضع يده اليمنى على يده اليسرى، على الصفة التي ذكر (فوق سرته). وفي موضع وضع اليد في الصلاة، هل هو فوق السرة؟، هل هو على الصدر؟، هل هو تحت الصدر؟، هل هو تحت السرة؟، أقوال لأهل العلم، والذي عليه مذهب الحنابلة والحنفية، أنها تحت السرة، توضع تحت السرة لحديث علي، وقول في مذهب أحمد أنها فوق السرة، وقيل إنها تحت الصدر، وقيل إنها على الصدر، وكل ذلك تحتمله النصوص.
ولكن أقرب ما في ذلك أنه إما على الصدر، أو تحته، أو قريبًا منه، لما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث وائل بن حجر أنه «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَضَعُ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى، ثُمَّ يَشُدُّ بَيْنَهُمَا عَلَى صَدْرِهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ » فيما رواه ابن خزيمة في صحيحه، والأمر في هذا قريب، فإذا وضع على صدره، أو دون صدره، أو وضعها فوق سرته، الأمر في هذا قريب، ولكن الأقرب فيما يظهر للسنة، هو أن توضع على الصدر لما جاء في حديث وائل بن حجر، قال: «حضرتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حين نَهَضَ إلى المسجدِ، فدخل المِحْرَابَ، ثم رفع يَدَيْهِ بالتكبيرِ، ثم وضع يده اليمنَى على يسراه على صدره))صحيح مسلم(918).
على أن بعض العلماء، رأى أن وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى، على الصدر مكروه، وقد نُقل ذلك رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، بناءً على أن أكثر ما ورد لم يذكر الصدر، فلعله رأى أن هذه الرواية شاذة.
(ثم يقول سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك)، هذا يسمى دعاء الاستفتاح، وهو من سنن الصلاة، في قول عامة العلماء، خلافًا للإمام مالك رحمه الله، ولا فرق في ذلك بين النفل والفرض، فيسن هذا الذي ذكره المصنف، هذه صفة الصلاة في الفرض وفي النفل، جميع ما سيأتي هو صفة للصلاة في الفرض وفي النفل.
ودليل ذلك ما رواه مسلم في صحيحه، في المقدمة، وإن كان الحديث في إسناده مقال، لكنه اعتضد به الإمام مسلم، ورواه في مقدمته، أنَّ عُمر: « كَانَ يَجْهَرُ بِهَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ يَقُولُ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ تَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ.)) صحيح مسلم(399).
ورد غير ذلك، ولذلك قال: (أو غيرِه). (أو غيرَه). يعني يقول (سبحانك اللهم وبحمدِك، وتبارك اسمُك، وتعالى جدُّك، ولا إله غيرُك). وهو الاستفتاح المنقول عن عمر، لم يثبت بإسنادٍ مرفوعٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم صحيح، لكنه جاء عن عمر أنه كان يجهر به يُعلمه الناس، وهذا في محضر الصحابة، فلو لم يكن قد سمعه وسمعه الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم لما أقرُّوه على ذلك.
(أو غيرَه). أو غيره من الاستفتاحات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أشهرها ما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسكت بين التكبير وبين القراءة إسكاتة - قال أحسبه قال: هنية - فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله، إسكاتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: " أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد)) صحيح البخاري (744)، ومسلم(963). وهذا الحديث في الصحيحين.
وهذا صريح أنه قد قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، في المكتوبة، وقد قال الإمام أحمد "ما أحسن حديث أبي هريرة في الاستفتاح"، لماذا؟؛ لأنه صحيح الإسناد، وهو مضافٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم علمه النبي أبا هريرة، وينبغي للمؤمن أن يقول هذا مرًة وهذا مرة؛ لأن في ذلك تنويعًا وإتيانًا على السنة الواردة.
قال: (ثم يتعوذ). هذا من السنن أيضًا، وهو سنَّة لكل من قرأ، لقول الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } سورة: النحل، الآية (98).
وأما ورود ذلك في السنة، فقد جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل واستفتح صلاته وكبر قال " سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك "، ثم يقول: " لا إله إلا الله " ثلاثا، ثم يقول: " أعوذ بالله السميع العليم، من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه "، ثم يقول: " الله أكبر " ثلاثا، ثم يقول: " أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه، ونفخه، ونفثه)) مسند أحمد (11473).
هكذا جاء في حديث أبي سعيد، إلا أنه حديث في إسناده مقال، فالاستعاذة عمدة من قال باستحبابها، هو ما جاء في القرآن في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } سورة: النحل، الآية (98).
قال (ويبسمل). أي بعد الاستعاذة بالله عز وجل (يبسمل). يعني يقول بسم الله الرحمن الرحيم، استحبابًا، فقد ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما روى نعيم المجمر، عن أبي هريرة رضي الله عنه، «عن نعيم المجمر قال: صليت وراء أبي هريرة فقرأ: {بسم الله الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 1]، ثم قرأ بأم القرآن حتى إذا بلغ {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [الفاتحة: 7] فقال: «آمين». فقال الناس: آمين ويقول: كلما سجد «الله أكبر»، وإذا قام من الجلوس في الاثنتين قال: «الله أكبر»، وإذا سلم قال: «والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم)) سنن النسائي:(905).
فدل هذا على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها، وإنما جهر بها أبو هريرة رضي الله عنه تعليمًا للناس، وإلا فالسنة ألا يجهر بذلك، كما جاء في حديث أنس رضي الله أنه قال: «صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فكانوا يستفتحون ب الحمد لله رب العالمين، لا يذكرون {بسم الله الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 1] في أول قراءة ولا في آخرها )) صحيح مسلم: باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة.. وفي بعض الروايات « يسرون بـ بسم الله الرحمن الرحيم». كما في رواية ابن خزيمة.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم «يستفتح الصلاة بالتكبير. والقراءة، بالحمد لله رب العالمين، وكان إذا ركع لم يشخص رأسه، ولم يصوبه ولكن بين ذلك، وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد، حتى يستوي قائما، وكان إذا رفع رأسه من السجدة، لم يسجد حتى يستوي جالسا، وكان يقول في كل ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى، وكان ينهى عن عقبة الشيطان. وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع، وكان يختم الصلاة بالتسليم» صحيح مسلم:(240).
هذا ما جاء فيما يتعلق بقراءة البسملة، وأنها سنة، وليست واجبة، حيث جاء ذلك عن أنس، فيما أخبر من فعله، وفعل الخليفتين بعده، فعل أبي بكر، وفعل عمر، وكذلك في حديث عائشة رضي الله عنها: « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم «يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة، بالحمد لله رب العالمين)) صحيح مسلم(240). هكذا فيما رواه الإمام مسلم من حديث عائشة.
بعد ذلك قال: (ويقرأ الفاتحة). يقرأ الفاتحة؛ لأن الفاتحة ركنٌ من أركان الصلاة، وقد جاءت النصوص بوجوب قراءتها، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة: «لا صلاةَ لمن لم يقرأْ بأُمِّ القرآن» صحيح مسلم:(394)). وفي حديث أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم: « من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج» صحيح مسلم: (38 - (395)). خداج فاسدة أو ناقصة، وهذا هو الأصل في الخداج، هو الشيء الناقص، ومنه تسمية من ولد قبل التمام خديجًا، لأنه ناقص في مدة بقائه وحمله.
يقول المصنف: (ويقرأ الفاتحة). وقراءة الفاتحة مما ذهب إليه عامَّة علماء الأمة، رضي الله عنهم، قال: (ويقرأ معها في الركعتين الأوليين من الرباعية والثلاثية سورةً). لما جاء في الصحيح من حديث أبي قتادة رضي الله عنه: « كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب، وسورتين يطوِّل في الأولى، ويقصر في الثانية ويسمع الآية أحيانا، وكان يقرأ في العصر بفاتحة الكتاب وسورتين، وكان يطول في الأولى، وكان يطول في الركعة الأولى من صلاة الصبح، ويقصر في الثانية)) صحيح البخاري(759). لكن في طول الأولى دون طول صلاة الظهر، وفي طول الثانية دون صلاة العصر.
وجاء ذلك أيضاً في حديث أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حزرهم قدر قراءته صلى الله عليه وسلم قال: «كنا نحزر قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر قراءة الم تنزيل السجدة وحزرنا قيامه في الأخريين قدر النصف من ذلك، وحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه في الأخريين من الظهر وفي الأخريين من العصر على النصف من ذلك)) صحيح مسلم:(156-(452)).
ثم قال رحمه الله بعد أن فرغ من ذكر ما يتعلق بمشروعية قراءة الفاتحة، ذكر السنة في القراءة، قال: (تكون في الفجر من طوال المفصل). أي يُسنُّ في صلاة الفجر أن يقرأ من طوال المفصل، والدليل على ذلك ما في السنن من حديث سليمان بن يسار، رواه أحمد والنسائي، وغيرهما، عن أبي هريرة، «أنه قال: ما صليت وراء أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من فلان» مسند أحمد(7991). لم يذكر فلان، من القائل؟، أبو هريرة، ثم ذكر ما شاهده «- قال سليمان - كان يطيل الركعتين الأوليين من الظهر، ويخفف الأخريين، ويخفف العصر، ويقرأ في المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في العشاء بوسط المفصل، ويقرأ في الصبح بطوال المفصل )) مسند أحمد (7991).
هذا دليل قول المؤلف: (تكون في الفجر من طوال المفصل). إذًا العمدة في ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه، في وصف قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء أن النبي صلى الله عليه سلم كان يقرأ في الفجر بـ"ق" وجاء عنه أنه قرأ "الطور"، وجاء عنه أنه قرأ غير ذلك صلى الله عليه وسلم.
أما في المغرب قال: (من قصاره). للحديث السابق، وقصار المفصل من سورة الضحى إلى الناس، ولا يضرُّ لو أطال أحيانًا، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قرأ "المرسلات"، وأنه قرأ الطور في "المغرب"، (وفي الباقي من أوساطه). في الباقي يعني في باقي الصلوات، وشمل ذلك الظهر والعصر والعشاء.
أما العشاء، فلنص حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فيما نقله سليمان بن يسار في وصف صلاة من قال عنه أبو هريرة: « ما صليتُ وراء أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من فلان)) مسند أحمد (7991).
وأما ما يتعلق بـ الظهر والعصر، فقد جاء في حديث أبي سعيد الخدري الذي ذكرته، فيما رواه مسلم قال: « أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية أو قال نصف ذلك - وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر قراءة خمس عشرة آية وفي الأخريين قدر نصف ذلك)) صحيح مسلم:(157). ويستحب أن يطيل في الأولى ويقصر في الثانية، وهكذا الصلاة تبدأ طويلة ثم تتناقص تخفيفًا.
قال: (يجهر في القراءة ليلًا، ويُسرُّ بها نهارًا). وهذا محل اتفاق، أن صلاة الليل هي موضع الجهر، وأن صلاة النهار موضع الإسرار، لا خلاف في استحباب ذلك، والأصل فيه ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال أبو هريرة رضي الله عنه « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة إلا بقراءة» قال أبو هريرة: «فما أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلناه لكم، وما أخفاه أخفيناه لكم)) صحيح مسلم:(42). يعني في القراءة فما كان يجهر به النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة، جهر به الصحابة، وما أخفاه صلى الله عليه وسلم في قراءته، أخفاه الصحابة رضي الله عنهم.
استثنى المصنف رحمه الله من ذلك، قال: (إلا الجمعة والعيد والكسوف والاستسقاء، فإنه يجهر بها). لورود السنة بذلك، فالسنة واردة في الجهر بالجمعة.
فقال رحمه الله: (ويضع يديه على ركبتيه). أي من السنة أن يضع يديه على ركبتيه، كما جاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: «كُنَّا نَفْعَلُ ذَلِكَ، فَنُهِينَا عَنْهُ، وَأُمِرْنَا أَنْ نَضَعَ الأَكُفَّ عَلَى الرُّكَبِ)) سنن الترمذي(259).كما جاء في الصحيحين من حديث مصعب بن سعد عن سعد أنه صلى بجنب أبيه، فطبق مصعبٌ يديه، وضعهما بين فخذيه، فنهاه عن ذلك « كُنَّا نَفْعَلُ ذَلِكَ، فَنُهِينَا عَنْهُ، وَأُمِرْنَا أَنْ نَضَعَ الأَكُفَّ عَلَى الرُّكَبِ )) سنن الترمذي بشار: باب ما جاء في وضع اليدين على الركب، حديث رقم (259).
وقد جاء في مستدرك الحاكم، عن وائل بن حجر رضي الله عنه أنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ركع فرَّج أصابعه, وإذا سجد ضم أصابعه الخمس )) سنن الدارقطني(1283). وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم، في السُّنن أنه كان إذا ركع مكَّن يديه من ركبتيه.
قال: (ويجعل رأسه حيال ظهره). أي من السنة أن يجعل رأسه على وزن ظهره (حيال). أي على وزن، على مستوى ظهره، فلا يُشخص"لا يرفع"، ولا يُصوِّب "لا ينزل" كما جاء ذلك في وصف ركوعه صلى الله عليه وسلم، من حديث عائشة قالت: «يستفتح الصلاة بالتكبير. والقراءة، بالحمد لله رب العالمين، وكان إذا ركع لم يشخص رأسه، ولم يصوبه ولكن بين ذلك)) صحيح مسلم:(240- (498)).
وبعد ذلك قال: (ويقول سبحان ربي العظيم). هذا فيما يتعلق بالمسنون قوله، لحديث حذيفة « ثُمَّ رَكَعَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ)) صحيح مسلم:(203-(772)). قد جاء ذلك في المسند عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، وقد جاء مثله عن ابن عباس رضي الله عنه، في قوله في الركوع سبحان ربي العظيم.
قال: (ويكرره). قال حذيفة رضي الله عنه، « يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ، سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ، سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ)) سنن النسائي:(1133). يكرر ذلك، وورد عنه أنه كان يقول في ركوعه: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي"، ورد ذلك في الركوع، وفي السجود من حديث عائشة، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللهُمَّ اغْفِرْ لِي " يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ)) صحيح مسلم:(217-(484)).
حيث قال الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} سورة: النصر، الآية (3،1).
قال: (وإذا قال مع ذلك حال الركوع، سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي، فحسن). لثُبوته عن عائشة، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللهُمَّ اغْفِرْ لِي " يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ )) صحيح مسلم:(217-(484)).
قال: (ثم يرفع رأسه قائلًا). هل يقولهما سواء؟ يقول هذا وذاك، من أهل العلم من يقول: إذا قال ذكرًا فلا يخلطه بغيره، فإذا قال سبحان ربي العظيم، لا يأتي بغيره، بل يلزم سبحان ربي العظيم؛ لأنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم، جمع بين ذكرين في حال.
ولكن الذي يظهر والله أعلم، أن الأمر في ذلك واسع، وإن لزم ذكرًا بعينه، هو الأقرب والظاهر من السنة، لكن لو أضاف إليه شيئًا آخر، كأن يقول: "سبحان ربي العظيم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي" فالذي يظهر لا بأس، لكن ظاهر السنة، أنه يقتصر على ذكرٍ واحد، ويكرِّره، فإذا قال "سبحان ربي العظيم، يقول: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم"، وإذا قال "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي"، كرَّر ذلك، هذا الذي يظهر، والله تعالى أعلم، في الركوع وفي السجود.
قال رحمه الله: (ثم يرفع رأسه). أي: يجب على المصلي أن يرفع رأسه، (بعد الركوع، قائلًا سمع الله لمن حمده). لما جاء في صفة الصلاة، «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ المَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ، فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم فَرَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ السَّلاَمَ، فَقَالَ: «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ»، فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» ثَلاَثًا، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، فَمَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي، قَالَ: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ، فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا)) صحيح البخاري:(793).في تعليم النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الصلاة، لمن أساء في صلاته.
ثم يقول سمع الله لمن حمد، حين يرفع صلبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم، ربنا ولك الحمد، هكذا جاءت السنة في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
هذا (إن كان إمامًا، أو منفردًا). هذا المشروع إن كان إمامًا أو منفردًا في هذا، لأنَّ القول في الرفع من الركوع، مما يُفارق فيه المأموم، الإمام والمنفرد، أما المأموم فلا يقول ذلك، لظاهر السنة في حديث أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعليمه قال: « وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا))سنن أبي داود(601).قال أنس، « وإذا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ)) سنن أبي داود(601).
أنس يصف صلاة النبي، أو ينقل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ فَرَسًا، فَصُرِعَ عَنْهُ فَجُحِشَ شِقُّهُ الأَيْمَنُ، فَصَلَّى صَلاَةً مِنَ الصَّلَوَاتِ وَهُوَ قَاعِدٌ، فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودًا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: " إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا، فَصَلُّوا قِيَامًا، فَإِذَا رَكَعَ، فَارْكَعُوا وَإِذَا رَفَعَ، فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ، وَإِذَا صَلَّى قَائِمًا، فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا، فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُون)) صحيح البخاري: (689). وهذا يقتضي أنه إذا قال الإمامُ "سمع الله لمن حمده"، قال المأموم "ربنا ولك الحمد".
وهذا مما يفارق فيه المأموم الإمام، لقائل يقول لماذا لا يقول سمع الله لمن حمده، ثم يقول ربنا ولك الحمد؟، الجواب على هذا أنه في هذا الحديث، قال: «وإذا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا)) سنن أبي داود(601). الفاء للترتيب والتعقيب القريب، فيدل عل أن المشروع أن يقول « فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ)) سنن أبي داود، باب الإمام يصلي من قعود، حديث رقم(601).هذا هو المشروع للمأموم، وقد قال بعض أهل العلم: إن المأموم يقول كالإمام، سمع الله لمن حمده، ثم يقول ربنا ولك الحمد.
لكن فيما يظهر أن المشروع للمأموم، هو أن يقول ربنا ولك الحمد، وجه الدلالة في الحديث، أنه قال: « وإذا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ)) سنن أبي داود(601). الفاء للتعقيب والترتيب القريب، الذي يفيد أن هذا القول يقع بعد ذلك القول.
قال: (ويقول الكل: ربنا ولك الحمد، ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا مباركًا فيه، ملء السماء، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد). لما جاء في حديث رفاعة بن رافع الزرقي رضي الله عنه، قال: « كنا يومًا نصلِّي وراءَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلما رفَع رأسَه من الركعةِ، قالسمِع اللهُ لمَن حمِدَه. قال رجلٌ وراءَه: ربَّنا ولك الحمدُ حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فلما انصرَف، قال: مَنِ المتكلِّمُ. قال:أنا، قال: رأيتُ بِضعَةً وثلاثينَ مَلكًا يبتَدِرونها، أيُّهم يكتبُها أولُ((صحيح البخاري:(799).
وهذا يدل على ما ذكرتُ قبل قليل، من أن ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الصلاة، منه ما هو قوليٌّ، ومنه ما هو فعليٌّ، ومنه ما هو إقرار، فالنبي صلى الله عليه وسلم أقر هذا، على قوله ربنا ولك الحمد، حمدًا كثيرًا مباركاً فيه، وأخبر عن هذا العدد من الملائكة الذين يبتدرون هذه الكلمة يكتبونها.
وجاء عن عبد الله بن أبي أوفى، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا رَفَعَ ظَهْرَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، قَالَ: «سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، اللهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءُ السَّمَاوَاتِ، وَمِلْءُ الْأَرْضِ وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ)) صحيح مسلم:(476). مما يقوله في هذا الموضع.
ومن أجمع ما جاء، ما جاء في حديث أبي سعيد، في مسلم: « أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَالَ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ قَالَ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ أَهْلُ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ ) صحيح بن حبان (1905).
فإذا قال هذا أو ذاك أو ذكر الأول، كله مما جاءت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.