الحمدُ للهِ حَمْداً كثيراً طيِّباً مُباركاً فيهِ كَما يحِبُّ رَبُّنا وَيَرْضَى، أَحْمدُهُ حقَّ حمدهِ، لهُ الحمدُ في الأُولَى وَالآخِرةِ، ولهُ الحكْمُ وإليهِ تُرْجَعُونَ، وأَشْهدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وأَشْهَدُ أَنَّ مُحمَّداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ، خيرتُهُ مِنْ خلْقِهِ، صَلَّى اللهُ عليهِ وعَلَى آلِهِ وصحْبِهِ وَمَنِ اتبعَ سنتهُ بإحْسانٍ إلَى يومِ الدينِ.
أما بَعْدُ:
فالسلامُ عليكُمْ ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ، وحياكُمُ اللهُ أَيُّها الإخوةُ والأَخواتُ، وأَهْلاً وسهْلاً بكُمْ في حلقةٍ جديدةٍ منْ بَرْنامجكُمْ فَإني قريبٌ، في هَذِهِ الحلْقَةِ نَقِفُ متلمسينَ الرَّبْطَ بينَ الدُّعاءِ وَالصِيامِ، هَلْ هُناكَ ارتباطٌ بينَ إِجابةِ الدَّعواتِ وبينَ عبادةِ الصيامِ؟ فرضَ اللهُ تعالَى عَلَى عِبادهِ الصيامِ فَقالَ في محكمِ كِتابِهِ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ * ﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ * ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾[البقرة:183-185]^، بعدَ ذلكَ قالَ جلَّ في عُلاهُ: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾[البقرة:186]^، ثم عادَ الحديثُ عنِ الصيامِ وأَحْكامِهِ فَقالَ جلَّ في علاهُ: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ﴾[البقرة:187]^، إِلَى آخِرَ ما ذكرَ اللهُ تعالَى مِنْ أَحْكامِ الصِّيامِ، هذِهِ الآيةُ جاءتْ في ثَنايا آياتِ الصِّيامِ، وَفي ذكرها بيْنَ آياتِ الصِّيامِ وأحكامِهِ حِكَمٌ وغاياتٌ وأسرارٌ، واللهُ أَعْلمُ بِغاياتِ كلامِهِ، وأسرارِ كِتابِهِ سُبْحانَهُ وَبحمْدِهِ، إِلَّا أَنْ المؤمِنَ مَأْمُورٌ بالتدبُّرِ، وَمِنَ التدبُّرِ أَنْ يتلَمَّسَ الأَسْرارَ وَالغاياتِ وَالحِكَمِ بِصفِّ الآياتِ ونَظْمِها، هَذا الذِّكْرُ لآيةُ الخبرُ عَنْ قُرْبِ اللهِ عزَّ وجَلَّ مِنْ عِبادِهِ يُفِيدُ فوائدَ منْها: أَنَّ الصِّيامَ الَّذِي هُوَ عَمَلٌ بينَ العَبْدِ وَرَبِّهِ هُوَ سِرُّ لا يَطَّلِعُ علَيْهِ غَيْرُ اللهِ جَلَّ وَعَلا، وَلِذَلِكَ قالَ: « الصَّومُ لي وأَنا أَجْزِي بهِ »، لَنْ يَذْهَبَ هَباءً، بَلْ اللهُ قريبٌ عبده، مطلعٌ عَلَى ما يكُونُ مِنْ عملِهِ، فَإِنَّهُ سُبْحانَهُ وَبحمْدِهِ لا يخْفَى عليهِ شَيْءٌ مِنْ شَأْنِ عِبادِهِ يعْلَمُ السرَّ وأَخْفَى، قربُهُ سُبْحانهُ وبحمْدِهِ مُوجِبُهُ لإحْسانِهِ وَجَزِيلِ كرمِهِ لأُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا في عِبادتهِمْ فَقامُوا باِلصيامِ عَلَى الوجهِ الَّذِي يَرْضاهُ جَلَّ في عُلاهُ.
والفائدةُ الثانيةُ: أَنَّ سُؤالَ الصَّائمينَ وأَدْعيتَهُمْ وَمَطالبَهُمْ حُرَّيَةٌ بإِجابَةِ اللهِ عَزَّ وجلَّ، فذكَرَ قُرْبُ اللهِ عزَّ وجَلَّ في هَذا الموضِعِ يُفِيدُ قُرْبَ إِجابتَهُ لدُعاءِ السائلينَ، وَسؤالِ الطَّالبينَ، وَاستغاثَةِ المسْتَغِيثينَ.
إنَّ مما يدلُّ عَلَى أَنَّ الدُّعاءَ في رَمضانَ لهُ مَزِيَّةٌ عَلَى غيرِهِ مِنَ الأَيَّامِ أَنَّهُ شَهْرٌ مباركٌ تفتحُ فيهِ أَبْوابُ الجنةِ، وتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوابُ النارِ، وقَدْ جاءَ ذَلِكَ فِيما رواهُ البُخاريُّ وَ مسلمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ علَيْهِ وسلَّم قالَ: « إِذا دَخَلَ شهْرُ رَمَضانَ فُتِحَتْ أَبْوابُ الجنةِ، وَغُلِّقتْ أَبْوابُ النارِ، وسُلْسِلَتِ الشياطينُ »، وجاءَ في رِوايةِ البُخارِيِّ: « إِذا دَخلَ شهرُ رَمَضانَ فتحتْ أبوابُ السَّماءِ »، وَفي رِوايةٍ لمسلمٍ: « إِذا دخلَ شهرُ رَمضانَ فُتِّحتْ أبوابُ الرحمةِ »، وكُلُّ هَذا مُؤْذِنٌ بِعظيمِ الإِثابَةِ عَلَى الطَّاعاتِ وَالصالحاتِ في هَذا الشهرِ المبارَكِ، وأَنَّ اللهَ يُعْطِي فيهِ عَلَى القليلِ الكثيرَ، كَما أنهُ مُؤْذنٌ بإجابَةِ الدَّعواتِ وَإِقالَةِ العثراتِ، وَحُصُولِ المطْلُوباتِ وَإِغاثَةِ اللهَفاتِ وكشْفِ الكُرباتِ.
إن فتحَ أَبْوابِ السَّماءِ يبشِّرُ المؤمِنَ بأَنَّ عملهُ مَقْبولٌ، وأنَّ دُعائَهُ مَسْمُوعٌ، لذلِكَ بشرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ علَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحابَهُ بِذلِكَ فَقالَ كَما في المسندِ والسننِ مِنْ حَدِيثِ عبْدِ اللهِ بْنِ عُمَر لأَصْحابِهِ الَّذِينَ مَكَثُوا في المسجِدِ يَنْتَظِرُونَ العِشاءَ بَعْدَ المغربِ: « أَبْشِرُوا هَذا ربكُمْ قَدْ فتَحَ باباً مِنْ أَبْوابِ السَّماءِ يُباهِي بِكُمُ الملائِكَةَ يقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبادي قَدْ قَضَوْا فَرِيضَةً وَهُمْ ينتَظِرُونَ الأُخْرَى ».
إِنَّ مِما يَدُلُّ عَلَى أَن فتح أبواب السماء موجب لعظيم الإجابة وكبير الإحسان والجزاء أن البني صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول في صلاته: الله أكبر كبيرا ،والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرةً وأصيلا، فقال صلى الله عليه وسلم: « عجبت لها، فتحت لها أبواب السماء »، إنه دعاء ثناء وتمجيد وتقديس وقع موقعاً عظيماً أن فتحت له أبواب السماء.
وقد فهم عمر رضي الله عنه أن فتح أبواب السماء مؤذن بالإجابة والإثابة والقبول، وعظيم الفضل من الله عز وجل، قال رضي الله عنه: فما تركتهن منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.
أيها الأخوة والأخوات! إن النبي صلى الله عليه وسلم بشر المؤمنين بقدوم رمضان، ففي المسند والسنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: « أتاكم رمضان شهر مبارك »، أي: كثير البركة والخير، « فرض الله صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشيطانين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم »، فتبشير النبي صلى الله عليه وسلم بقدوم رمضان وإخباره بأنه شهر مبارك يدل على أنه شهر تجاب فيه الدعوات، وتقال فيه العثرات، وتضاعف فيه الأجور، وتحط فيه الخطايا والسيئات.
ومما يدل على أن دعوة الصائم عظيمة القدر حرية بالإجابة من الله عز وجل ما رواه الترمذي وابن ماجة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ثلاث لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم »، وهذا الحديث وإن كان في إسناده مقال إلا أنه يعتضد بما جاء من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد ».
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند فطره: « ذهب الضمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله »، فكل هذا مع ما دلت عليه الآية من منزلة الدعاء في الصيام حيث ذكره الله تعالى في ثنايا آيات الصيام يؤيد أن دعوة الصائم جديرة بالإجابة، حرية بالقبول.
وقد جاء عن غير واحد من السلف أنهم كانوا يدعون الله عند فطرهم، كما جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول عند فطره: « اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر ذنوبي »، وجاء عن الربيع بن خثين أنه كان يقول عند فطره: « الحمد لله الذي أعانني فصمت، ورزقني فأفطرت »، وإن مما يدل على أن دعوة الصائم حرية بالإجابة: ما جاء في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « تسحروا فإن في السحور بركة »، فإن الله قد أثنى على المستغفرين بالأسحار فقال: ﴿ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾[الذاريات:18]^، وهو من مواطن الإجابة، ومواطن النزول الإلهي الذي يقول فيه رب العالمين: هل من داع فأجيبه، هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له.
وإن مما يدل على مزية الدعاء في رمضان ما جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول؟ قال: « قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فأعف عني »، وهذا يشعر بأن دعاء المسلم في هذه الليلة من مواطن الإجابة ومن مواطن العطاء، فالله تعالى كريم منان.
فيا أصحاب الحاجات، ويا أصحاب الكربات سلوا الله تعالى من فضله، وتعرضوا لعطائه ونواله في أيام هذا الشهر المبارك ولياليه، وابشروا فإن عطاء الله كبير، وفضله عظيم، هو الحي الكريم جل في علاه، لا يقصده أحد إلا ويعود منه بفضل وإحسان، وعطاء ونوال، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في المسند من حديث أبي سعيد: « ما من مسلم يدعوا الله عز وجل من غير إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله تعالى إحدى ثلاث خصال: إما أن يجيبه إلى ما دعاه، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثل ما سأل »، قالوا: إذاً نكثر يا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم: « الله أكبر، الله أكثر من كل السائلين، الله أكثر من كل المسائل »، سلوه جل في علاه، فليس شيء أكبر منه جل في علاه ولا أعظم، الله أكبر كبيرا، وسبحان الله بكرةً وأصيلا.
إلى أن نلقاكم في حلقة قامة من برنامجكم فإني قريب، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.






