الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو رب العالمين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، اصطفاه الله من بين الناس فجعله خاتم النبيين، وإمام المرسلين، وسيد ولد آدم أجمعين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد...
فحياكم الله أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة، إن القرآن العظيم جعله الله تعالى بيانًا لكل شيء، جعله الله تعالى هداية للناس كافة، يقول الله -جل في علاه-: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ﴾[آل عمران:138]، ويقول -جل وعلا-: ﴿وَقُرْآنٍ مُبِينٍ﴾[الحجر:1]، ويقول: ﴿وَكِتَابٍ مُبِينٍ﴾[النمل:1]، ويقول -جل وعلا-: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾[النحل:89]، ويقول -سبحانه وبحمده-: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾[الأنعام:38].
فهذا القرآن العظيم تضمن بيان كل ما يحتاج إليه الناس، هذا القرآن تضمن بيان كل شيء يحتاج إليه الناس في أمر دينهم، وفي أمر دنياهم، في أمر الآخرة، وفي أمر الأولى.
هذا البيان العظيم الذي جاء به القرآن الكريم جاء على نحو متقن، جاء بلسان عربي مبين، كما قال الله تعالى: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾[النحل:102]، ولا يمكن أن يحصل التثبيت إلا بما هو بين واضح، لذلك قال: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾[النحل:102]، فتثبيت الله للمؤمنين إنما لما في هذا القرآن من الهداية، ومن النور، ومن الإيضاح، وقد جعله الله تعالى على نحو ما يتكلم به العرب الذين بلغوا الغاية في الفصاحة، والنهاية في البيان حتى أصبح العرب في أوج اللغات بيانًا وإيضاحًا، وفصاحة، ووجازة، وجزالة، اصطفى الله هذا اللسان فأنزل القرآن على هذا النحو بلسان عربي مبين، وإبانته بشموله لكل أوجه البيان التي جاء بها القرآن، وذاك على نحو ما كان العرب يتكلمون به في لغتهم التي بلغت الذروة، والغاية، والمنتهى في أساليب البيان والفصاحة، ووجازة اللفظ، وغزير المعنى.
من ذلك ما جعله الله تعالى في هذا القرآن من ضرب الأمثال، فإن ضرب الأمثال هو سبيل، وطريق للإيضاح والبيان، وقد كان القرآن على غاية الوضوح فيما ضربه من الأمثال، وصرف الله الأمثال في هذا القرآن تصريفًا عظيمًا، متباينًا، واضحًا ليجذب الناس إليه. يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾[الزمر:27]، ويقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا﴾[الفرقان:50]، ويقول تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾[العنكبوت:43].
ومن رحمة الله -U- بعباده أن لفت أسماعهم، ونبههم إلى ضرورة العناية بتلك الأمثال فدعا الناس كافة قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾[الحج:73]، ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾[الزمر:27] للناس كافة وليس لفئة منهم.
طريق تحصيل ذلك الفهم، طريق تحصيل ذلك العلم إنما هو بتدبر ما في هذا القرآن من الأمثال والمعاني العظيمة، الأمثال حقيقتها أنها تقرب المعاني، تقرب ما في الأذهان بصور محسوسة، بصور ملموسة، يدركها الناس من خلال تلك الصور المعاني التي في الأذهان، لذلك المثل هو وسيلة إيضاح كما يستعمل المعلمون وأهل التعليم وسائل الإيضاح؛ لتقريب المعاني، لتسهيل فهم ما يريدون أن يفهموه إلى تلاميذهم، وما يفهموه طلابه. كذلك القرآن العظيم استعمل الأمثال ونوَّعها وصرفها لأجل أن يصل الناس إلى فهم القرآن، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده.
الله تعالى ذكر في محكم كتابه أنواعًا من الأمثال، ولذلك الأمثال في القرآن على أنواع ثلاثة:
- النوع الأول ما صرح الله تعالى فيه بأنه مثل، وهذا هو الغالب في الأمثال القرآنية إما بالتصريح بالمثل، وإما بذكر أداة التشبيه التي يتبين بها مقصود المثل وموضعه. يقول الله تعالى حتى نضرب أمثلة ليفهم ما المقصود بالأمثال المصرحة، يقول الله تعالى: ﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا﴾[هود:24]، كذلك قول الله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا﴾[إبراهيم:18].
هذه أمثال ضربها الله تعالى في كتابه ليبين معاني، وهذه أمثال مصرحة، ومنها قوله تعالى: ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾[البقرة:266]. إن هذا النوع من الأمثال هو ما يعرف بالأمثال المصرحة، الصريحة التي يذكر الله تعالى فيها المثل أو أداة يفهم منها المثل.
- النوع الثاني من الأمثال هو ما يعرف بالأمثال الكامنة، وهي الأمثال التي تستنبط وتستخلص لم يصرح الله تعالى فيها بذكر المثل أو بأداة التشبيه، إنما ذكرها الله تعالى ومنها يستفاد المثل، مثل قوله تعالى: ﴿لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ﴾[البقرة:68]، هذا في مثل كامن وهو تصوير تلك البقرة التي ذكر الله تعالى نبأها في خبر بني إسرائيل. وكذلك قوله تعالى: ﴿وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾[الإسراء:110].
- ومن الأمثال في القسم الثالث وهو الأمثال المرسلة وهو ما كان وجيز اللفظ، غزير المعنى يستعمل في معاني كثيرة، ويصلح الاستدلال به في مواضع عديدة، منها قوله تعالى: ﴿الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ﴾[يوسف:51]، ومنها قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾[هود:81]. وقد اختلف العلماء -رحمهم الله- في هذا النوع من الأمثال مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا﴾[البقرة:70]، هل يجوز استعمال مثل هذه الأمثال المرسلة في كلام الناس؟
للعلماء في ذلك قولان:
منهم من يقول:أنه لا يجوز استعمالها لما فيه من توجيه القرآن ووضعه في غير موضعه، وجعله في سياق كلام الناس.
وآخرون يقولون: لا حرج في استعمال هذه الأمثال المرسلة إذا كانت في سياق حق وتقرير هدى، ولم تذكر على وجه الامتهان والاستهزاء، والسخرية، وهذا القول هو أقرب القولين إلى الصواب.
فإذا كان استعمال هذه الآيات في موضع مناسب دون استهزاء، ولا غلو، ولا وضع لها في غير موضعها فلا حرج، فلا حرج في استعمالها، لكن احذر من أن توضع آيات الكتاب في غير موضعها. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهدي قلوبنا، وأن يشرح صدورنا، وأن يرزقنا تدبر القرآن وفهمه، والعمل بما فيه، والاهتداء به فهو خير كتاب أنزله الله على الناس دالًّا عليه، ومعرفًا له، ودالًّا على الطريق الموصل إليه. إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.