الحمد لله ربّ العالمين، أحمده حقّ حمده لا أحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، إله الأولين والأخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهدُ أنّ محمداً عبدُ الله ورسوله وصفيُه وخليله، وخيرتُه من خلقه، بعثه الله على حين فترةٍ من الرسل، وانقطاعٍ من الهدايات، وانطماسٍ من السبل، فأشرقت الأرض بهدايته بعد ظلماتها، هَدى الله ـ تعالى ـ به من آمن به، فأخرجهم من الظلمات إلى النور، أنار الله به البصائر، وهَدى به السبل، وعرّف به الطريق الموصل إلى الله، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسانٍ إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فحياكم الله... وأهلاً وسهلاً بكم في هذه الحلقة الأولى من برنامجكم [فادعوه بها]، هذا البرنامج الّذي تعدّه وتُشرف عليه وزارة الشؤون الإسلامية في المملكة العربية السعودية، وذلك ضمن باقة ومجموعة من البرامج التي تُقدمها الوزارة إرشاداً، وتوضيحاً، وتبصيراً، وتعليماً، وتعريفاً، فجزاهم الله خيراً...جزى الله كل من أعان وأشرف، وقام على إنجاح هذه البرامج خير الجزاء.
برنامجنا هو في أشرف العلوم، سنتكلمُ فيه عن ربّنا الّذي خلقنا، والّذي نُصلي له، ونصومُ له، ونزكي، ونحج، والّذي نتقرب إليه بأنواع القربات، وسائر ألوان العبادات، وإنه لن تصلح عبادة، ولن تستقيم طاعة حتى نعرف من نعبد؟! نعرف الله الّذي له ما في السموات وما في الأرض، فبقدرِ علمنا به ومعرفتنا له ـ جلّ في علاه ـ تتحقق له العبودية، ولذلك يقول الله ـ تعالى ـ في محكم كتابه: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾[الأعراف:180]أخبرنا أولاً بأن له الأسماء الحسنى، لم يأمرنا بدعائه ولا بعبادته، إنّما عرّفنا به في أول المراتب، لأن العلم به والمعرفة هو مفتاح تحقيق العبودية، لن تتحقق العبوديٍةُ لأحدٍ إلا إذا عرف من يعبد، ولهذا يتفاوت الناس في تحقيق العبودية، وتتفاوت درجاتهم في الذوق، ولذة الرضا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ نبيا، وعلى قدر معرفتهم بالله، فكلما علت قدم الإنسان في معرفة الله المَلِك الديّان ـ جلّ في علاه ـ نال من العبودية وتحقيقها وبركاتها وخيراتها ما ينشرح به صدره، ويَنعم في الدنيا قبل الآخرة، وينعم بلذة العبودية، وبطعم الإيمان في هذه الدنيا قبل أن يتنعّم برؤية الرَّحمان في الآخرة.
إنّ العبودية تتحقق بقدر المعرفة، لهذا يقول الله ـ تعالى ـ: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾[محمد:19]فأمره أولاً بالعلم به، بمعرفة حقّه، بأنه الله الّذي لا إله غيره، وأنه الله الّذي لا يستحق العبادة سواه، وأنه الله الّذي لا تذلُّ القلوب ولا تسكن ولا تطمئنّ ولا تبتهج ولا تلتذّ إلا بالتوجه إليه ـ سبحانه وبحمده ـ ولهذا كلُ من اشتغل بمعرفة الله فإنه على بابٍ من أبواب السعادة عظيم، الله ـ تعالى ـ خلقنا لعبادته، ولن نحقق هذه العبودية إلا بمعرفته، يقول ـ تعالى ـ: {وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون* ما أريدُ منهم من رزق وما أُريدُ أن يطعمون}] الذاريات:56: 57[ بعد أن بيّن المطلوب من هذا الخلق بيّن ما له من كمال: {إنّ الله هو الرزاق ذو القوة المتين}] الذاريات:58[، فالله ـ عزّ وجل ـ جعل معرفته طريق تحقيق العبودية له، لهذا أرسل الرسل به مُعرّفين، وإليه داعين، فالرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ من نوح إلى آخرهم محمدٍ ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وصلوات الله وسلامه على جميع المرسلين ـ كلهم جاءُوا إلى غاية واحدة، ولتحقيق هدف واحد، وهو تعريفُ العباد بالله الّذي له يسعون وإليه يصيرون: {يأيّها الإنسان إنك كادحٌ إلى ربك كدحاً فملاقيه} ]الإنشقاق:6[فلا بدّ من معرفة هذا الرب الّذي يكدح له العباد، ويتقرّب إليه العباد حتى يتلذذُوا بعبادته، ويذوقُوا طعم الإقبال عليه جلّ في علاه.
والله ـ تعالى ـ قد أخبر في كتابه، أنّ هذا الخلق العظيم في السموات وفي الأرض كله، لإقامة الدلائل على عظيم حقّه، ولمعرفته...يقول ـ جلّ وعلا ـ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} الأمر الشرعي والأمر الكوني، الأمر في الخلق والأمر في الدين: {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} لماذا؟! {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}]سورة الطلاق:12] فجعل الله ـ تعالى ـ خلق السموات والأرض، جعل تنزّل أمره من السماء والأرض لتحقيق هذه الغاية، للعلم به، ومعرفته ـ جلّ في علاه ـ وقد جعل الله ـ تعالى ـ هذه المعرفة سعادة لأصحابها، طمأنينة لأهلها، لذلك ليس في الدنيا شيءٌ من اللذات ولا من المحبوبات أعظم وأنعم وألذّ من المعرفة بالله ـ عز وجلّ ـ هذا ليس كلاماً نظرياً، هذا كلام حقيقي، لكن ما رَاءٍ كمن سمع، ليس من يذوقُ ذلك ويتلذذ به كمن يسمع عنه، ولهذا يوصف لك المكان الجميل وما فيه من مباهج ومناظر خلابة، فلا تستشعر ذلك تمام الاستشعار حتى تراه، فإذا رأيته ذقت طعماً آخر، غير طعمِ ذوق السمع الّذي يتلذذ به السامع، إنه طعمٌ لا يمكن أن يُحدّه وصف، ولا أن يدركه عقل، ولا أن يَنالَه فكر، إنه لا يُذاق إلا بالتجرِبة، والتجرِبة لا تكون إلا بالإقبال على الله ـ عز وجلّ ـ لذلك كان المؤمنون في غاية السعادة في دنياهم لمّا حقّقُوا إيمانهم، لا أقصد بذلك من فرّط في إيمانه، وخالف مقتضى إيمانه بالله، بمخالفاتٍ كثيرة، إنّما أقصد من تلذذ بتحقيق الإيمان الصادق لله ـ عزّ وجل ـ {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}]النساء: 69]إنهم ذاقوا في الدنيا من اللذات ما جعلهم يتسابقون إلى ألوان الطاعات والعبادات، لهذا يصفُ الله ـ تعالى ـ عبادة، الّذين يهجرون فرشهم، ويقومون في الليالي في لذيذ النوم، وفي لذيذ الفُرُش، يقومون من تلك الملذات طاعةً لله، قال ـ جلّ وعلا ـ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا}]السجدة:16] ما الّذي جعل جنوبهم تجفُو المضاجع؟! وتبعد عنها؟! وتَنفر منها؟! إنهم ذاقوا شيئاً في مناجاتهم لله ـ عز وجلّ ـ وفي صلاتهم وفي قيامهم بين يديه، في ركوعهم، في سجودهم، في تذللهم وخضوعهم، بين يدي ربهم ذاقوا طعماً جعلهم يقومون من فرشهم، إنهم لم يقوموا فقط؛ لأن الله ندبهم إلى القيام، بل نالوا من لذة القيام ما كان عوناً لهم على مزيد طاعةٍ وإحسان، ولهذا من رحمة الله بنا أيّها الأخوة والأخوات، من رحمة الله بالمؤمن أن يذيقه في الدنيا طعم العبادة، بركة الطاعة، ثمرة المعرفة به ـ سبحانه وبحمده ـ فيكون ذلك عوناً له على مزيد عطاء، ومزيد بذل، ومزيد إقبال، لأنه ذاق من لذّةِ الآخرة ما جعله يُقبل على الله ـ عز وجلّ ـ ومن رحمته أيضاً أن يُذيقنا بعض الألم عندما نعصي، أن يؤدبنا ـ جلّ وعلا ـ بالمصائب عندما نخطئ ليُنبّهنا إلى عظيم ما سنلقاه إن عصيناه ـ جلّ في علاه ـ: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}]الروم:41] وهذا النموذج الّذي نشاهده في هذه النفحات الربانية، في الإنعام، والإشراقات التي تُصيب القلب بمعرفة الله، والألم عندما نعرضُ عنه، هو الحافز لنا على مزيد إقبال على الله ـ عزّ وجلّ ـ على مزيد تعرّف عليه ـ جلّ في علاه ـ ولذلك أنا أدعو نفسي وإخواني وجميع أهل الإيمان، بل جميع البشريّة أن يتعرّفوا على الله، والله ـ عزّ وجل ـ عرّف نفسه في كتابه، لم يجعل الأمر غائباً مبهماً لا نعرف كيف نتعرّف عليه، بل بعث لنا رسولاً، جلّى لنا الله، حتى قيل إنّ الله تجلى لعباده في كتابه، فمن أراد أن يعرف ما لله من الكمالات؟! وما لله من الصفات؟! وما لله من الأسماء؟! وما لله من البهاء؟! وما لله من العظمة والجلال والكبرياء؟! وما لله من الرحمة والجود والإحسان؟! فليُقبل على القرآن، ليقرأ الآيات ليس فقط تلاوة لسان، إنّما تلاوة قلب، يكون لسانه وراء قلبه، إنّه يتدبّر ويعتبر ويدّكر ويُحقق القراءة الحقيقية التي بها تنشرح الصدور، ويتبيّن الحق، ويعرف العبد الله ـ عزّ وجل ـ معرفةً حقيقية، فيُقبل عليه.
أدعوا نفسي وإخواني إلى العناية بأسماء الله وصفاته، إنّها بركات، إنّها لذّة، والله لا يدركها إلا من أقبل، ولهذا قال الله ـ عزّ وجل ـ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} ]فاطر: 28] العلماء به هم الّذين يخشونه، العلماء به هم الّذين يقبلون عليه، لهذا كان أعظمَ آيةٍ في كتاب الله، آيةُ الكرسيّ؛ لماذا؟!
لإنها الخالصة لبيان صفاته وكمالاته ـ جلّ في علاه ـ وقد سأل النبيُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبيّ بن كعب عن أعظم آية؟! فقال رضي الله عنه: {الله لا إله إلا هو}، فضرب النبيُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ على صدر أبيّ، قال: ليهنك العلمُ أبا المنذر"صحيح مسلم (810).
إنه العلمُ بالله الّذي تنشرح به الصدور، وتطمئنّ به الأفئدة، فاقبلوا على القرآن، توقفوا عند أسماء الله، تدبروا معانيها، تعرّفوا على الله من خلالها، فإنه ما من اسمٍ إلا وهو يدلُّ على كمال في الوصفِ والفعلِ وفي الذاتِ، فلا إله إلا الله له الأسماء الحسنى، كما قال ـ جلّ في علاه ـ: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾[الأعراف:180]اللهم إناّ نسألك البصيرة في الدين، والعمل بالتنزيل، وأن تجعلنا من عبادك العارفين بك، العاملين بما يرضيك، وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة، استودعكم الله الّذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.