الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، ملء السماء، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء ربنا من شيء بعده، نحمده حق حمده، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون. وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، رب العالمين لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبينا محمد فإنه أعظم الناس حقًّا علينا، فبه أخرجنا الله من الظلمات إلى النور، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد...
فحياكم الله أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة، ونتناول اليوم ما ذكره الله تعالى في شأن الأمثال في القرآن، فإن الله تعالى بين ضرب الأمثال في القرآن في مواضع عديدة، يقول الله -جل في علاه-: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾[الزمر:27]، إذًا مقصود الضرب بهذه الأمثال البيان لهذه الأمثال التي في القرآن هو التذكر، هو التفكر، هو الاعتبار، هو الاتعاظ، هو إدراك المعاني التي من أجلها ضرب الله تعالى تلك الأمثال. وقد قال الله في محكم كتابه: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا﴾[الإسراء:41]،أي: نوعنا، فلم يكن القرآن مشتملًا على نوع من الأمثال بل على أنواع كثيرة، متعددة، في كل مثل قضية، في كل مثل موضوع، في كل مثل أمر يبينه الله تعالى ويقربه إلى أذهاننا بما صوره لنا من تلك الأمثال.
فالأمثال غايتها ومقصودها هو التقريب للأمور الذهنية، التبسيط للأمور البعيدة، إحضار الغائب بمثل حاضر حتى يدركه الناس. وقد امتن الله علينا بذلك فقال: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ*كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾[الروم:58-59]، ويقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا﴾[الإسراء:89]، ﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾[الحشر:21].
إذًا نحن بحاجة إلى أن نقف مع تلك الأمثال، إلى أن نعتبر بها، إلى أن نتعظ بما فيها من العبر، فما هو الطريق؟
هذا سؤال كبير، ما هو الطريق الذي من خلاله نستطيع أن نتدبر أمثال القرآن؟ كيف نحصل درجة تلك الأمثال؟
إن تلك البركة التي في هذه الأمثال لا يمكن أن تُدرك إلا بما جعله الله مفتاحًا لنيل بركة القرآن، إنه التدبر يقول الله تعالى في محكم كتابه: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾[ص:29].
أيها الإخوة والأخوات! لا سبيل لإدراك بركة القرآن بوضعه في البيوت على الرفوف، أو بتعليقه، أو بوضعه في أدوات العرض أو في الرفوف، أو ما أشبه ذلك مما يفعله كثير من الناس. بركة القرآن الحقيقة إنما تكون بفهمه، تكون بالعمل به، ولا يمكن أن يعمل به الإنسان إلا إذا فهمه وتدبر آياته.
لذلك لنستعين الله تعالى ونجتهد في تدبر تلك الآيات، في تدبر ذلك الكتاب، في تدبر الأمثال التي جعل الله تعالى أهلها العالمين بها من العالمين الذين زكاها وشهد لهم بالعلم رب العالمين، ﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾[العنكبوت:43].
بكى بعض السلف عندما قرأ هذه الآية وفاته بعض ما في هذه الأمثال من المعاني، فكان إذا استمع إلى شيء من الأمثال ولم يدرك المعنى وجد في نفسه ألمًا أنه ما بلغ مقصود المثل، فحُرم أن يكون من العالمين.
إن أعظم ما تدرك به الأمثال فهمًا، وتدبرًا، ووعيًا بما تضمنته من المعاني أن يستمع الإنسان لما في القرآن من كلام، لما في القرآن من آيات.
لذلك من المهم أن نجتهد في فهم معاني آيات الكتاب الحكيم بالاستماع إليها. يقول الله -جل وعلا-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾[الحج:73]، إذًا الاستماع هو الطريق الذي من خلاله يدرك الإنسان معاني القرآن، يدرك الإنسان من خلاله ما في هذه الأمثال من الحكم، والغايات، والأسرار، والمعاني، الله تعالى يقول: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾[الأعراف:204].
إذًا الخطوة الأولى التي من خلالها ندرك معاني القرآن، ونفهم الأمثال التي من فهمها كان من العالمين هي سماع القرآن، وعندما نسمع القرآن لنسمعه بوعي، لنستمع إليه ولننصت، وانظر الله تعالى قال في محكم كتابه: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا﴾[الأعراف:204]، لم يأمرنا فقط بمجرد الاستماع، إنما بالاستماع المرافق للإنصات، والإنصات هو التفرغ من كل شاغل لهذا الكلام الذي تستمع إليه حتى تدرك معناه، فهو كلام رب العالمين، كلام عظيم، كلام موجز في ألفاظه لكنه عميق في معانيه، عميق في أسراره، عميق فيما تضمنه من الهدايات والدلالات.
لهذا أوصي نفسي وإخواني وأخواتي وجميع الناس على اختلاف أديانهم أن يعطوا أنفسهم فرصة ليستمعوا ما ذكره الله تعالى في كتابه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾، وإن الاستماع يفهم آفاق التعلم، ويهدي القلب إلى الاستبصار، ويدله على ما في القرآن من الحكم والغايات. إن الله تعالى يقول في محكم كتابه: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾[ق:37]
المنتفعون من الآيات ومنه هذا القرآن، ومنه هذه الأمثال هم صنفان من الناس:
- الصنف الأول من نوَّر الله قلبه بالهداية، من نور الله قلبه بأنوار الوحي، فاستنار هذا القلب بنور الفطرة ونور الوحي، فكان كما قال الله تعالى: ﴿نُورٌ عَلَى نُورٍ﴾[النور:35]، نور الفطرة مع نور الهداية التي جاءت في القرآن.
- الصنف الثاني هم الذين غابت أنوار الفطرة في قلوبهم فاحتاجوا إلى مزيد جهد حتى يدركوا نور القرآن، ولذلك قال: ﴿أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ إذًا هنا بذل جهد أكثر من الأول؛ لأن القلب علق به وحال دونه ودون أنوار القرآن حوائل، وموانع منعت من انتفاعه بنور القرآن وهداياته.
إن الطريق الثاني الذي يدرك به الإنسان تدبر الأمثال، وفهم معانيها ينضم إلى زمرة العالمين الذين قال فيهم رب العالمين: ﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ لنحرص أن نكون منهم، من هؤلاء المستثنون الذين استثناهم الله تعالى إنهم لن يدركوا ذلك إلا بالاستماع والإنصات، وبحضور القلب، وبذل الجهد في إدراك معاني كلام الرب جل في علاه.
إن من أسباب إدراك هداية القرآن أن يستقيم الإنسان على الجادة، أن يهتدي بما أمر الله تعالى به، وما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، أن يكون من المتقين، فإن القرآن هدى للمتقين كما قال الله تعالى: ﴿الم[1]ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾[البقرة:1-2]، إنه هداية لأهل التقوى؛ لأن أهل التقوى يمنحون نورًا إضافيًّا زائدًا على نور الفطرة، وعلى نور الوحي يستفيدون نورًا يمنحهم الله تعالى إياه.
يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾[الأنفال:29]، فالقرآن فيه من النور ما يمشي به الإنسان، كما قال الله تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾[الأنعام:122].
إن هذا النور هو لما في هذا القرآن من الهدايات إضافة إلى هداية العمل به، فإنه إذا اهتدى الإنسان بأنوار هذا القرآن فتح الله قلبه لمزيد فهم للقرآن.
ولذلك فتوحات الله تعالى لعباده هي فتوحات إلهية ربانية، تكون بالفطرة السليمة المستقيمة، وتكون بنور القرآن وما جاء فيه من الهدى، والبيان، وتكون بالعمل بالقرآن، فإن العمل بالقرآن نور يجعل العبد على صراط مستقيم، وهداية قويمة.
أيها الإخوة والأخوات! إن أول درجات التدبر فهم المعنى لذلك أوصي إخواني وأخواتي بأن يقتنوا شيئًا من التفاسير المختصرة الموجزة القليلة في كلماتها ليدركوا معاني كلام الله عز وجل، وإذا أدركوا معاني كلام الله -U- فتح لهم هذا أبواب التدبر، والله تعالى يقول: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾[النحل:43].
اللهم اجعلنا من أهل الذكر العاملين به، الفاهمين له، الداعيين إليه، وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.