الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، أحمده حقّ حمده، له الحمدُ كله أوله وآخره وظاهره وباطنه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهدُ أنّ محمداً عبدُ الله ورسولُه، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، أمّا بعد:
فأهلاً وسهلاً، وحيّاكم الله...
أيّها الأخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم{فادعوه بها}، في هذه الحلقة ستناول اسماً من أوائل الأسماء التي عرّف الله ـ تعالى ـ بها نفسه في كتابه، فإنّ الله ـ تعالى ـ بَعث محمداً بالهدى ودين الحقّ، وكان مبدأُ ذلك ما أوحى الله ـ تعالى ـ إليه في الغار، لمّا كان في غار حراء منفرداً، يتحنث ويتعبّد لله ـ عزّ وجل ـ بمقتضى الفطرة، وما بَقيَ مما يعرفه الناس من دين إبراهيم الصحيح الّذي لا شرك فيه، ولا ميل إلى شيءٍ غير الله ـ عزّ وجل ـ جاءَ الوحيُ إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جاءه جبريل في تلك الخلوة التي لم يكن فيها سواه، فغطّه غطاً شديداً حتى بلغ منه الجَهد -أي ضمّه إليه- فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ- يعني لستُ ممن يحسن القراءة- قال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ-لستُ ممن أُحسن القراءة-وليس عدم امتثال للأمر الّذي أمره الله ـ تعالى ـ به على لسان هذا الرسول، قال: {اقرأ باسم ربك الّذي خلق* خلق الإنسان من علق* اقرأ وربك الأكرم}[العلق: 1: 3] هذا الاسم العظيم الّذي تعرّف الله ـ تعالى ـ به لنبيه وللناس في أول هذه الرسالة، وهو اسمٌ يدلّ على عظيم إحسان الله بما تفضل به على البشريّة من هذا القرآن، وهذا النورِ المبين، وهذه البعثة التي تَفضل بها على محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
اسمُ الله [الأكرم] إنه اسمٌ عظيم من أسماء الله ـ عزّ وجل ـ وهو بمعنى الكريم، وهو دالٌّ على صفة الكرم لله ـ عزّ وجل ـ والكرم وصفٌ يلمحه المؤمن في عطايا الله وجوده، ويبصره في فضله وإحسانه، ليس فقط على جنسٍ من الناس أو صنفٍ منهم، بل ذلك شاملٌ لكل الخلْق، فالجميعُ كلهم بلا استثناء ينالون من كرمه وعطائه ما يُوجب الشكر والإذعان ويستوجبُ الثناء عليه جلّ وعلا:
أنت الكريمُ فلولا رحمةٌ سبقت لم***يُعط شربةَ ماءٍ جاحدٌ عاصي
فمن كرمه أنه يتفضل على عباده حتى المعاندين له، المكذبين الّذين يكذبون رسله، ويُحادُّون شرعه، ويُعارضون أمره، هم في ثياب فضل الله، قد أحاط بهم فَضلُه من كل مكان، فألسنتهم التي بها يكذبون، هي من حركاتِهم وسكناتهم وكل ما يكون منهم، إنما هو فضل الله، وكرمه ـ جلّ في علاه ـ يعطيهم ويمنُّ عليهم ويتفضل عليهم وهم يعارضون دينه، ويكذبون شرعه ويحادّون أولياءه، ويسعون في صدّ الناس عن سبيله، كَرمُ الله تجاوز كل حد، وفضله ـ سبحانه وبحمده ـ لا يُحد أخبر الله أنه كريم ـ سبحانه ـ في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}[الانفطار:6] ، قال ـ تعالى ـ: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}[النمل:40] و قد قال النبيُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حثنا على سؤال الله، وبيان عظيم إحسانه، يقول كما في الحديث الصحيح من حديث سلمان: (إنّ ربّكم حيييٌّ كريم يستحي من عبده أن يرفع يديه إليه ثم يردهما صفرًا)سنن أبي داود (1488)، سنن (3556)، هذا الاسم اسم الله الكريم دال على الكمال في الفعال، وكمال في الأقوال، والكمال في الصفات والكمال في الأسماء، والكمال في كل شيء، فالكريم هو الجامعُ لأنواع الخيرِ والشرفِ والفضل، فهو اسمٌ للأخلاق والأفعالِ والصفاتِ الحميدة المجيدة، وكلّ ذلك وصفهُ ـ سبحانه وبحمده ـ ومن كرمه أنّ كرمه عن كل ما يتعلق به، وما يتصل به سبحانه وبحمده، فقد وصف نفسه بالكريم الأكرم، كما قال ـ تعالى ـ: {وربّك الأكرم}[العلق:3] ووصف كلامه بأنه كريم: {إنه لقرآنٌ كريم}[الواقعة:77] ووصف ـ جلّ وعلا ـ عرشه بأنه كريم، وهو أعظمُ خلقِه من حيث الثقل، وعَظمة الخلق يقول ـ تعالى ـ: {ربُّ العرش الكريم}[المؤمنون:116] وكذلك وصف به ما كَثُرَ خيره، وحَسُنَ منظره من النبات، فقال ـ تعالى ـ: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}[الشعراء:7]، ووصف رزقه بالكريم وقال: {ورزقٌ كريم}[الأنفال:4]، ووصف ثوابه بالكريم فقال: {وأجر كريم}[يس:11] كل ذلك يدل على عظمة ما لله ـ عزّ وجل ـ من الكرم، فهو الكريم وصفاته كريمة، وأسماؤه كريمة، وأفعاله كريمة، لا أحدَ أولى بهذا الوصف منه ـ سبحانه وتعالى ـ فالخيرُ كله بيديه، والشرُّ ليس إليه ـ سبحانه وبحمده ـ والعبادُ إذا صدقوا في إيمانهم بالله ـ عزّ وجل ـ وجدوا منه إكراماً، فإنه يُكرمُ أولياؤه وعبادة، ويتفضل عليهم بألوانٍ من الألطافِ في الدنيا، وبألوانٍ من العطايا في الأخرة، إنّ هذا الاسم العظيم من أسماء الله ـ عزّ وجل ـ يُترجم كل ما يكون من الله ـ عزّ وجل ـ من إحسانٍ لعباده لاسيما أولياؤه الّذين خصهم بفضله، فقد جاء في صحيح الإمام مسلم، من حديث المغيرة بن شعبة ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (...أولئك الّذين أردتُ، غرستُ كرامتهم بيدي، وختمتُ عليها) يعني في الجنة نسأل الله أن نكون منهم، (أؤلئك الّذين أردت) أي أردتُ أن أكرمهم، وأن أمنّ عليهم بالفضل، من أوليائه وعباده، غرس ـ جلّ وعلا ـ بيده كرامتهم، (وختمت عليها، فلم ترَ عين، ولم تسمع أُذن، ولم يَخطر على قلبِ بشر)صحيح مسلم (189) من عظيمِ إنعام الله ـ جلّ وعلا ـ يكفي في ذلك قوله ـ تعالى ـ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[السجدة:17] إنّ الله تعالى كرّم الإنسان عموماً، المؤمن والكافر، فقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}[الإسراء:70] كل ذلك جودٌ وإحسانٌ من الله ـ تعالى ـ ومن كرمه أن سخر لنا الكون كله، فالله ـ تعالى ـ قد سخّر هذا الكون في سمائه وأرضه لنا، {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}[البقرة:29] ولم يَحظر ذلك، ولم يمنعه، بل وهبنا إياه، والّذي حُدّ ومُنع ممّا في هذه السموات وما في الأرض محدودٌ معدود: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ}[إبراهيم:32] كل ذلك من فضله وعظيم إحسانه، ومن كرمه في إثابته لعباده أنّه يُعطي على الحسنة عشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف إلى أضعافٍ كثيرة، أمّا في مقامِ المؤاخذة والمعاقبة فقد قال: {وجزاءُ سيئةٍ سيئةٌ مِثلها}[الشورى:40] بل من كرمه في إثابة عباده ـ سبحانه وبحمده ـ أنه يُثيب العبد على نية العمل الصالح، ولو لم يُوقعه في الواقع والخارج، سواء كان ذلك في القول أو في العمل، كذلك إذا همّ بسيئة ثم تاب عنها ورجع، كان ذلك حسنةً، كما جاء في الصحيح من حديث ابن عباس: (إنَّ الله كتب الحسنات والسيئات، ثمّ بيّن ذلك فمن همّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبها الله عنده حسنةً كاملة، وإن همّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبع مائة ضعف إلى أضعافٍ كثيرة، ومن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنةً كاملة، وإن هو همّ بها فعملها كتبها الله سيئةً واحدة) صحيح البخاري (6491)، وصحيح مسلم (131) هكذا فضلُ الله ـ عزّ وجل ـ ثمّ هو من فضله وكرمه يفرح بتوبةِ عبده، ويغفرُ الذنوب، والتوبة تهدم الذنوب مهما عَظمت وكَبرت، أليس هذا دليلٌ على الكرم، بلى والله إنه من أدلة كرم الله وعظيم إحسانه، ومن خصائص كرمه أنه لا حدّ له، فعنده خزائن السموات والأرض: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ}[الحجر:21] خزائن الفضل، وخزائن الإحسان، وخزائن الخير، وخزائن المال، وخزائن الولد، وخزائن الجاه، وخزائن كل خير تطلبه وترجوه في الدنيا وفي الآخرة هي عنده: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} يُخبرنا بذلك حتى نتوجه إليه، ويَعدُنا بفضله إذا صدقنا في الإقبال عليه: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ}[ص:54] ما أعدّه الله لأوليائه {مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} والله ـ تعالى ـ يَعِدُنا بالإجابة إذا قصدناه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة:186] ثمّ يُخبر بأنّه يُكرم أولياءه بطاعته والإقبال عليه فقد قال ـ جلّ وعلا ـ بعد ذكرِ مَن أبى السجود: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}[الحج:18] إنّ الله ـ تعالى ـ أخبر بكرمه، وحثنا على التعرض إلى نفحاتِ هذا الكرم من خلال دعائه، كما قال ـ تعالى ـ: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}[الأعراف:180] فحقٌّ على كل مؤمن علمَ صفة الله ـ تعالى ـ وتوجه إليه بسؤاله وطلبه، فإنّ السؤال والطلب يُستنزلُ به الفضلُ والعطاء، فسل الله باسمه الكريم ما تشاء من خيري الدنيا والآخرة، قل: يا الله يا كريم يا الله يا أكرم، أسألك كذا وكذا... وأبشر فإنّ الله حييٌ كريم كما أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويَفرجُ عنك ضيق المضايق، وشر المخاوف، ويعطيك ما تؤمّل من الخير، فهو يؤمّنُك ويُعطيك ما ترجو من خيرٍ وفضل، وإذا عبدته مستحضراً كرمه انشرح صدرك، لأنك تتعامل مع الّذي يعطي عطاءً واسعاً، إذا كان بعضُ الكرماء يعطي عطاءً يُدهش! فكيف بعطاء المَلك الّذي له ما في السموات وما في الأرض؟! الّذي لو اجتمع الخلْق كلهم على صعيدٍ واحد فسأل كل واحدٍ مسألته... لن يَنقص ذلك من مُلكه شيئاً! ـ سبحانه وبحمده ـ أليس جديراً بأنّ نتوجه إليه ونحسن الصلة به، لننال من كرمه، ونفوزَ بعطائه، وإنّ أعظمَ كرامةٍ تُدركُ بها كرم الله أن تستقيم على شرعه، أن تكون له محباً معظِّما، أن تُقبلَ عليه بقلبك وقالبك، أن يكون الله ورضاه هو الهمّ الأكبر في قلبك، إذا كنت كذلك فأبشر فستنالُ من الله عطاءً جزيلاً، سيتولاك، ومن يتولاه الله لا خوف عليه، اللهم اجعلنا من حزبك وأوليائك، ومنّ علينا بفضلك، واشرح صدورنا إلى ما تحب وترضى، وخذ بنواصينا بالبرّ والتقوى، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وإلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمة من برنامجكم {فادعوه بها} نستودعكم الله الّذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.