الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، أحمده حق حمده، لا أحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إليه بإذنه وسراجًا منيرًا، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، تركنا صلى الله عليه وسلم على محجة بيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فحقه أن نؤمن به، وأن نحبه، وأن نصلي عليه، اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
أما بعد...
فحياكم الله أهلًا وسهلًا بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة، أسأل الله تعالى أن يرزقني وإياكم العلم بالتنزيل، والعمل بالتأويل، وأن يرزقنا وإياكم فقه كتابه، وفهم معاني كلامه جل في علاه.
الله -سبحانه وبحمده- افتتح القرآن العظيم بسورة الحمد، سورة الفاتحة الكافية الشافية: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[2]الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[3]مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ[4]إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[5]اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ[6]صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾[سورة:الفاتحة].
هذه السورة المباركة، هذه السبع المثاني، هذه الآيات العظيمات أُمَّ الكتاب، أم القرآن تضمنت قسمة الناس إلى فريقين:
صراط الذين أنعمت عليهم، والقسم الثاني المغضوب عليهم والضالون، هذه هي القسمة التي قسم الله تعالى بها الناس.
جاء تفصيل هذا في مواضع عديدة في كتابه:
أول موضع بين الله تعالى فيه أقسام الناس سورة البقرة، أول موضع ذكر الله تعالى فيه الأقسام التي ينقسم إليها الناس في الشريعة والدين فيما جاءت به الأنبياء، وما جاء به الرسل سورة البقرة، يقول الله -جل في علاه-: ﴿الم[1]ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾[البقرة:1-2]هذا هو القسم الأول (المتقون)، ثم ذكر الله تعالى أوصافهم في أربع آيات: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ[3]وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾[البقرة:3-4]ثم زكى عملهم وبين فضيلة ما هم عليه فقال: ﴿أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[البقرة:5].
القسم الثاني من أقسام الناس الذين كفروا بما جاءت به الرسل فلم يؤمنوا بما جاء به النبيون، ولم يؤمنوا بما جاء به النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- خاتم النبيين، وسيد ولد آدم أجمعين، فهؤلاء الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ[6]خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾[البقرة:6-7]هذا هو القسم الثاني من أقسام الناس.
أما القسم الثالث فهم الذين لم يحددوا موقفهم على وجه يقيني، لم يكونوا على بصيرة وهداية، يعرف أين يقفون بل كانوا متنقلين حائرين بين الفريقين، بين هذا وذاك وهم المنافقون، الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ[8]يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ[9]فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ[10]وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ[11]أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ[12]وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ[13]وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ[14]اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾[البقرة:8-15].
هكذا يبين الله تعالى هؤلاء ثم يحكم عليهم فيقول: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾[البقرة:16]، هذه هي القسمة التي ذكر الله تعالى أقسام الناس، وفرقهم، وطوائفهم، وهم ثلاثة أقسام:
- مؤمنون، ذكرهم الله في أربع آيات.
- كافرون، ذكرهم الله في آيتين.
- منافقون، ذكرهم الله تعالى في ثلاثة عشرة آية من كتابه الحكيم.
هكذا يبين الله تعالى أقسام الناس، إلا أنه من الملاحظ أن الله تعالى في المتقين القسم الأول سماهم فقال: هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب، وفي الكفار قال: إن الذين كفروا سواء عليهم، فسماهم الله بأسمائهم. لكن هذا القسم من الناس لم يسمهم الله تعالى باسمهم إنما وصفهم، لماذا؟
لأن حالهم مشتبهة بين إيمان وكفر فيلتبس على الناس هل هم أهل إيمان فيكونون ممن سعدوا في الدنيا والآخرة، أم هم أهل كفر فيكونون من الأشقياء؟!
كما أن هؤلاء أحوالهم ملتبسة ليسوا على قدم ثابتة فيما هم فيه، فلذلك وصفهم -جل وعلا- بأوصافهم حتى لا يلتبس على الناس من هم، سواء أن تسموا بأهل الإيمان، أو تسموا وأعلنوا الكفر، لا فرق بين هذا وذاك إذا انطبقت هذه الأوصاف فهم الذين ذم الله تعالى وعاب. النفاق من أعظم ما يفسد الأديان، ومن أعظم ما يفسد الدين والدنيا، ولذلك قال ابن القيم -رحمه الله-: كاد القرآن كله أن يكون في بيان أوصافهم[قال ابن القيم في مدارج السالكين(1/364):كَادَ الْقُرْآنُ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ فِي شَأْنِهِمْ.]، وذكر أحوالهم، وما هم عليه من سوء حال وسوء المنقلب.
هذا الوصف القرآني العظيم لهؤلاء الثلاثة بين بيانًا واضحًا لكن في المنافقين لكون أهل النفاق يحتاجون إلى مزيد إيضاح، حالهم ملتبسة جاء بيان ذلك بالأمثال، فذكر الله تعالى لهم مثلين، وضرب -جل وعلا- في كلامهم مثلين ليبيِّن حالهم، والنفاق شأنه خطير، الله تعالى خصه بصورة فقال -جل وعلا-: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾[المنافقون:1]، ثم ذكر الله تعالى من أعمالهم وأوصافهم ما جل حالهم، وقد قال الله تعالى: ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾[المنافقون:4].
ولذلك كانت خطورة النفاق أعلى ما يكون من الأخطار التي تتهدد الأمة جماعات وأفراد، الصحابة رضي الله عنهم خافوا النفاق على أنفسهم، وقد بلغوا في الإيمان والتقوى أعلى المراتب حتى إنهم كانوا يعدون أمورًا يراها الناس عادية، يعدونها من خصال النفاق. لقي أبو بكر الصديق رضي الله عنه حنظله الأسدي فقال له: «كَيْفَ أَنْتَ يَا حنْظلَةُ؟ قُلْتُ: نَافَقَ حنْظَلَةُ، قَالَ: سُبْحانَ اللَّه مَا تقُولُ؟ قُلْتُ: نَكُونُ عِنْد رَسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يُذكِّرُنَا بالْجنَّةِ والنَّارِ كأَنَّا رأْيَ عَيْنٍ»يعني لو كنا نشاهد«فَإِذَا خَرجنَا مِنْ عِنْدِ رسولِ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم عافَسنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلادَ وَالضَّيْعاتِ نَسينَا كَثِيراً، قَالَ أَبُو بكْر رضي اللَّه عنه: فَواللَّهِ إِنَّا لنَلْقَى مِثْلَ هَذَا فانْطلقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْر حَتَّى دخَلْنَا عَلى رَسُولِ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم. فقُلْتُ نافَقَ حنْظَلةُ يَا رَسُول اللَّه، فقالَ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: "ومَا ذَاكَ؟" قُلْتُ: يَا رسولَ اللَّه نُكونُ عِنْدكَ تُذَكِّرُنَا بالنَّارِ والْجنَةِ كَأَنَّا رأْيَ العَيْنِ» تصديقًا وإيمانًا وانقيادًا وطاعة«فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسنَا الأَزوَاج والأوْلاَدَ والضَّيْعاتِ نَسِينَا كَثِيراً. فَقَالَ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيدِهِ أن لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْر لصَافَحتْكُمُ الملائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُم وَفي طُرُقِكُم، وَلَكِنْ يَا حنْظَلَةُ سَاعَةً وسَاعَةً»[صحيح مسلم (2750)].
أي أن هذه هي الحال في تغير الأحوال من حال إلى حال، وضعف ونشاط، وإقبال وإدبار، ما دام أن الإنسان سائر في الطريق المستقيم، لم يخرج عن الصراط المستقيم، فلكل عمل ارتفاع وقوة وهو الشر، ولكل عمل فترة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً، فإَمَّا إِلَى سُنَّةٍ، وَإِمَّا إِلَى بِدْعَةٍ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدِ اهْتَدَى وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ»[مسند أحمد (6764)، وقال محققو المسند: إسناده صحيح على شرط الشيخين].
إنه من المهم أن نعرف أن النفاق الذي خاطبه الصحابة ليس هو النفاق الأعظم إنما هو النفاق الذي قبل ذلك وهو نفاق الأعمال، نفاق الخصال بالكذب، وإخلاف الوعد، والفجور في الخصومة ، وإخلاف العهد، وما إلى ذلك، كل هذه خصال ينبغي الحذر منها لأنها توقع فيما هو أعظم من ذلك.
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم إيمانًا صادقًا، ويقينًا راسخًا، وأن يجعلنا وإياكم من عباده المتقين، وحزبه المفلحين، وأوليائه الصالحين، إلى أن نلقاكم في الحلقة القادمة، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.