الحمد لله ربّ العالمين، أحمده حقّ حمده لا أحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهدُ أن محمداً عبدُ الله ورسولُه، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، أمّا بعد:
فحيّاكم الله...
أيّها الأخوة والأخوات، وأهلاً وسهلاً بكم في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم{فادعوه بها}، {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}[الأعراف: 180] اللهم ارزقنا دعاءك بما تحب وترضى به عنّا يا ربّ العالمين، نتناول في هذه الحلقة إن شاء الله ـ تعالى ـ اسماً من أسماء الله ـ عزّ وجل ـ ذكره الله في محكم كتابه، في مواضع عديدة، إنّه [القهار] ذاك الاسم العظيم من أسماء الله ـ عزّ وجل ـ الّذي ذكره في جملة من المواضع، وفي عدة من المحال في كتابه الكريم، يقول الله ـ تعالى ـ: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}[الأنعام: 18] القاهرُ والقهار معناهما واحد، فهما اسمان يدلان على أنه متصفٌ بأنه ذو قهر ـ جلّ في علاه ـ وهذا لا ظلم فيه، فالقهرُ الّذي يتصف به ربّنا ـ جلّ في علاه ـ صفة كمال لا نقص فيها بوجهٍ من الوجوه، بل هو القاهرُ فوق عباده ـ سبحانه وبحمده ـ لا يخرجُ عن أمره وشرعه أحدٌ من الخلْق دون مجازاةٍ ومحاسبة، وهذا الاسم العظيم من أسمائه الكريمة جاء على هذين النوعين من الصيغة، جاء بصيغة الفاعل، وصيغة فعّال، للدلالة على عظيم الوصف المتصف به ربنا من هذا الوصف، فقال ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}[الأنعام: 18]وقال ـ جلّ وعلا ـ في وصف نفسه: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}[يوسف: 39] لم يأتِ في السنة ذكرُ هذين الاسمين لله ـ عزّ وجل ـ إلا في الحديث الّذي فيه ذكرُ الأسماءِ وهو مدرج في حديث: (إنّ لله تسعةً وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة)سنن الترمذي (3507) القهر: يدل على الغلبة والعلو، فمعنى هذا الاسم يدور على تحقيق هذين المعنيين، معنى القهار: القاهر، إثباتُ علو الله ـ تعالى ـ وغلبته على خلقه، فهو ـ جلّ في علاه ـ الّذي له الملك، الّذي لا يغلبه شيء، ولا يُضادّ أمره شيء، فهو ـ سبحانه وبحمده ـ مدبِّر الخلْق قد قهر خلْقه فصرّفهم كيفما شاء: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}[مريم: 93] أيُّ قهرٍ أعظم من هذا القهر الّذي اتصف به ربّنا ـ جلّ في علاه ـ فليس أحدٌ من الخلق في السموات وفي الأرض إلا سيأتي ذليلاً خاضعاً لله ـ عزّ وجل ـ ذاك بتصريف المَلك، ذاك بتصريف الله ـ تعالى ـ الّذي لا يقهرُ بحال، الّذي له ملك السموات وملك الأرضِ سبحانه وبحمده: {وهو القاهرُ فوق عباده} سبحانه وبحمده، فلا يخرج عن قهره شيء من عباده مهما علا، ومهما سما، ومهما ظهر، ومهما قوي، ومهما علا مُلكه، وكَثُر سلطانه، وكَثر أتباعه فإنه مقهورٌ مربوط، يجري عليه ما يدبّره الله ـ تعالى ـ ويصرّفه ويقضيه، فهو ـ سبحانه وبحمده ـ المدبّرُ لكل شيء، وهذا من معاني القهر:
ما شئتَ كان وإن لم أشاء *** وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن
فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
خلقتَ العبادَ على ما علمتَ *** ففي العلم يجري الفتى والمُسِن
كلُ العبادِ يجرون على ما قدّره الله وقضاه.
على ذا منَنْتَ وذا خذلتَ***وهذا أَعنتَ وذا لم تُعِنْ
ذلك كله بتقديره.
فمنهم شقيُّ ومنهم سعيدٌ***ومنهم قبيحٌ ومنهم حَسَن
سبحانه وبحمده لا يخرجُ العبادُ عن تدبيره وتصريفه، وهذا من معاني قهره ـ جلّ وعلا ـ إنّ من معاني قهره التي ينبغي أن يتذكرها المؤمن، وأن يستحضرها، وقد ذكرها الله في كتابه في مواضع عديدة، أنه الله الّذي لا إله غيره، فالتوحيدُ ثمرة الإيمان بأنّ الله قاهر وأنّه قهار ـ جلّ في علاه ـ إذْ لو كان هناك إلهٌ غيره ـ سبحانه وبحمده ـ لنازعة، لكنّه المَلك الّذي يظهرُ مُلكه تماماً، ظهوراً جلياً في ذلك اليوم عندما يقول المَلكُ القهار: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}[غافر: 16] ولهذا هناك اقتران بين التوحيد وبين القهر؛ ألم تسمع إلى يوسف لمّا قال للرجلين المسجونين: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}[يوسف: 39] لو كان هناك إله دون الله في الكون لما كان واحداً، ولذلك قهر كلَ أحدٍ، فهو في ملكه، تحت سلطانه لا يخرجُ في دقيقٍ ولا في جليلٍ عن أمره، بل الجميعُ كلهم في ظلِ قدره ما شاء كان، وما لم يشاء لم يكن: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}[الإنسان: 30] سبحانه وبحمده فكلُّ الخلْقِ دائرٌ في تدبيره، ومندرجٌ في تصريفه ـ سبحانه وبحمده ـ لذلك قرن الله ـ تعالى ـ بين توحيده وبين قهره للدلالة على عظيم ما يتصف به الرب ـ جلّ وعلا ـ يشير إلى هذا المعنى ابن القيم ـ رحمه الله ـ فيقول:
والقهرُ والتوحيدُ يشهدُ منهما*** كلٌّ لصاحبه هما عدلانِ
ولذلك اقترنا جميعاً في صفات*** الله فانظر ذاك في القرآنِ
فالواحدُ القهار حقاً ليس في*** الإمكانِ أن تحظى به ذاتانِ
ما يمكن أن يتصف أحدٌ بهذين الوصفين جميعاً إلا الله ـ جلّ في علاه ـ فهو الواحدُ القهار، والله ـ تعالى ـ ينبّه عبادة إلى بطلان كل عبادة لغيره ـ جلّ وعلا ـ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}[الرعد: 16] ثمّ ينبّهنا إلى هذا المعنى ويقول: {وَهُوَ الْوَاحِدُ} الّذي لا يجوز الانصراف إلى غيره، ولا عبادة سواه من مَلَك، من نبي مرسل، من صالح، من شفيع، من وسيلة، ما يمكن أن تصرف العبادة إلى غيره، لا يرضى ربنا المَلك الواحد القهار أن تصرف العبادة إلى سواه: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} جلّ في علاه، سبحانه وبحمده: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}[الزمر: 4] سبحانه هو الله الواحدُ القهار، يخبر بذلك في مواطن عديدة، في وحدانيته، وإلهيته، وتنزهه عن الولد، بل لمّا أخبر عن رسله، ذكر هذين الوصفين حتى يمتثل العباد ما جاءت به الرسل: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}[ص: 65] فلا إله غيره ـ سبحانه وبحمده ـ بهذا يعرف العبد عظيم قدرة الله، فهذا الاسم العظيم يُدهش القلب، فيذلُّ له، ويعلم أنه لا مخرج له ولا مهرب له من ربٍّ يحصي الدقيق والجليل، وهو الّذي لا ينفك عبادة عنه، لا يعجزه العباد، بل عباده مقهورون مربوبون أذلاء، يأتي بهم ـ جلّ في علاه ـ متى شاء، وكيف شاء ـ سبحانه وبحمده ـ ولهذا في مقام البعث يقول: {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ* يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}[إبراهيم:47: 48] يوم القيامة تبدل الأرض، هذه التي نحن عليها غير الأرض، تذهب الجبال، وتصبح لا عوج فيها ولا أمتا، تتغيّر معالمُها وتزول في أوصافها إلى شيءٍ لا يعرفه الناس: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} حتى السماء تنشقْ وتكون وردة كالدهان، وتصير أبواب، وتتحول عن هذا الّذي نعرفه من شأنها، يقول ـ جلّ وعلا ـ: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} في ذلك اليوم يظهرُ قهره، ويظهرُ مُلكه، وتظهرُ إلهيته، فيذلُّ العباد له، لكن ما ينفع في ذلك اليوم أن يؤمن الإنسان عندما يعاين ما أخبرت به الرسل، لأن الشيء الغائب الّذي هو ركيزةُ الإيمان أصبح شهادة، والله ـ تعالى ـ إنما يُثيب المؤمنين على ما آمنوا به في الغيب، ولهذا أبرز صفاتهم وأول وصف ذكر الله به المؤمنين في كتابه، أنهم يؤمنون بالغيب، كما قال تعالى في سورة البقرة: {ألم* ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة:1: 2] من هم؟! {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}[البقرة:3] فأولُ صفاتهم القلبية أنّهم يؤمنون بالغيب، وأمّا العملية أنّهم يقيمون الصلاة، هكذا يبيّنُ الله تعالى أثر الإيمان بأنه القهار، فتنقاد النفوس إلى الإيمان به، والإذعان له: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}[غافر:16] ينبغي للمؤمن أن يستحضر هذا الوصف، ليمتلئ قلبه تعظيماً لله وانقياداً لأمره، والتزاماً بشرعه، ويقيناً بأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ـ سبحانه وبحمده ـ وعندما يتيقن المؤمن أن الله قاهر، يثق بوعده؛ لأنه لا يخلفُ الميعاد، فخُلفُ الوعدِ نتيجة عن ضعف، أو عدم غلبة، والله قاهر لا يخلفُ الميعاد، وهو غالب لا يفوته شيءٌ ممّا شاء وأراد ـ سبحانه وبحمده ـ لذلك يستسلمُ المؤمن لله ـ عز وجلّ ـ ويذل له، ويؤمن بصدق وعده، ويُحسن الظن به وأنه سيجازيه على عمله، وأنه سينصرُ رسله، وأنه سيدينُ أولياءه على من ظلمهم، ثمّ هذا القهر يُثبتُ لله علواً في ذاته، علواً في قدرته وقوته، علواً في شرفه ومكانته ـ سبحانه وبحمده ـ فله علو الشرف، وله علو القدر، وله علو الذات ـ سبحانه وبحمده ـ{هو القاهرُ فوق عباده}
الأحدُ الفردُ القديرُ الأزلِيّ* الصَّمدُ البرُّ المهيمنُ العليّ
عُلوّ قهرٍ وعُلو الشّأنِ * جلّ عن الأضدادِ والأعوانِ
وله العلوُّ بكل معانيه: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}[المجادلة:21] هذه بعضُ لمحات حول هذا الاسم العظيم من أسماء الله [القاهر القهار] فنسأله ـ جلّ وعلا ـ أن يقهر أعداءه، وأن يظهر أولياءه، وأن يعزّ دينه، وأن يُقرَّ أعيننا بنصرِ كتابه وسنةِ رسوله، وإلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمة، أستودعكم الله الّذي لا تضيع ودائعه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.