الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾، إياهُ نعبدُ وإياهُ نستعينُ، أَحمدهُ حقَّ حمدهِ لهُ الحمْدُ في الأُولَى والآخرةِ، وَلَهُ الحكمُ وإليهِ تُرْجعُونَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لَهُ وأشهدُ أنَّ محمَّداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ، اللهُمَّ صَلِّ عَلَى محمدٍ وعلَى آلِ محمَّدٍ كَما صلَّيْتَ عَلَى إِبْراهِيمَ وعَلَى آلِ إبراهيمَ إنكَ حميدٌ مجيدٌ.
أمَّا بعدُ:
فالسلامُ عليكُمْ ورحمةُ اللهِ وبركاتهُ، وأَهْلاً وسهْلاً، وحياكُمَّ اللهُ أيُّها الإخْوةُ والأَخواتُ في هَذِه الحلقةُ الجديدةُ مِنْ برنامجكُمْ فإني قَريبٌ، في هذهِ الحلقةِ نَتناولُ عَنْ أَدبٍ مهمٍ مِنْ آدابِ الدُّعاءِ إِنَّهُ رأْسُ كُلِّ أَدَبٍ في كُلِّ عِبادةٍ إنهُ الإِخلاصُ في الدُّعاءِ.
الإخلاصُ للهِ عزَّ وجَلَّ رُوحُ كُلِّ عِبادةٍ، وهُوَ أَساسُ كُلِّ عَمَلٍ، وَهُوَ صَلاحُ الدُّنْيا وفوزُ الآخرةِ، بِهِ تَشْرفُ المنازلُ، وبهِ تعْلُوا المقاماتُ، وَبِهِ تَرْتَفِعُ المراتِبُ، بِهِ تَعْظُمُ الأُجُورُ، بِهِ يُدْرِكُ العَبْدُ فَلاحَ الدُّنْيا وفوزَ الآخِرَةِ.
الإخلاصُ أمر الله تعالى للأولين والآخرين، إن الله تعالى أمر الخلق بإخلاص العمل له فقال جل في علاه: ﴿ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴾[الأعراف:29]، وقال جل وعلا: ﴿ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي ﴾[الزمر:14]، وقال سبحانه وبحمده: ﴿ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾[غافر:14]، وقال جل في علاه: ﴿ هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾[غافر:65]، وقال جل في علاه: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾[البينة:5].
إنَّ حقَّ اللهِ تَعالَى عَلَى عِبادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدهُ لا شَريكَ لهُ، وَبهذا بعثَ اللهُ تعالَى المرسلِينَ، وبهِ أَنزلَ كُتُبهُ عَلَى رُسْلِهِ أَجْمعينَ قالَ اللهُ تَعالَى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾[النحل:36].
إن الإخلاصَ للهِ تَعالَى في العِبادَةِ وَالعَملِ هُوَ مِفتاحُ الجنةِ، إِذْ ِإنَّ الإخلاصَ هُوَ معنىَ لا إلهَ إِلَّا اللهُ، فَلا إِلَهَ إِلَّا اللهُ أَيْ: لا مَعْبُودَ حَقّا إِلَّا اللهُ جَلَّ في عُلاهُ، فَلا يصلُ أَنْ يتوجَّهَ العبدُ إلَى غيرِ اللهِ تَعالَى بقلبهِ، ولا بِقالبِهِ، بَلِ القلْبُ وَالقالِبُ للهِ عزَّ وجلَّ فَلا يحبُّ إِلَّا هُوَ، وَلا يُعظِّمُ إِلّا هُوَ، ولا يخشَى إِلَّا هُوَ، وَلا يُرجَى إلَّا هوَ سُبحانهُ وبحمدِهِ، وَلا يتوكَّلُ إِلَّا علَيْهِ، لا مانِعَ لما أَعْطَى، وَلا مُعْطِيَ لما منعَ، ولا يُصَلَّى إِلَّا لهُ، وَلا يُصامُ إِلَّا لهُ، وَلا يُحَجُّ إِلَّا لهُ، وَهَكذا كُلُّ عِبادةٍ أَمَرَ اللهُ تعالَى بِها فإنهُ لا يتوجَّهُ بِها العبدُ إِلَى غيرِ اللهِ تَعالَى، فَإِذا حقَّقَ ذَلِكَ كانَ مِنَ المخلِصينَ المخلَصِينَ، وَإِذا صرفَ العِبادةَ لِغيرهِ كانَ مِنَ المشركِينَ المفَوِّتينَ لِلقبولِ فإنَّ اللهَ لا يقبلُ مِنَ العمَلِ إلَّا ما كانَ خالِصاً وابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللهِ.
أَيُّها الإِخْوةُ والأخواتُ! إِنَّ الإِخْلاصَ في الدُّعاءِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبابِ قَبولِهِ، وَمِنْ أعظمِ مُوجباتِ إِجابتِهِ، وَمِنْ أَعْظمِ الآدابِ الَّتي يَنْبَغِي لِلمُؤْمِنِ أَنْ يَتَحَلَّى بِها، لا فَرْقَ في ذَلِكَ بَيْنَ دُعاءِ العِبادَةِ وَدُعاءِ المسْأَلَةِ، فَيَنْبَغِي لِكَُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَكُونَ عملُهُ للهِ خالِصا فَلا يُشْرِكُ مَعَ اللهِ تَعالَى شَيْئاً فَإِنَّ اللهَ أَغْنَى الشُّرَكاءِ عَنِ الشِّرْكِ، في الصَّحيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ علَيْهِ وَسَلَّمَ: « يَقولُ اللهُ تَعالَى: أَنا أَغْنَى الشُّركاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْركَ فِيهِ مَعِي غيري تركتهُ وَشركَهُ »، فترْكُ الإِخْلاصِ مُوجِبٌ لردِّ العمَلِ وعَدَمِ قَبُولِهِ، فَمَنْ كانَ يرجُوا قبولَ عَمَلٍ وَيؤمِّلُ إِجابَةَ دَعَواتِهِ فليحقِّقِ الإِخْلاصَ للهِ تَعالَى.
قالَ اللهُ تَعالَى: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾[الكهف:110].
أيها الإخوةُ والأَخواتُ إِنَّ غِيابَ الإِخْلاصِ في الدُّعاءِ مِنْ أَسْبابِ عَدَمِ قَبْولِهِ وعدَمَ ِإِجابَتِهِ، أَخْرَجَ البُخارِيُّ في الأَدَبِ المفْرَدِ بِإِسْنادٍ صَحيحٍ عنْ عَبْدِ الرحمنِ بْنِ يزيدٍ أنهُ قالَ: كانَ الربيعُ يأْتي علقمةَ يأتي يَوْمَ الجمُعَةِ، وكِلا هذيْنِ الرَّجُلَيْنِ مِنْ كِبارِ التابِعِينَ مِنْ تَلاميذِ عبدِ اللهِ بْنِ مَسعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فَقالَ الربيعُ لِعلْقَمَةَ: ألم ترَ أَكثرَ ما يدْعُوا الناسَ وَما أَقَلَّ إِجابتَهُمْ، إِنَّها مَسْأَلَةٌ كُبْرَى، حَقَّاً ما أكْثرَ ما يدْعُوا الناسَ، وَحَقَّاً ما أَقَلَّ ما يُشاهِدُ مِنْ إِجابَتِهِمْ، الربيعُ يَعرضُ هَذهِ الحالَ ثُمَّ إنهُ يذكرُ سَببَ ذلِكَ فيقولُ: ذلِكَ أَنَّ اللهَ لا يقبلُ إِلَّا الناخلةَ مِنَ الدُّعاءِ، أَيْ: إنَّ اللهَ تَعالَى لا يقبلُ إِلَّا ما كانَ خالِصاً مِنَ الدُّعاءِ وَهُوَ ما قصدَ بِهِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وحدهُ لا شَريكَ لهُ، قالَ عبدُ الرحمنِ بْنِ يَزيدٍ لعلقمةَ عندَما عرضَ علَيْهِ هذِهِ المسألَةَ: وكَلامُ الربيعِ قُلتُ: أَوَ ليْسَ قالَ ذلكَ عبْدُ اللهِ؟ أَيْ: ألمْ يَقُلْ عَبْدُ اللهِ هَذا الجوابُ الَّذِي أَجابَ بِهِ الربيعُ وَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعالَى لم يقبلْ دُعاءَ هُؤلاءِ مَعَ كثرتِهِ لكونهمْ لم يَكُونُوا مخلِصينَ فيهِ، قالَ علقمةُ لِعبدِ الرحمنِ: وَما قالَ؟ قالَ عبدُ الرحمنِ: قالَ عبدُ اللهِ بْنُ مَسعودٍ: لا يَسمَعُ اللهُ مِنْ مُسْمِّعٍ، وَلا مِنْ مُراءٍ، وَلا لاعبٍ إِلَّا داعٍ دَعا يثبت مِنْ قلْبِهِ، أَيْ: إِلَّا داعٍ دَعا بِقلْبٍ مخلصٍ حاضرٍ، قالَ: فذكرَ علقمةُ ذَلِكَ وَقالَ: نعِمْ.
إِنَّ قَوْلَ بْنِ مَسْعُودٍ: لا يسمَعُ اللهُ مِنْ مُسَمِّعٍ، وَلا مُراءٍ، وَلا لاعبٍ، يُبَيِّنُ أَنْ هَؤلاءِ الثَّلاثَةِ مَحْجوبُونَ عَنْ سَماعِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لِدعواتِهِمْ، وَما يكُونُ مَنْ مَسائِلِهِمْ ومَطالبِهِمْ، فاللهُ لا يَسْمَعُ مِنْ مُسَمِّعٍ، وَلا يسمعُ مِنْ مُراءٍ، وَلا يَسْمَعُ مِنْ لاعبٍ، والمسمِّعُ هُوَ الَّذِي يَذكرُ أَعْمالَهُ الصَّالحةَ عندَ الخلقِ يَطلُبُ بِذَلِكَ مَدْحَهُمْ، أَو يتوَقَّى ذمَّهُمْ، أَوْ يفخَرُ عليِهِمْ.
أَمَّا المرائِي فهُوَ الَّذِي يُظْهِرُ عمَلَهُ لِلناسِ لِيمدَحُوهُ أَوْ لِيدفَعْ بِهِ مَذَمَّتَهُمْ، وَأَمَّا اللاعِبُ فَهُوَ ذاكَ الدَّاعِي الَّذي دَعا وقلبهُ غافِلٌ، فاللهُ لا يَقْبَلُ دُعاءً مِنْ قلْبٍ غافلٍ لاهٍ، إنما يقبلُ اللهُ تَعالَى منَ المتقينِ، والمتَّقُونَ هُمُ الَّذِينَ حَقَّقُوا ما ذكرَ ابْنُ مسعُودٍ، إِلَّا داعٍ دَعا يثبتُ مِنْ قلبهِ، أَيْ: أَنَّهُ مخلصٌ للهِ عزَّ وجَلَّ في دُعائِهِ، إِنَّ الإخلاصَ في الدُّعاءِ تُفْتَحُ لَهُ تفتحُ لهُ أبوابُ السماءِ.
جاء في الصحيحِ مِنْ حَديثِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ أَنَّهُ قالَ: قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ علَيْهِ وَسَلَّم: « ما مِنكُمْ مِنْ أَحَدٍ يتوضَّأُ فيُسبغُ الوُضُوءَ ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهدُ أَنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ وأَنَّ محمَّداً عبدهُ ورسولُهُ، إِلَّا فُتحَتْ لَهُ أَبْوابُ الجنَّةِ الثَّمانيةُ يدْخُلُ مِنْ أيُّها شاءَ »، وفتْحُ أَبْوابِ الجنةِ مُوجِبٌ للقبولِ مُثبتٌ للإخلاصِ، فينبغِي لِكُلٍّ مؤمنٍ أنْ يحرِصَ علَى تحقِيقِ الإِخْلاصِ في كُلِّ أَحْوالِهِ، في كُلِّ سكناتِهِ، في كُلِّ ما يكُونُ مِنْهُ، فإنَّ الإخْلاصَ للهِ هُوَ رأْسُ العِبادَةِ، هُوَ أَصْلُ الدِّيانَةِ، هُوَ أَساسُ الملةِ، مَنْ حَقَّقَ الإِخْلاصَ للهِ في العَمَلِ فازَ بِرضاهُ، وَمَنْ غابَ عنه فقدْ خابَ وخسِرَ.
أيها الإخوةُ والأخواتُ إنَّ إِخْلاصَ الدُّعاءِ للهِ عزَّ وجلَّ يكُونُ بأَنَّ لا يتوجَّهُ القلبُ إِلَى سُوىَ اللهِ عزَّ وجلَّ فَلا يؤُمِّلُ الخيرَ مِنْ سواهُ، وَلا يرقبُ عَطاءً مِنْ غَيرهِ، فإنَّهُ لا مانِعَ وَلا مُعْطِيَ لما مَنعَ، يَكُونُ الإِخْلاصُ للهِ عزَّ وجلَّ بأَنْ يَسْلمَ الإنسانُ مِن الشركِ في قلبِهِ، وَمِنَ الشِّرْكِ في قَوْلِهِ، فَلا يسأَلُ غَيْرَ اللهِ تَعالَى، فإنَّ اللهَ تَعالَى قَدْ قالَ: ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴾[الجن:18]، وقد قال اللهُ تَعالَى: ﴿ هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾[غافر:65].
إنَّ مِنْ أَعظمِ الظُّلْمِ وَالجُورِ أَنْ يَدْعُو غيرَ اللهِ تَعالَى، كيفَ وَقَدْ قالَ اللهُ تعالَى: ﴿ وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾[يونس:106]، فإنه لا يكشف السوء إلا هو، ولا يجلب الخير إلا هو، لا يدفع السيئات إلا هو، ولا يجلب الحسنات إلا هو، فينبغي أن لا يتوجه القلب واللسان إلا له جل في علاه، ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ ﴾[يونس:107].
اللهُمَّ ارزُقْنا الإِخْلاصَ لكَ في القَوْلِ والعَمَلِ، واجعَلْنا مِنْ عِبادِكَ المتَّقِينَ، وَمِنْ حزبكَ المفْلِحينَ وَأَوْليائِكَ الصَّالحينَ.
إِلَى أَنْ نلْقاكُمْ في حلقَةٍ قادِمَةٍ منْ بَرنامجكُمْ فَإِنَِّي قريبٌ، أَستودعُكُمُ اللهَ الَّذي لا تضيعُ ودائعهُ، والسلامُ عليكُمْ ورحمةُ اللهِ وَبركاتُهُ.






