الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده حق حمده، لا أحصى ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، له الحمد كله أوله وآخره، ظاهره وباطنة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد...
فحياكم الله أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة، هذه الحلقة سنتناول فيها أول الأمثال التي ذكرها الله تعالى في كتابه الحكيم، إنه المثل الذي بين به جل في علاه صفات المنافقين، وقد ضرب الله تعالى مثلين في أول القرآن العظيم لبيان صفات المنافقين، هذا يبين لنا خطورة النفاق، ذاك الذي خافه الصحابة رضي الله عنهم حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه المبشر بالجنة كان يسأل حذيفة: أسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن سمى لك من القوم؟ يعني من المنافقين، وقد أسرَّ النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة بأسماء بعض المنافقين، فكان رضي الله عنه يقول: لا، ولا أذكي بعدك أحدًا[الأموال لابن زنجويه (992)، ونقل محققه تصحيح إسناده عن ابن الجوزي].
هذا الذي خافه الصحابة حتى قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه[ذكره البخاري معلقا بصيغة الجزم (1/18)]، ابن أبي مليكة أدرك عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، وأدرك عائشة، وأسماء، وجماعات من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. يقول: كلهم يخاف النفاق على نفسه، إنهم يخافونه لأن الإيمان ثروة عظيمة، منة كبرى يخاف أهل الإيمان أن ينزع منهم وأن يسلب.
الإيمان ليس استحقاقًا بالولادة، ولا بالجنسية، ولا بالنشأة، ولا بالوالدين، إنما هو منة يمنح الله تعالى الإيمان من يشاء، ﴿بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ﴾[الحجرات:17].
فلذلك ينبغي أن يخاف الإنسان على هذا الإيمان الذي يمكن أن يتلاشى لأي سبب يقع فيه الإنسان ينبغي أن يحرص عليه. إن من أسباب ضعف الإيمان وزواله في النهاية النفاق ذاك الخطير الذي بين الله تعالى أوصافه في محكم التنزيل، يقول الله تعالى في وصف حال المنافقين وقد ذكر لهم مثلين هذا هو المثل الأول، ويسميه العلماء المثل الناري لأن الله ذكر فيه نارًا، يقول الله تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ﴾[البقرة:17]أي مثل المنافقين الذين عد خصالهم في ثلاثة عشرة آية من القرآن الكريم في سورة البقرة: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾[البقرة:17].
أي مثل المنافقين كقوم كانوا في سفر فطلبوا نارًا بإيقادها فأوقدوها﴿اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾[البقرة:17]أضاء ما حوله فحصل على نور إن كان في ظلمة، وحصل على تدفئة إن كان في برد، ﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾[البقرة:17]ولك أن تتخيل هذا الكد الذي بذله هؤلاء لإدراك النور، فلم تم لهم ما أرادوا من حصول النور الذي به أضاء ما حولهم ذهب الله بنورهم، وقد قال الله تعالى: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾[البقرة:17]لأنه ذهب الضياء الذي أرادوه من هذه النار، ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ﴾[البقرة:17].
هكذا يصف الله تعالى هؤلاء، ثم يقول في بيان انسداد الطريق على هؤلاء: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ﴾[البقرة:18]هذا المثل يبين حال أهل النفاق مع الشريعة، الآن لنأخذ من هذا المثل الإشارات التي تتعلق بصفات المنافقين، المنافق لما رأى الدين القويم، النور المبين، الهدي القويم، هذا النور الذي أشرقت به الأرض بعد ظلماتها، ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن الحكيم، والهدي النبوي السليم، رأى نورًا وهذا هو الذي ذكره الله تعالى في قوله: ﴿اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾، وذلك أنه قال: لا إله إلا الله، فالنار التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية هي "لا إله إلا الله" التي قالها المنافق، فعصم بها دمه، وماله، وانتفع من ذلك بما ينتفع منه أهل الإسلام، فكان له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم.
﴿اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾ أي لما انتفع من هذه الكلمة بما انتفع به ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾تأمل وانظر كيف هؤلاء سُلب منهم ما كان سببًا للضياء، ولاحظ أن الله تعالى قال في وصفهم: ﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾ الإضاءة لم تصل إلى قلوبهم إنما كانت لما حولهم، ﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ لم يدخل الإيمان قلوبهم، ولذلك لم تخالط بشاشة الإيمان قلوبهم بل كانت في ظواهرهم، كانوا يأتون بالصلاة، يأتون بالزكاة، بل يأتون بالجهاد والحج وسائر الأعمال لكن لم يدخل ذلك إلى قلوبهم، لم يرسخ في أفئدتهم فكانوا على ظهر حالهم يؤدون ما يؤديه المسلمون، لكن قلوبهم معطلة عن اليقين بـــ"لا إله إلا الله"، هذا معنى قوله: ﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾.
ذهب الله بما أضاء مما حولهم، لم يبق لهم من الإسلام إلا الانتفاع بالظاهر حيث عصمت دماؤهم وأموالهم، لم يذهب شيء من ذلك إلى بواطنهم، فقلوبهم من نور الإسلام خالية، أفئدتهم من نور الإيمان خاوية، أفئدتهم هواء، إنما قد عمر فيها الشيطان بنيانًا، واستحوذ عليها فأنساهم ذكر الله، ولم يستمسكوا من الإسلام إلا بما ينفعهم، بما يعود عليهم بالمصلحة، بما يعود عليهم بالنفع.
ولذلك ذكر الله تعالى انسداد طرق الهداية على هؤلاء فقال في محكم كتابه:﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ﴾، هذه الظلمات عظيمة ظلمة الجهل، وظلمة النفاق، وظلمة الإعراض عن الوحي، وظلمة الإظهار خلاف ما في قلوبهم، وهي نظير ما في تلك الصورة من الظلمات التي أحاطت بهؤلاء الذين استوقدوا نارًا، وتركهم في ظلمات لا يبصرون، لا يرون شيئًا لفقدهم الضياء وفقدهم النور.
ثم لم يقتصر انسداد الطريق عليهم أن أعمى الله بصائرهم، أو أن عمي ما حولهم، بل قال الله تعالى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ﴾[البقرة:18]، صم فلا يسمعون حقًّا، ولكم لا يتكلمون بهدى، وعمي لا يبصرون دلالات الحق، وعلامات الرشد، ثم هم ماضون بسبب انغلاق هذه المنافذ التي تحصل بها الهداية، ماضون فيما هم فيه من ضلالة، ماضون فيما هم فيه من عمى فكان ذلك كما أخبر الله تعالى عنهم هؤلاء لم يكونوا صمًّا لا يتكلمون، ولا عميًا أنه لا أعين لهم، ولا أنه لا قلوب لهم تعقل، إنما قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا﴾[الأعراف:179].
إذًا هم لهم قلوب، ولهم أعين، ولهم أبصار لكنها معطلة فلما كانت معطلة كانت كما لو لم تكن موجودة، وهذا شائع في كلام العرب إطلاق الصمم، والبكم، والعمى على من لا ينتفع بالأدوات التي من الله تعالى بها عليه، الله من علينا بهذه الأسماع، وهذه الأبصار، وهذه الجوارح لكي نحقق العبودية له، إذا عطلها الإنسان فلن يستثمرها في طاعة الله، فإنه يكون كما قال الله تعالى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ أي لا يتراجعون عن هذه الضلالة، لا ينزعون عن هذا العمى، لا يخرجون من تلك الظلمات.
أيها الإخوة والأخوات! هذه حال أهل النفاق، إنها ليست حال قوم في كوكب بعيد، أو قوم لا نعرفهم، أو قوم في التاريخ مضوا ولا وجود لهم، النفاق اليوم أعظم من النفاق بالأمس، ولذلك ينبغي للمؤمن أن يحذر أن يقوم فيه شيء من صفات المنافقين، فإن المنافقين هذه حالهم في انسداد طرق الهداية، وعمى البصيرة، وعدم الوصول إلى نتيجة من خير ينتفعون به في دينهم ودنياهم.
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، أعذنا من النفاق ظاهرًا وباطنًا، املأ قلوبنا يقينًا، وإيمانًا، وحكمة، إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.