الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحبُّ ربنا ويرضى، أحمده لا أحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهدُ أنّ محمداً عبدُ الله ورسولُه، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، أمّا بعد:
فحيّاكم الله...وأهلاً وسهلاً بكم أيها الأخوةُ والأخوات في هذه الحلقةِ الجديدة من برنامجكم{فادعوه بها} ذاك البرنامج الّذي نتناولُ فيه أسماء الله أسماء {الرحمن الرحيم} ، أسماء الرب الّذي نعبده، وله نصلي ونسجد، وإليه نسعى ونحفد، إننا لن نحقق العبودية على وجهٍ كامل، على وجهٍ يرضى به الله ـ عز وجلّ ـ إلا إذا كنّا به عالمين، وبما له من كمالٍ عارفين، فلذلك لنتعرف على الله من خلالِ أسمائه وصفاته، فإذا قرأت القرآن فمر بك اسمٌ من أسماء الله قف عنده، وحاول أن تعرف معناه، فإنّ إدراك معاني أسماء الله ـ عز وجلّ ـ وما أخبر به عن نفسه يفتح لك باب التدبر، باب الفهم، باب العمل الصالح، باب الهدى، باب من أبواب الجنة فإنه علمٌ به تطمئنُّ به النفوس: {ألا بذكر الله تطمئنُّ القلوب} [الرعد:28] في هذه الحلقة ـ إن شاء الله تعالى ـ نتناول اسماً من أسماء الله وهو{الشهيد}.
وهذا الاسم ذكره الله ـ تعالى ـ في كتابه الحكيم، في مواضع عديدة: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ}[آل عمران:98] هكذا قال الله ـ تعالى ـ في شهادته على عملِ الخلق، كما قال ـ جلّ وعلا ـ: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}[النساء:79] وقال ـ تعالى ـ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ}[المائدة:117] في كلام عيسى بن مريم ـ عليه السلام ـ وقد أخبر الله ـ تعالى ـ عن شهادته على أعظم مشهود، وهو أنه لا إله غيره، فقد قال ـ جلّ في علاه ـ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[آل عمران:18] .
وقد جاء ذكرُ هذا الوصف في السنةِ لله ـ عز وجلّ ـ فإنّ النبي ﷺاستشهد الله، ولم يستشهده إلا أنه شهيد، ففي الصحيحين في حديث عبدالله بن مسعود-رضي الله عنه- أنّ النبي ﷺخطبهم فقالَ: (ألا لا يدخلُ الجنة إلا نفسٌ مسلمة، اللهم هل بلّغت، اللهم اشهد)صحيح مسلم (221) هكذا قال النبي ﷺ: (اللهم هل بلّغت، اللهم اشهد) وقد قال ذلك أيضاً عندما استشهد الله ـ تعالى ـ على البلاغِ في عرفة، وفي حجة الوداع عندما قال: (إنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمةِ يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)، ثم قال ﷺ: (ألا هل بلّغت، قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد)صحيح البخاري (1741)، وصحيح مسلم (1679) وذاك دالٌّ على أنّه ـ سبحانه وتعالى ـ شهيد، لأنه إنما استشهده لأنه شهيدٌ على العباد.
الشهادة من حيث المعنى في اللغة: تدل على إعلامٍ، وعلمٍ، وحضور، ولذلك يقال شَهِدَ فلانٌ كذا أي حَضره وعَلمه، وتطلق الشهادةُ أيضاً على الإعلامِ بالشيء، والأخبارِ به.
أمّا [الشهيد] في أسماء الله ـ عز وجلّ ـ فهو دالٌّ على معانٍ عظيمة، منها وأهمها هو شهادته لنفسه ـ جلّ وعلا ـ بالإلهية، كما قال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[آل عمران:18] وهذا يدل على عظيمِ هذه الشهادة، لأنّ الله شهد بنفسه لنفسه، هذه الشهادة فهي أعظم شهادة تضمنت إثبات علمه ـ جلّ وعلا ـ وإخباره خَلقَه، وأيضاً هذه الشهادة مُلزمة لأنها من الحكمِ العدلِ الرب الّذي لا إله غيره، فلا مجال لأحدٍ أن ينكر هذه الشهادة، التي شهد بها الله ـ تعالى ـ العليمُ الخبير ـ سبحانه وبحمده ـ فهي أجلُّ شهادةٍ من أجلِّ شاهدٍ في أجلِّ مشهود، فجمعت الجلال من كل جهةٍ، فكانت أعلى الشهادات، (أشهدُ أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله).
هذه الشهادة التي لله ـ عز وجلّ ـ هذا الاسم الّذي لله ـ عز وجلّ ـ وهو أنه شهيد، كما أنه شهيدٌ على إلهيته، فهو شهيدٌ على صدق رُسله ﷺ، ولذلك يقول الله ـ تعالى ـ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[التوبة:33] يُخبر في كتابه أنه أرسل رسوله محمداً ﷺبالهدى ودين الحق، بالهدى العلم النافع، وبالحق العمل الصالح، وهذا ما جاء به النبي ﷺ، جاء بالعلم النافع وعملٍ صالح بأبي هو وأمي ﷺ: {ليظهره على الدينِ كله} هذه عاقبة هذه الرسالة أنها ظاهرة على الدينِ كله، وعلى كل ملة، وعلى كل دين، وعلى كل عبادة، في الدنيا عبادةٌ الله ظاهره سيظهرها الله ـ تعالى ـ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} ولأجل تطمين أهل الإسلام إنّ هذا الوعد لا بدّ أن يكون قال ـ جلّ وعلا ـ: {وكفى بالله شهيدا} فهو الّذي يسوقُ الأقدار إلى آجالها، فاالله بالغ أمره ـ جلّ في علاه ـ ولا مُعقِّب لحكمه سبحانه وبحمده {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}[يوسف:21] فشهادة الله لرسوله، هي شهادة ظهور بالحجة، والبيان، والبرهان، والدلالة، كما أنها شهادة نصر، وتأييد، وظَفَر، وغَلبة حتى يظهره على كل من خالفه، فالشهادة هنا تتضمن هذين المعنيين، في قوله ـ تعالى ـ: {وكفى بالله شهيدا} أي كفى به شهيداً في حفظ دينه، وفي إظهاره، وفي تمام تبليغه، وفي نصرته على من خالفه وعادَاه، فكونه سبحانه شاهداً لرسوله، هو دالٌّ على صدقِ الرسالة، دالٌّ على أنّ العاقبة لهذه الرسالة، فهذه الرسالة منصورة:
الدينُ ممتحنٌ ومنصورٌ فلا*** تعجب فهذه سنّةَ الرحمنِ
هذه الشهادة العظيمة، تدلّ على أنّ ما جاء به الرسول صدق، إذ إنه لو لم يكن صدقاً، فكيف يُخبرُ عن الله، والله منصور، ويؤيده، ويظهره ويجعله غالباً على من عانده وخاصمه، وتبقى هذه الرسالة محفوظة عبر هذه القرون المتعاقبة، فكل ذلك لشهادته ـ سبحانه وبحمده ـ ولنصره ولتأييده ـ سبحانه وبحمده ـ وصدق الله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}[النساء:87] ،{وكفى بالله شهيدا} هذا من معاني هذا الاسم من أسماء الله ـ تعالى ـ أيضاً من معاني اسم [الشهيد] أنه الّذي لا يغيب عنه شيء، فالشهيد الّذي لا يغيب عنه شيء، فمن شَهِدَ شيئاً فقد حضره، والله شهيدٌ على كل شيء وهذا معناه أنه ليس شيءٌ في الدنيا ولا في الكون يغيبُ عنه ـ سبحانه وبحمده ـ: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ}[سبأ:3] بل هو مُطلعٌ على كل شيء، شاهدٌ لكل شيء، عالمٌ بتفاصيله، فهو حاضرٌ جلّ وعلا بعلمه، وسمعه، وبصره، لا يغيبُ عنه شيءٌ من خلقه ومن أحوالهم.
لذلك قال ـ تعالى ـ: {وما تكونُ في شأنٍ} أي في أي أمر، وهذا قولٌ للنبي ﷺ، ولكل مؤمن: {وما تكونُ في شأنٍ وما تتلوا منه من قرآن} ما تكون في شأن يعني في عمل في حال: {وما تتلوا منه من قرآن}أي هذا يتعلّق بالكلام والمسموعات: {ولا تعملون من عملٍ} سواءٌ كان عملاً بدنياً، ظاهراً أو باطناً، أو حتى في الأقوال على توسيع دلالة العمل لشموله القول: {إلا كنّا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه}[يونس:61] فالله: {على كل شيء شهيد} كل حالٍ، وكل قولٍ يكونُ منك، تيقّن أنّ الله شهيدٌ عليه، وأنّ الله مشاهدٌ له، وأنّ الله عليمٌ به، وأن الله سميعٌ به، وأنّ الله بصيرٌ به، فلا يغيبُ عنه شيءٌ من شؤون خلقه: {وما يعزبُ عن ربك من مثقال ذرةٍ} وزن ذرة لا تعزبُ عن الله ـ عز وجلّ ـ: {في الأرض ولا في السماء ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبر إلا في كتابٍ مبين}[يونس:61] ليس فقط علم، ليس مُوثقاً بل هو علمٌ مَوثق في كتابٍ مبين، وهو عليه يسير ـ سبحانه وبحمده ـ هذا من معاني أنه[الشهيد] سبحانه وبحمده، الّذي لا يغيب عنه شيءٌ من شؤون خلقه، أيضاً هو[الشهيد] الّذي لا شهادة مثلُ شهادته، فهو الشهيد الّذي له الشهادة التامة الكاملة، ولذلك قال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}[الأنعام:19]و {وكفى به شهيدا} فإنّ الله ـ تعالى ـ شهيدٌ بين الخلقِ، فيطلع على ما يكونُ منهم، وهو ـ جلّ وعلا ـ الّذي يفصلُ ما بين العبادِ وما بين الناسِ في ما يَشجرُ بينهم، وما يكونُ بينهم من خلافات.
ولهذا ينبغي للعبد أن يعرف أنّ هذا الاسم يحمله على إتقان العمل، وعلى صدق التوجه إلى الله ـ عز وجلّ ـ وعلى حفظ نفسه في الغيبِ والشهادة، فإنّ الله ـ تعالى ـ مُطلعٌ عليه، شهيدٌ على ما يكونُ منه، كما قال ـ جلّ وعلا ـ: {وما تكونُ في شأنٍ وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عملٍ إلا كنّا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه وما يعزبُ عن ربك من مثقال ذرةٍ في الأرض ولا في السماءِ ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبر إلا في كتابٍ مبين} .
كل الخصومات التي تشتجر بين الناس، فيذهبون بها إلى المحاكم، ويختصمون فيها بين المختصمين، ليَعلم كلا الخصمين أنّ الله عليهم شهيد، وهو مُطلع على حقيقة الأمر، فمهما كنت ذا بيان، وحجة، وفصاحة، تغلب به خصمك لتأخذ حقاً ليس لك، فإنّ الله عليك شهيد، وبكَ بصير، وسيعاقبك على أخذك ما لا تستحق: {إنّ الله يفصل بينهم يوم القيامة} ذاك الحكم الّذي لا يغيبُ عنه شيء، ولا يغيبُ عن الحاكمِ فيه أمرٌ من الأمور، بل مُطلعٌ على كل شيء: {إنّ الله يفصلُ بينهم يوم القيامة إنّ الله على كل شيءٍ شهيد}[الحج:17] فإذا غلبت أحداً فأخذت ما ليس لك في هذه الدنيا فستكونُ محكمة يوم القيامة على نحوٍ آخر، فإنّ الحاكم فيها لا يغيبُ عنه شيء، والناس في ذلك اليوم لا يتفاصلون ولا يتخالصون مما بينهم من حقوق من دراهم ودنانير، إنّما يتخالصون فيما بينهم من حقوق بالحسناتِ والسيئات، وعند ذلك لا يبقى إلا أن يكون المؤمن حريصاً على حسناته بالتقلل من حقوق العباد، والتحلل منها قبل يوم المعاد، فإنّ ذلك مما يُخفف عنه الحمل يوم القيامة.
إنّ المؤمن إذا أدرك أنّ الله شهيد، حَمله ذلك على شهادة الحق، فلا يقولُ زوراً ولا يقولُ باطلاً، ولا يَشهد بخطأ أو بخلاف الحق، ولا يشهد شهادة زور يُثبت بها حقاً أو يسلبُ بها حقاً لأحد على غيرِ وجهٍ صحيح، لأن الله عليه شهيد، هذه الشهادة التي تؤديها بين يدي القضاة وفي المحاكم، لتنتزع بها الحقوق، الله عليك شهيد، ولذلك حذّر النبي ﷺمن شهادة الزور، فاعلم أنّ ذلك يحملك على مراقبة الله وعلى كفِّ نفسك عمّا يُغضبُ الله: إنّ الله يفصل بين الناسِ يوم القيامة، ويعطي كل ذي حقٍ حقه، فلا تجترئ بشهادة زورٍ تأكل أموال الناس، ولا تجترئ بأن تأخذ بشيءٍ ليس لك، فإنّ الله تعالى شهيدٌ على كل شيء، تذكر إن الله قد قال: {إنّ الله يفصل بينهم يوم القيامة إنّ الله على كل شيءٍ شهيد}[الحج:17].
أسأل الله أن يرزقني وإياكم البصيرة في الدين، وأن يرزقنا وإياكم العمل بالتنزيل، وأن يعيننا وإياكم على ما فيه الصالحُ في الحاضرِ والمآل، وإلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمة من برنامجكم {فادعوه بها} أستودعكم الله الّذي لا تضيع ودائعه، والسَّلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاته.