إنّ الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبدُ الله ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ...أمّا بعد:
فأهلاً وسهلاً بكم أيها الأخوةُ والأخوات، وحياكم الله في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم{فادعوه بها} هذا البرنامج الّذي نتناول فيه جملةً من أسماء الله ـ عز وجل ـ نتعرف بها على ربنا، خالقنا، ورازقنا، وإلهنا ومولانا الّذي له نصلي، ونزكي، ونصوم، ونحج، ونتقرّب بسائرِ ألوانِ القربات، وأنواعها الظاهرةِ والباطنة هذه الحلقة ـ إن شاء الله تعالى ـ نتناول فيها اسماً من أسماء الله عزّ وجل، إنه[الرقيب].
وقد ذكر الله ـ تعالى ـ هذا الاسم في كتابه، في ثلاثةِ مواضع، يقول الله ـ تعالى ـ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}[النساء: 1]. ويقول ـ جلّ في علاه ـ فيما قصّه عن عيسى بن مريم، عليه السلام: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[المائدة: 117] هكذا يُخبر الله ـ تعالى ـ عن نفسه بهذا الاسم، الدال على عظيمِ ما لله ـ عزّ وجل ـ من هذا الوصف، فرقيب فعيل بمعنى فاعل، أي مراقب، وقد أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن هذا، في ما جاء في الصحيحِ، من حديث ابن عباس-رضي الله عنهما- لمّا قال: قام فينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خطيباً بموعظة، فقال:(يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاةً عراةً غُرلا، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}[الأنبياء: 104] ألا وإنّ أول الخلائق يُكسى يوم القيامة إبراهيم ـ عليه السلام ـ فهو أول من يكسوه الله ـ تعالى ـ يوم القيامة، بعد أن يأتيه الناس حفاةً غُرلاً يكسوهم الله، وأول من يُكسى إبراهيم ـ عليه السلام ـ ألا وإنه سيجاءُ برجالٍ من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا ربِّ أصحابي، فيقول: إنَّك لا تدري ماذا أحدثُ بعدك؟ وهؤلاء الّذين ارتدوا بعد موتِ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأقولُ كما قال العبدُ الصالح عيسى بن مريم ـ عليه السلام ـ: {وكنتُ عليهم شهيداً ما دمتُ فيهم فلمّا توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيءٍ شهيد* إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}[المائدة: 117] قال: فيُقال لي: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم، منذ فارقتهم)صحيح البخاري (3447).
وهذا بيان لهؤلاء الّذين قال فيهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أُصيحابي أو أصحابي، وأنهم ارتدوا، فالنبي لم يكن يعلم بحالهم بعد موته وما كانوا عليه، وهذا يبيّن أنّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يعلم الغيب، إذ لو كان يعلمُ الغيب لما قال هذا المقال، لكنّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ انقطع علمه بالخلقِ بعد موته، فلم يعلم من يبقى على الإسلام من أصحابه ومن يرتد، فكانت هذه القصة التي أخبر فيها النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عمّا يكونُ في الآخرةِ من حالِ بعضِ من أسلم به ثمّ ارتدّ عن الإيمان به، والشاهد أنّ الله ـ تعالى ـ قال في مُحكمِ كتابه، فيما قصّه عن عيسى بن مريم: {وكنتُ عليهم شهيداً ما دمتُ فيهم فلمّا توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيءٍ شهيد}[المائدة: 117] الرقيب في أسماء الله ـ تعالى ـ يدلُّ على ما يُدل عليه لغةً من الحفظ للشيء، والقيام عليه، والحراسةِ له، والصيانةِ له، هذا ما يدلُّ عليه لغةً، وكذلك يدلُّ عليه في الاستعمالِ في حق الله ـ تعالى ـ فالرقيبُ هو الدائمُ في حفظِ الشيء، والملاحظُ له، والحافظُ له، الّذي لا يغيبُ عنه، ولا يتطرّق إليه شيءٌ من النقصِ بسبب الغفلةِ عنه، فالله ـ تعالى ـ لا يضلُّ ولا ينسى، وهو ـ سبحانه وبحمده ـ دائمٌ في النظر والسمع لخلقه، لا يفوته شيءٌ من شؤونهم، ولا يقعُ عليهم شيءٌ إلا ما قدّره لهم، ولذلكَ أخبر الله ـ تعالى ـ في هذه المواطن، أنه حافظٌ لعباده، قائمٌ عليهم، محصٍ لأعمالهم، ففي قوله ـ تعالى ـ: {وكنتُ عليهم شهيداً ما دمتُ فيهم فلمّا توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم}[المائدة: 117] أي أنت الّذي كنت حافظاً لأعمالهم، ومراقباً لهم، ومحصياً لما يكونُ منه ومثله، لمّا قال ـ تعالى ـ في آية سورة النساء: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} قال الله ـ تعالى ـ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}[النساء: 1] أي: حفيظاً محصياً عليكم أعمالكم، متفقّداً رعايتكم حرمة أرحامكم، وصلتكم إياهم، وقطعكم لهم، كل ذلك في حفظه، وهو مطّلعٌ على جميع ما يصدرُ عن الخلقِ من الأفعالِ والأقوال، بل وعلى ما في الضمائرِ من النيات، وهو يُجازي على ذلك سبحانه وبحمده، وفي الموضع الثالث الّذي ذكر الله تعالى في هذا الاسم، قال لرسوله: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} ثمّ قال: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} بعد ذلك قال: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا}[الأحزاب:52] أي حافظاً مهيمناً، يحصي على العبادِ ما يكونُ منهم، فتضمّن ذلك من التخويفِ والتهديد في مجاوزة الحدودِ والخروج عن شرع الله ـ عزّ وجل ـ ما يزجرُ المؤمنَ عن أن يقع في شيءٍ مما لا يرضي الله ـ عزّ وجل ـ وإذا تذكر المؤمن رقابة الله له، وأنه به محيط، وعليه قدير، وهو عليه رقيب ـ جلّ في علاه ـ كان ذلك حاجزاً بينه وبين المعاصي، ليس فقط عندما يكونُ بين الناس وفي مشهدهم، بل حتى في الخلوات حين يخلو بنفسه يتذكرُ رقابة الله ـ تعالى ـ لذلك كان الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ يعجبه قول الشاعر:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل*** خلوتُ ولكن قل عليّ رقيبُ
ولا تحسبنّ الله يغفلُ ساعةً*** ولا أنّ ما يَخفى عليه يغيبُ
ألم تر أنّ اليوم أسرعُ ذاهبٍ*** وأنّ غداً لناظره قريبُ
أو: وأنّ غداً للناظرين قريبُ
إنّ المؤمن إذا استشعر هذا المعنى، رقابة الله له في كل شأنه، وإحاطة الله به، كان ذلك كافاً له عن سيء العمل، ليس فقط أنه يُكفُّ المؤمن عن سيء العمل، بل إنه يحمله على إحسان العمل، فإذا صلى أتقن صلاته، وحفظَ قلبه من أن يجولَ في الأفكارِ والهواجسِ يمنةً ويسرة، فحمله ذلك على الخشوع، لأن الخشوع روحه وحقيقته هو حضور القلب، فإذا حضرَ القلبُ عند القراءةِ سماعاً أو تلاوةً، وعند الأذكارِ تدبراً وتمعناً، وفي الدعاء استحضاراً لما فيه من كبير المعاني، وجليل ما يسأل الله ـ عزّ وجل ـ كان ذلك مما يُعينه على تحقيق المقصود، وهو بهذا يستحضرُ معنى الرقيب، فالله تعالى رقيبٌ على ما يكونُ من حال العبد، وإنّ العبد المؤمن إذا صدق في مراقبةِ الله ـ عزّ وجل ـ أدخله هذا باباً عظيماً من أبوابِ العبودية، وجعله يراقبُ الله ـ تعالى ـ في الأعمالِ المأمور بها، الطاعات إتقاناً وإحساناً، وفي المناهي والسيئات تجنُّباً وبعداً، وقد ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (سبعةً يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله)-ثم قال في عدّ أولئك- قال: (رجلٌ دعته امرأةٌ ذاتُ منصبٍ وجمال)- منصب يأمن به من الخوف، وجمال يدعوه إلى الإقبال عليها، لكنّه امتنع من ذلك استشعاراً وتذكراً لمراقبة الله- (فقال: إني أخافُ الله) صحيح البخاري(1423). الله أكبر ما أعظم الإيمان في قلب المؤمن، إذا تحقق به المؤمن، وصدق في تحقيقه لله ـ عزّ وجل ـ سيحمله ذلك على الانزجار والكف عن سيء العمل، ذاك أنه يستحضر رقابة الله ـ تعالى ـ يستحضر أنّ الله ـ تعالى ـ يبصره، ويعلم ما يجولُ في خاطره، وما يكونُ من عمله، ولهذا ينبغي للمؤمن أن يستحضرَ رقابة الله ؛ لأنها الباب الّذي من خلاله يدخلُ إلى سعادة الدنيا، وتحقيقِ كل ما هو سببٌ للأمنِ في دنياه، والفوز في أُخراه، أرأيتم ذلك الراعي الّذي قال له ابن عمر-رضي الله عنه- وهو في طريقه رأى راعياً معه غُنيمات، فقال: يا راعي الغنم؟ هل من جزرة؟ يعني غنمة نجزرها ونأكلها وتصلح للذبح، فقال الراعي: ليس هاهنا ربّها، ليس هاهنا مالكها، ليس هاهنا صاحبها حتى أبيعكَ أو أُعطيك، فقال ابن عمر: تقول أكلها الذئب، يختبره-رضي الله عنه- ويرى ما عند الراعي من مراقبة الله ـ تعالى ـ فرفع الراعي رأسه إلى السماءِ، فقال: أين الله؟!
الله أكبر ما أعظم الرقابة، هذا الراعي ما الّذي منعه من التصرف؟!
الّذي منعه ما في قلبه من استحضار شهود الله ورقابته، فما كان من ابن عمر-رضي الله عنه- إلا أن اشترى الراعي والغنم، وأعتق الراعي، ووهبه الغنم، مكافأةً له على هذه الحياة في قلبه، التي حملته على استحضارِ رقابة الله ـ تعالى ـ له.
إنّ المؤمن يكفُّ نفسه عن أحبِّ ما يكونُ إليه إذا كان يُغضبُ الله، استحضاراً لرقابة الله، وخوفاً من عقابه، ألا تذكرون ذلك الرجل الّذي أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن خبره في قصة الثلاثة الّذين آواهمُ الغار، فانطبقت عليهم صخرة، فقال بعضُهم لبعض: ادعُوا الله بأطيب أعمالكم، وأصلح أعمالكم، لعلَّ الله أن يكشف هذا الّذي نزل بنا، فقال أحدهم: (اللهم كانت لي ابنةُ عمٍّ كانت أحبَّ الناس إليّ، فأردتها عن نفسها –يعني طلبها- فامتنعت منِّي حتى ألمّت بها سنةٌ -حاجة- من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة ديناراً، فخلّت بيني وبين نفسها، ففعلتْ، حتى إذا قَدرتُ عليها، قالت له: اتقِ الله ولا تفضّ الخاتم إلا بحقِّه، فتحرّجتُ من الوقوع عليها، خوفاً من الله عزّ وجل، قال: فانصرفتُ عنها، وهي أحبُّ الناسِ إليّ)صحيح البخاري (2272) ما ذهب الحبّ الّذي جعله يراودها كل هذه السنين، إنما الّذي منعه ليس إنه تحول عن حبها، الّذي منعه منها هو شهوده لرقابة الله تعالى، تَذكره أنّ الله مطّلعٌ عليه، يحصي ما يكونُ منه: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ}[يونس:61] كل ذلك في بصر الله ـ تعالى ـ وعلمه، وإحاطته، وقدرته ـ جلّ وعلا ـ فإيّاك أن يرى الله ـ تعالى ـ منك ما يكره، فإنّ ذاكَ يوقعك في مغاضب الله ـ عزّ وجل ـ إذا تحقق العبد معنى[الرقيب] وامتلأ قلبه بذلك، ومَلكَ عليه زمام نفسه، أسكن قلبَه التقوى، فالقلب الّذي يستحضر معنى الرقابة، ويحمله على كفّ نفسه عمّا يغضب الله ـ تعالى ـ يورثُه التقوى، ويكونُ صادقاً في إقباله على الله ـ تعالى ـ وقد قيل: أوائل المراقبة، علمُ القلبِ بقرب الرب، وبقربه جلّ وعلا، والله قريب مطّلع على عبادة لا يخفى عليه شيء من شأنهم: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا}[المجادلة:7] فكن على رقابته التامة في الطاعاتِ إتقاناً وإحسانا، وفي السيئات والمعاصي بعداً وتجافياً، وارقب الفضل من الله، فالله يعطي عطاءً كبيراً، وفضلاً عظيما، لمن صَدق في إقباله عليه، إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة، استودعكم الله الّذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.