الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، أحمده حق حمده لا أحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرَّحمن الرَّحيم، وأشهدُ أنّ محمداً عبدُ الله ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، أمّا بعد:
فحيَّاكم الله أيها الأخوةُ والأخوات، ومرحباً بكم، في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم {فادعوه بها} في هذه الحلقة سنتناول اسماً من أسماء الله ـ عزّ وجل ـ العظيمة، التي لا يستغني عن مدلولها أحدٌ من الخلق، إنه اسم الله ـ تعالى ـ [الوكيل] قد ذكر الله ـ تعالى ـ ذلك في محكم كتابه، فقال ـ جلّ وعلا ـ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}[آل عمران:173] أنعم به وكيلاً ـ جلّ في علاه ـ يتولى شؤون عبادة ويقومُ بتدبيرِ مملكته ـ سبحانه وبحمده ـ وقد قال ـ جلّ في علاه ـ: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}[النساء:132].
هذا الاسم العظيم من أسماء الله ـ عزّ وجل ـ ذكره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ففي صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: (كان آخر قولِ إبراهيم حين أُلقي في النار، حسبنا الله ونعم الوكيل، وقالها محمد) هنا الشاهد، (وقالها محمدٌ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين قال له الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}[آل عمران:173])صحيح البخاري(4563).
الوكيل في اللغة: هو الّذي يستقلُّ بأمر موكلٍ إليه، فالوكيل يدل على القيامِ بالشيء، والإشراف عليه، والتولي له، والإنجاز لمهامه، والعمل به، والوكيل في أسماء الله عزّ وجل يدلُّ دلالتين:
النوع الأول: هناك وكالة عامة، وهي وكالته جلّ وعلا بشؤون خلقه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[الأنعام:102] فالله على كلِّ ما خلق من شيءٍ وكيل جلّ في علاه، في أرزاق عباده، في أقواتهم، في إصلاح شؤونهم، في تدبيرهم، في تصريفِ ما يكونُ منهم، كلُّ ذلك بوكالاته التي عمّت كل شيء: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[الزمر:62] كما أخبر في كتابه ـ جلّ وعلا ـ وإخباره بأنه على كل شيءٍ وكيل، يدلُّ على أنه أحاط علماً بكل شيء، فما من شيءٍ إلا والله به عليم، وهو عليه قدير ـ جلّ في علاه ـ فهو الّذي يدبّره، وهو الّذي يسوقه إلى ما شاء من أقدارٍ، وما حدّه من آجال، وله في ذلك كمال الحكمةِ ـ سبحانه وبحمده ـ فهو الّذي يضعُ الأمور في مواضعها، هذا هو المعنى العام لهذا الاسم العظيم الّذي يتعلّق بالخلقِ كلهم، ولا يخصُّ أحداً دون أحد، ثمّ هو ـ جلّ وعلا ـ وكيلٌ عن عباده من أوليائه الّذي يحبهم، وهذه وكالة خاصة لأولئك الّذين يعبدونه حقّ عبادته، ويحبونه ويقبلون عليه، وذاك الّذي أمر الله ـ تعالى ـ به في قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}[الأحزاب:3] ، كفى به وكيلاً لأوليائه ولعباده الّذين يكفيهم ما أهمَّهم، ويبلّغهم ما يؤمّلونه، وهذا المعنى الّذي نجّى اللهُ به إبراهيم ـ عليه السلام ـ حين أُلقي في النار، فآخر ما قال إبراهيم ـ عليه السلام ـ قبل أن يُلقى في النار: "حسبي الله ونعم الوكيل" وهو الّذي نجّى به محمداً وأصحابه، في أعقابِ غزوةِ أحد لمّا أصابهم ما أصابهم من الجراحِ والقتل، وجاءهم من يُوعدهم بعَودِ الكفار إليهم، ليستأصلُوا شأفتهم: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}[آل عمران:173] وإذا تحقق العبدُ بهذا المعنى كفاه الله كلَّ ما يهمه، ولذلك يقول الله ـ تعالى ـ: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[الأنعام:102] ولذلك بقدرِ العبادةِ وصدقها تحصلُ هذه الوكالاةُ الخاصة التي هي لعبادة: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} سبحانه وبحمده، هذا الاسم يدل على عظيم علم الله، وعلى عظيم قدرته، وعلى عظيمِ إحاطته، وعلى عظيم صفاته سبحانه وبحمده، فهو المحيطُ بعباده الّذين توكَّل لهم بكل ما يُصلحهم ويُقيم أمورهم على الوجه الّذي يرضاه ـ جلّ وعلا ـ إنّ المؤمن إذا قال: حسبي الله ونعم الوكيل صادقاً من قلبه، تولّى الله أمره، وأصلح شأنه، وحقَّق له ما يريد، وهذا القول يقوله المؤمن دعاءً، فيقول: حسبي الله ونعم الوكيل، متوسِّلاً إليه بهذا الوصف، لتحقيق ما يريد ويُؤمّل، واذكروا ما ذكره النبي ﷺمن دعاء الجارية التي كانت تُضرب، ويقال لها زنيتِ سرقتِ، وهي لم تفعل ذلك، فكانت لا تزيد عن أن تقول، لا تملك إلا أن تقول: "حسبي الله ونعم الوكيل" حتى إنّ الرضيع تمنَّى أن يكون كحالها، لما أطلَعه الله تعالى عليه من عظيمِ ما لها من الولاية، وما لها من النصر، وما لها من الأجر، وهذه قصة ذكرها النبي ﷺفي صحيح الإمام مسلم، من حديث أبي هريرة: أنّ صبيّاً كانت ترضعه أمه، فمرَ رجلٌ راكبٌ على دابةٍ فارهةٍ جميلة، وعليه إشارة حسنة، لباس حسن ومميز، فقالت المرأة فيما ترى من ظاهر حاله، ونعيمِ مظهره، قالت: (اللهم اجعل ابني مثل هذا) ابنها الّذي ترضعه، فترك الصبيُّ الثدي، والتفت إلى الرجل، وقال: (اللهم لا تجعلني مثله) وهذا ممن تكلّم في المهد، ثمّ إنها مرّت بامرأةٍ جاريةٍ يضربونها، يقولون زنت سرقت، وهي تقول: (حسبي الله ونعم الوكيل)وهنا الشاهد أنها في هذا الحال قالت: {حسبي الله ونعم الوكيل}، فقالت المرأة التي ترضع الصبي: (اللهم لا تجعل ابني مثل هذه) فترك الثدي، ونظر إلى المرأة التي تُضرب ، ويقال لها زنيتِ سرقتِ، فقال الرضيع: (اللهم اجعلني مثلها)، ثمّ بيّن ذلك فيما جرى بينه وبين أمه من مراجعة، أنَّ ذاك الرجل الّذي قالت: (اللهم اجعل ابني مثل هذا، جبّارٌ من الجبابرة، فقال: اللهم لا تجعلني مثله)صحيح مسلم (2250)، وهذه التي كانت تُضرب هي ممن ظُلم وممن وقع عليه العقاب، على غيرِ الوجه الّذي تستحق، فكانت تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، فقال الولد الرضيع: اللهم اجعلني مثلها، أي في هذه الحال التي أكونُ فيها على حالٍ حسنة، وإن لم يعلم بها الناس}.
هذا من دعاء الله ـ تعالى ـ بهذا الاسم، أن يقوله المؤمن في مواطن الكرُبات، وفي مواضع الضيق، كما قاله إبراهيم ـ عليه السلام ـ وكما قاله النبي ﷺوأصحابه، وكما قالته هذه الجارية التي ظُلمت وعوقبت ظُلماً، فقالت: {حسبي الله ونعم الوكيل}.
وأمّا استحضار معنى أنّ الله ـ تعالى ـ وكيل، فإنه يُثمرُ استقامةً في العمل، وذاك أنه يحقق العبودية لله ـ عزّ وجل ـ إذ إنّ العبد إذا تدبّر أنّ الله وكيلٌ، ومتكفّلٌ بأمره، وقائم بشأنه، ومتولٍّ لأحواله، فإنه سيكونُ في طمأنينة، وإقبالٍ عليه، ومحبةٍ له، والوكيل الّذي يسعى لك بما تحب، ألا تحبه؟ لو أنك وكلت شخصاً فأحسن إليك بهذه الوكالة، وقام بأمرك على وجهٍ كامل، وهو لا يرجو منك جزاءً ولا شكورا، ولم يأخذ على هذه الوكالة أجراً ولا ثواباً، ألا تجد في نفسك عِرفاناً بمعروفه، وشكراً لإحسانه، ومحبةً له، بلى هذا وهو في قضية من القضايا، وفي شأن من الشؤون، فكيف بالّذي توكل عنك في كل شيء؟!
فهو الّذي يُجري الدّمَ في عروقك، وهو الّذي يبلّغ الطعام إلى أجزائك لتنتظم على نحوٍ لا يَختل، وهو القائم بأمرك يدفع عنك من البلايا، والخطوبِ، والمصائب، والأمراض، والآفات ما لا تعلم، وهو الّذي إذا مرضت يشفيك، وإذا افتقرت يغنيك، وإذا احتجت يعطيك، ألا يستحق هذا الّذي تولى شأنك كله، أن تحبه، وأن تحقق له العبودية، وأن تُخلص له في العمل؟! بلى، إنّ تذكر العبد، أنّ الله توكل برزقه وهو في بطن أمه، لا يملك حولاً ولا قوة، يحمله على الإقبال على الله ـ عزّ وجل ـ ويجعله صادقاً في تحقيق العبودية له، إنّ الله وكيل توكل عنّا في كل أمورنا وشؤوننا، لا حول لنا ولا قوة إلا به، إنه نعمَ المولى ونعمَ النصير، ونعمَ الوكيل، لا يرجو من عباده شيئاً، ولا يدرك من هذه الوكالةِ نفعاً، يا عبادي إنكم لم تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضُرِّي فتضروني، ليس له منّا مكافئ، ولا من عملنا مقابل، بل هو المتفضل، فكان تَدبر مثل هذا المعنى، واستحضار أنه الوكيل ـ جلّ في علاه ـ يحملُ العبد على حسن العبودية، وصدقِ التوجه إليه، كما أنَّ العبد إذا امتلأ قلبه بأنّ الله وكيلٌ اطمأن إلى رزقه، فلم يسع إلى شيءٍ لم يقدّره الله ـ تعالى ـ له، ولم يجد في نفسه حرجاً ولا ضيقاً لما ساقه الله تعالى إلى غيره من النعم، لأنه وكيل جلّ في علاه، فهو المصرّف للأقدار، وهو المعطي لما يحتاجُ العبد، وهو المتكفل ألاّ يفوتك شيءٌ مما قدّره الله عليك، أو مما قدّره الله لك، فتوكل على الله، كما قال ـ تعالى ـ: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ}[الفرقان:58] إنه لن يتوكل على الحي الّذي لا يموت، من لم يحقق الإيمان بأنّ الله وكيل، وهو نعمَ الوكيل جلّ وعلا: {وتوكل على العزيز الرحيم}[الشعراء:217] فأزل من قلبك كل قلق، وليضمحلَّ من نفسك كلُ شك، في أنّ الله ـ تعالى ـ يغلبك أو لا يوصلُ إليك ما تحتاجُ إليه، على وفق ما قضاه وقدّره، فإنّ صدق التوكل يجلبُ للإنسان الخير كله، إيمانك بأنّ الله وكيل، يجعلك تتوكل عليه، ولا تعتمد على سواه، ولا تلتفت إلى غيره، لا يعني هذا أن تُعطل الأسباب، وأن تجلس وتقول: سيعطيني الله، لا أبذل السبب، لكن القلب لا يتعلق إلا بالله، فإنّ التعلق بالله جالبٌ لكل خير، دافعٌ عنك كل سوء، وقد قال النبي ﷺ: (لو توكلتم على الله حقّ توكله-انتبه- لرزقكم كما يرزقُ الطير) هل الطير تبقى في أماكنها تنتظر رزق الله؟! لا : (تغدو خماصاً) - تخرج من أوكارها، خماصاً جائعة، تطلب الرزق، لكن قلبها متعلق بالله، فيسوقُ الله لها الرزق- (تغدو خِماصَاً وتَعودُ بطاناً)سنن الترمذي (2344)، وسنن ابن ماجة (4164) أي ترجع في نهاية النهار، قد امتلأ بطنها من الأكل.
هكذا كن متوكلاً على الله، وابذل السبب، وأبشر بالعطاءِ فإنّ الله لا يخلفُ الميعاد، إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم{فادعوه بها} أستودعكم الله الّذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.