الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، أحمده لا أحصي ثناءً عليه كما أثنى على نفسه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنّ محمداً عبدُ الله ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، أمّا بعد:
فأهلاً وسهلاً وحيّاكم الله أيها الأخوةُ والأخوات، في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم (فادعوه بها) هذا البرنامج الّذي نتناول فيه أسماء الله ـ تعالى ـ ونقف عند مدلولاتها ومعانيها، ونحاول أن نستشف شيئاً من آثار الإيمان بتلك الأسماء العظيمة الشريفة لله ـ عزّ وجل ـ أسماء الله ـ عزّ وجل ـ كلها حسنى فهي قد بلغت في الحسنِ منتهاه، في مضمونها، وفي ألفاظها، فحسنها ليس فقط في الألفاظ، بل في الألفاظِ والبناء، وفي الجوهرِ والمعنى، فإنها تامةٌ كاملةٌ لا نقص فيها: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل:60] وله المثلُ الأعلى ـ سبحانه وبحمده ـ إنَّ هذه الحلقة ستتناول اسماً من أسماء الله ـ عزّ وجل ـ هو اسمُ الله ـ تعالى ـ [الكافي] وقد ذكره الله ـ تعالى ـ في محكمِ كتابه، في قوله ـ جلّ وعلا ـ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}[الزمر:36] وذكر الله ـ تعالى ـ هذا الاسم فعلاً في اشتقاقه وتصريفه على وجه الفعل، في قوله: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ}[الأحزاب:25] وقال ـ تعالى ـ: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[البقرة:137] وقال: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}[الحجر:95].
وقد جاء ذكر هذا الاسم في سرد أسماء الله ـ عزّ وجل ـ في الحديث المدرج، في حديث أبي هريرة: (إنّ لله تسعةً وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة)سنن الترمذي (3507) وقد ذكره في أسماء الله ـ عزّ وجل ـ جماعة من أهل العلم.
وهذا الاسم الشريف من أسماء الله ـ تعالى ـ فالنوع الأول من معاني الكافي: يدل على معنىً عظيمٍ ثابتٍ لله ـ عزّ وجل ـ وهو كفايته ـ جلّ وعلا ـ لجميعِ خلقه، كفايته ـ سبحانه وبحمده ـ لجميع خلقه في أرزاقهم وتدبيرهم، وتصريف أمورهم، وإصلاح شؤونهم، فهو الّذي يكفي عباده المهم، ويدفع عنهم المدلهمّ، وهو الّذي يكفي بمعونته عن غيره، ويُستغنى به عمّا سواه، فالله ـ تعالى ـ كافي عباده، لأنه رازقهم، وهو خالقهم، وهو حافظهم، وهو متولي أمورهم، وهو المتصرّف في شؤونهم، وهو الّذي يدفع عنهم ما يضرُّهم، وهو الّذي يجلبُ لهم ما يسرّهم: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}[الزمر:36] الكافي عباده جميع ما يحتاجون فيما تصلح به دنياهم، والكافي عباده جميعَ ما يضطرون إليه، فهو المسهل لهم، والمدبّر لهم، وهذه من معاني الكافي العامة التي تشمل كل الخلق، وهي كفايته ـ سبحانه وبحمده ـ لعباده وخلقه برزقهم، وتدبير أمورهم، وإصلاح شؤونهم.
النوع الثاني من معاني الكافي: هو كفايته لأوليائه وخاصَّة عبادة، وهو الّذي خص الله به الصالحين من خلقه، والمستقيمين من عباده، القائمين بشرعه، الّذين تحققت لهم الولاية، فإنّ الله ـ تعالى ـ يكفيهم كفايةً خاصة، قال الله ـ تعالى ـ: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}[الزمر:38] أمر الله المؤمن، أمر رسوله ومن آمن به، أن يقول: "حسبي الله" أي: الله كافيني، هذا معنى حسبي الله {وعلى الله فليتوكل المتوكلون} فالله هو الكافي، الدافع كل ضر، الجالب لكل نفع، وإذا صدق العبد في استكفاء الله كفاه: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}[غافر:44] أي: أُسلّم الله أمري وأجعله إليه، وأتوكل عليه، فإنه الكافي من توكل عليه ـ سبحانه وبحمده ـ وإذا تولى الله العبد فكفاه كفايةً خاصة وكله ـ جلّ وعلا ـ إلى رحمته، وإلى فضله وإحسانه، وقضى حوائجه في دينه ودنياه، ودفع عنه ما يضرُّه، وحقَّق به العبدُ لله ـ عزّ وجل ـ ما طلب منه بعونه وتيسيره، إنّ كفاية الله لعبده مقترنة بالعبودية، فكلما زادت عبودية الإنسان لله نال نصيباً من الكفاية، ولذلك قال: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}[الزمر:36] فلك من الكفاية بقدرِ ما معك من العبودية، "انتبه" لك من الكفاية بقدرِ ما معك من العبودية.
العبودية ما هي؟!
العبودية هي ذلُّ القلبِ وخضوعه لله، واستقامةِ الجوارحِ طاعةً لله في الفرائض والمأمورات، وفي المناهي والسيئات تركاً، وفي الأوامر والطاعاتِ فعلاً، وفي السيئاتِ والمنكراتِ تركاً، إذا تحققت ذلك فاعلم أنَّ الله كافيك، ولهذا قال الله لرسوله: {فسيكفيكهم الله} كل ما تخافه من أعدائك وخصومك، من تعلم ومن لا تعلم، الظاهر والمستتر، في حياتك وبعد موتك، فإنّ الله سيكفيك كل هؤلاء الّذين تخافهم، وتحذر من شرهم في نفسك، وفي عرضك، وفي أهلك، وعندما يتحقق لك ذلك فإنّك ستسلم من كل مخوف: {فسيكفيكهم الله وهو السميع البصير} وقد قال الله تعالى لرسوله: {إنّا كفيناك المستهزئين} والله تعالى قد استكفاه أولياءه، ففي صحيح البخاري، من حديث عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- أنّ قريشاً لمّا أبطؤوا على النبي ﷺبالإسلام، وآذوه، وحاربوه، وقاتلوه، قال: (اللهم اكفنيهم بسبعٍ كسبع يوسف)صحيح البخاري (4693) أي أرسل عليهم سبع سنين من الجدبِ، والقحطِ، وقلة المؤن ما يصيبهم كنظير ما أصاب قوم يوسف لمّا مرّ عليهم السبعُ العجاف، الشداد التي قحطت بها السماء، وأجدبت بها الأرض، فأصابتهم سنةٌ حصلت كل شيءٍ حتى أكلُوا العظام، هذا من كفاية الله لرسوله، وفي قصة الغلام الّذي دعا الملك للإيمان بالله ـ عزّ وجل ـ فما كان منه إلا أن حاول قتله، كان في كل مرة يرسله ليُقتل، فيقول الغلام عندما يخشى نزول القتلِ به: "اللهم اكفينهم بما شئت" فيفنى الرسل، ويعودُ الغلام إلى المَلكِ سليماً. (اللهم اكفنيهم بما شئت) فانكفأتِ السفينة (اللهم اكفينهم بما شئت)صحيح مسلم (3005) فاندفع عنه ضرُّ أولئك الّذين أرادو أن يُردوه من جبلٍ شاهق، وعاد إلى المَلكِ سليماً، ذاكَ بكفاية الله ـ عزّ وجل ـ والله يكفي كل من استكفاه، ولهذا ينبغي للمؤمن أن يستحضر كفاية الله ـ تعالى ـ في توقي الشرور عموماً، وفي البعدِ عن الاضرارِ الخاصةِ والعامة، فإنَّ ذلك يدفع عنه كل ما يكره، وإذا ضاقت عليك المكاسب وعجزتَ عن تحقيق كفايتك في الرزق، فاستكف الله، جاء رجلٌ إلى عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال: (إني قد عجزتُ عن كتابتي فأعنِّي، فقال له: ألا أُعلّمك كلماتٍ علّمنيهنّ رسول الله ﷺلو كان عليك مثل جبلٍ ديناً أدّاه الله عنك، قال قل: "اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمّن سواك)سنن الترمذي (3563)، ومسند أحمد (1319) هذه الكلمات العظيمة التي إذا امتلأ بها قلب المؤمن، وجَهر بها لسانه أدرك من الله الكفاية.
"اللهم اكفني بحلالك عن حرامك" ليس فقط في المكاسب والأموال، بل حتى في كل الرغبات، يعني من عجز عن الزواج قال: "اللهم اكفني بحلالك عن حرامك" من ضاقت به السبل فلم يجد وظيفةً فليقل: "اللهم اكفني بحلالك عن حرامك" من ضاق عليه أمرٌ فليقل: "اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، واغنني بفضلك عمّن سواك" فإنَّ من طلب الكفاية من الله كفاه الله.
فقد جاء في مسند الإمام أحمد، من حديث أبي سعيد، أنَّ رجلاً جاء إلى النبي ﷺفقعدَ بين يديه، فقال له النبي ﷺ: (من استغنى أغناه الله، ومن استعفَّ أعفه الله، ومن استكفى -أي طلب الكفاية من الله-كفاه الله)سنن النسائي (2595) ومن كفاه الله وقاه.
ولهذا إذا تذكر المؤمن كفاية الله له في مأكله، ومشربه، وملبسه، وسائر شأنه، حمد الله من قلب صادق لذلك كان النبي ﷺإذا أوى إلى فراشه تذكر كفاية الله له، فقال: (الحمد لله الّذي أطعمنا، وسقانا، وكفانا، وآوانا -ثم يتذكر نعمة الله عليه-فكم ممّن لا كافي له ولا مأوى)صحيح مسلم (2715).
تذكر هذه النعم وكفاية الله لك، فإنّ ذلك يقدح في قلبك محبة الله، ويذكي في نفسك تعظيم الله، والإجلال له ـ سبحانه وبحمده ـ لأنه الّذي كفاك كلَّ ما أهمَّك، ثمّ إذا قلت الذكر الّذي شرعه الله ـ تعالى ـ في مواطن الذكر، حصلت على كفاية الله ـ تعالى ـ ووقايته، ومن ذلك إذا خرج الإنسان من بيته فقال: (بسم الله توكلتُ على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، يُقال حينئذ: هُديتَ، وكفيتَ، ووُقيت، يتنحى عنه الشيطان، فيقول الشيطان: كيف برجلٍ قد هُدي وكُفي ووُقي)سنن الترمذي (3426)، وسنن أبي داود (5095).
هُدي: عرف مواطن الخير وتوقَّى مواطن الشر.
وكُفي: من كلِّ ما أهمَّه.
ووُقي: من كل ما يُخيفه.
وبذلك ينالُ المؤمن معونة الله ـ تعالى ـ فاحرص على الأذكار، واستذكر كلما يكونُ خيراً لك في الاستقامةِ على شرع الله ـ عزّ وجل ـ فإنّ ذلك يحصل لك به العبودية التي هي طريق تحصيل الكفاية: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}[الزمر:36] وإذا اكتفيت بالله أغناك الله عن كل ما سواه، لكن إذا افتقرت إلى غيره، وخلا قلبك من التوجه إليه، لم تنل شيئاً من فضله، ووَكلكَ الله إلى نفسك: (ومن وُكلَ إلى نفسه، وُكلَ إلى عجزٍ وضعفٍ وخور).
إنّ من مفاتيحِ تحصيل كفاية الله، والتعبّد لله باسمه الكافي أن تحسن الظن به، فإنه من أحسن الظن بالله بلّغه الله ما يُؤمّل.
في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ النبي ﷺقال: (أنا عند ظن عبدي بي)صحيح البخاري (7405)، وصحيح مسلم (2675)، فظن بالله خيراً تجد منه خيراً، وإذا أسأت الظن به، لم يكن لك إلا ما ظننت من سوء.
اللهم إنّا نسألك أن تكفينا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمّن سواك، وأن تجعلنا ممن نال فضلك بحسنِ تحقيق العبوديةِ لك، ونال كفايتك بالتوجه إليك، وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم(فادعوه بها) أستودعكم الله الّذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.