الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد.
أيها المؤمنون بالله ورسوله.
اتقوا اللهَ واحذروا عقابَه وشديدَ عذابِه وسخطَه، فالله سبحانه وتعالى شديدُ العذابِ شديدُ العقابِ ذو الطَّوْلِ لا إله إلا هو إليه المصيرُ، كما قال اللهُ جل ذكره: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} سورة الحجر: 49 -50
وقد حذَّركم اللهُ تعالى نفسَه في كتابِه، فقال: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ} سورة آل عمران: 28 قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسيرِ هذه الآيةِ: "أي: يخوِّفُكم اللهُ من نفسِه أن تركَبُوا معاصيَه أو توالوا أعداءَه، فإن إليه مرجعَكم ومصيرَكم بعد مماتِكم، فإن خالفتُم أمرَه نالكم من عقابِ اللهِ ما لا قِبَلَ لكم به، فاتقوه واحذروه أن ينالَكم ذلك منه، فإنه شديد العقاب" جامع البيان في تفسير القرآن 5/320
أيها المؤمنون.
إن خوف الله تعالى من تمام الإيمان به لذلك أمر الله تعالى به عباده، فقال جل ذكره: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} وقال سبحانه:{فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي}، سورة البقرة: 150.
بل قد جعلَ -سبحانه وتعالى- خوفَه شرطاً لصحةِ الإيمانِ، فقال سبحانه عز وجل:{فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} سورة آل عمران: 175. .
وقد أنذرَكم اللهُ أيها المؤمنون الأمنَ من مَكْرِه وعَذابِه، فقال تعالى: {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} سورة الرعد: 13. وقال سبحانه:{أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ –أي: عملوا السيئات - أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ*أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} سورة النحل: 45-47. ،وقال -سبحانه وتعالى-: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} سورة الأعراف: 97 -99.
أيها المؤمنون.
إن الخوفَ من اللهِ تعالى من أجلِّ العباداتِ ومن أعظمِ القُرُباتِ، فهو الذي يحُولُ بينَكم وبينَ محارمِ اللهِ- عز وجل- ومعاصِيه، فللهِ ما أعظمَه، وللهِ ما أحوجَنا إليه، وللهِ ما أحسنَ عاقبتَه في الدنيا والآخرةِ؛ إذ بالخوفِ يا عبادَ الله يَنزِعُ العبدُ عن المحرَّماتِ، وبه يُقبِلُ على الطَّاعاتِ، فهو واللهِ أصلُ كلِّ فضيلةٍ، وباعثُ كلِّ قربةٍ.
وبالخوفِ من الله أيها المؤمنون يستيقظُ القلبُ من غفلتِه وينتفعُ بالإنذارِ ويتأثرُ بآياتِ القرآنِ، قال الله تعالى: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} سورة طه: 2-3. وقال سبحانه: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ} سورة الزمر: 23.
عبادَ اللهِ! إن الخوفَ من اللهِ تعالى هو من أخصِّ صفاتِ عبادِ اللهِ المتقين وأوليائِه المحسنين، قال اللهُ تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} سورة الأنفال: 2. قال الإمامُ الطبريُّ رحمه الله: "المؤمنُ هو الذي إذا ذُكِرَ اللهُ وجِلَ قلبُه وانقادَ لأمرِه وخضعَ لذِكْرِه خوفاً منه وفَرَقاً من عذابِه" جامع البيان في تفسير القرآن 11/ 27. .
أيها المؤمنون.
لقدْ كانَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- شديدَ الخوفِ من اللهِ عظيمَ الخشيةِ له، مع ما خصَّه اللهُ -سبحانه وتعالى- به من الخصائصِ والفضائلِ والهِباتِ، ففي الصحيحين قال -صلى الله عليه وسلم- : «فواللهِ إني لأَعلَمُكم باللهِ وأشَدُّكم له خشيةً»أخرجه البخاري (6101)، ومسلم (2356) من حديث عائشة رضي الله عنها.
وعن عبدِ الله بنِ الشِّخِّيرِ رضي الله عنه قال: «أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يُصلِّي، وله أزِيزٌ كأَزيزِ المِرْجَلِ من البكاءِ» أخرجه أحمد (15877) من حديث عبدالله بن الشخير رضي الله عنه..
أيها المؤمنون.
هذا نبيُّكم صلى الله عليه وسلم غفرَ اللهُ له ما تقدَّم من ذنبِه وما تأخرَ، بلغَ الغايةَ في العملِ والطاعةِ، ومع ذلك كلِّه كانَ شديدَ الخوفِ من ربِّه، حتى كانَ أكثرَ دعائِه كما في جامع الترمذي: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"أخرجه الترمذي (2140) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وحسنه ، وكان من دعائِه كما في "صحيحِ مسلمٍ": «اللهم مصرَّفَ القلوبِ صرِّفْ قلوبَنا على طاعتِك»"صحيح مسلم" (2654) من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص. ،أما صحابتُه الكرامُ فهم الذين قال فيهم القائلُ:
إذا ما الليلُ أظلمَ كابَدُوه **** فيُسفِرُ عنهم وَهُم رُكوع
أطارَ الخوفُ نومَهُمُ فقاموا**** وأهلُ الأمنِ في الدنيا هُجوعديوان عبد الله بن المبارك ص 14.
فَسَيْرُهُم -رضي الله عنهم- حافلٌ بالعِبَرِ والعِظاتِ، فهذا صدِّيق هذه الأمةِ وأفضلُها بعد نبيِّها -صلى الله عليه وسلم- المبشَّرُ بالجنةِ وعظيم المِنَّة كان إذا قامَ إلى الصلاةِ كأنه عودٌ من خشيةِ اللهِ تعالى.
وهذا عمرُ بن الخطاب -رضي الله عنه- المبشَّرُ بالجنةِ، قرأ سورةَ الطورِ حتى إذا بلغ {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِع} سورة الطور: 7. بكى واشتدَّ بكاؤُه حتى مرِضَ وعادَه الناسُ رضي الله عنه ، وكان يقولُ لابنهِ وهو في الموتِ: "ويحَكَ ضَعْ خدِّي على الأرضِ عساه أن يرحمَني"المحتضرين (47). .
وهذا عثمانُ رضي الله عنه كان إذا وقفَ على القبرِ بكى حتى يبلَّ لحيتَه رضي الله عنه .
أما جمهورُ الصحابةِ رضي الله عنهم ، فقد أخرجَ البخاري ومسلم من حديث أنسٍ رضي الله عنه أنه قال: خطبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خطبةً ما سمعتُ مثلَها قطْ، فقال: «لو تعلمون ما أعلمُ لضحِكتُم قليلاً ولبَكيتُم كثيراً»"صحيح البخاري" (1046)، ومسلم (901) من حديث عائشة رضي الله عنها. قال أنسٌ: فغطى أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وجوهَهم ولهم خنين.
فرضي اللهُ عنهم وأرضاهم ما أجمل فعلهم وأعذب ذكرهم!
عبادَ الله! هذه نماذجُ من مخاوفِ القومِ مع ما خصَّهم به اللهُ تعالى من الرِّضا والغُفرانِ وتبشيرِ بعضِهم بالجنانِ.
فليتَ شعري!! ماذا نقولُ وقد قَسَت مِنَّا القلوبُ، وأمِنَتْ مِنَّا المخاوفُ، فلا بقُربِ الرحيلِ ننتبه، ولا بآياتِ اللهِ نتعظُّ، فلا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ العليِّ العظيمِ.
الخطبة الثانية
أما بعد.
اتقوا اللهَ ،واعلموا أن من علاماتِ خوفِ اللهِ تعالى وخشيتِه عدمَ الأمنِ من عذابِ اللهِ وعقابِه وسَخطِه، قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} سورة المؤمنون: 57. ، فهؤلاء يا عبادَ اللهِ قوم حسُنت أعمالهُم، وطابت سرائرُهم، وَزَكَت قلوبُهم واستقامت جوارحُهم، إلا أنهم مع ذلك لم يأمَنوا عقابَ اللهِ وعذابَه، فقلوبُهم وَجِلةٌ خائفةٌ أنهم إلى ربِّهم راجعون.
وهذا يفسِّرُ لنا ما كانَ عليه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من شدَّةِ الحَذَرِِ من عِقابِ اللهِ والخوفِ من سَخَطِه، ففي صحيحِ مسلمٍ من حديثِ عائشةَ -رضي الله عنها- قالت: «كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يومَ الرِّيحِ أو الغَيْمِ عُرِف ذلك في وجهِه، وأقبلَ وأدبرَ فإذا مَطَرت سُرَّ به وذهبَ عنه ذلك، قالت عائشةُ: فسألتُه؟ فقال: إني خشيتُ أن يكونَ عذاباً سُلِّطَ على أُمَّتي »أخرجه مسلم (899). .
وفي روايةٍ أخرى للبخاريِّ قال لها لما سألتْه: « يا عائشةُ، ما يؤمِّنُني أن يكونَ فيه عذابٌ، وقد عُذِّب قومٌ بالرِّيحِ، وقد رأى قومٌ العذابَ، {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}»"صحيح البخاري "(4829) من حديث عائشة رضي الله عنها..
ولما كسفت الشمسُ في عهدِه -صلى الله عليه وسلم- خرجَ إلى المسجدِ مُسرِعاً فزِعاً يجرُّ رداءَه من شدةِ الفزعِ، فقام بأصحابه صلى الله عليه وسلم قياماً طويلاً شديداً حتى جعلوا يخرُّون من طولِ القيامِ، فاستكملَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في الرَّكعتين أربعَ ركعاتٍ وأربعَ سجداتٍ، رأى في صلاتِه تلك الجنةَ والنارَ، فلما فَرَغَ من تلك الصلاةِ خطَبَ خطبةً عظيمةً بليغةً كان منها أن قال -صلى الله عليه وسلم- : «أيها الناسُ إن الشمسَ والقمرَ آيتان من آياتِ اللهِ لا يخسفانِ لموتِ أحدٍ ولا لحياتِه، فإذا رأيتم ذلك فافزَعوا إلى الصلاةِ وادعوا اللهَ وكبِّروا وتصدَّقوا، يا أمةَ محمدٍ، والله لو تعلمون ما أعلم لضحِكتُم قليلاً ولبكيتُم كثيراً» أخرجه البخاري (1046)، ومسلم (901) من حديث عائشة رضي الله عنها. ، وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم عن الكسوفِ: «إنه من آياتِ اللهِ تبارك وتعالى يعتبِرُ بها عبادَه، فينظرُ من يُحدِثُ منهم توبةً»أخرجه أحمد (19665) والحاكم (1230) من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه، والحديث صححه الحاكم..
فلا إله إلا الله ما أطيبَ قلوبَهم وأزكى سرائرَهم وأشدَّ خوفَهم وحبَّهم وتعظيمَهم لربِّهم جل وعلا، فإن هذه الآياتِ والعظاتِ لا يَعتبرُ بها إلا من عَمَّرَ الخوفُ قلوبَهم، قال الله تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ} سورة هود: 103. ،وقال سبحانه:{وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} سورة الذاريات: 37. .
أيها المؤمنون.
إنه لما ضعُفَ إيمانُنا باللهِ وقلَّ خوفُنا منه وتعظيمُنا له قَسَتْ مِنَّا القلوبُ وساءت الأعمالُ وصدق في كثيرٍ منَّا قولُه جل وعلا:{وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُون} سورة يوسف: 105. ، فلا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ العلي العظيم، وإنا لله وإنا إليه راجعون.555