الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، أحمده حق حمده لا أحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، له الحمد كله، أوله وآخره، ظاهره وباطنه، و{هو الغني الحميد} وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنّ محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، أمّا بعد:
فحياكم الله... حياكم الله أيها الأخوةُ والأخوات، في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم (فادعوه بها) هذه الحلقة سنتناول فيها اسماً من أسماء الله ـ تعالى ـ العظيمة، وهي من أسماء الملك، وهو اسمُ الرّب ـ جلّ وعلا ـ [الغني].
الغنيُّ اسم من أسماء الله ـ تعالى ـ ذكره الله في كتابه، فقال: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ}[يونس: 68] سبحانه هو الغني، وقال ـ جلّ وعلا ـ: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}[النمل: 40] وقال ـ تعالى ـ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[فاطر: 15] وقال ـ تعالى ـ: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ}[الأنعام: 133] وقال ـ تعالى ـ: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ}[البقرة: 263] هذه آيات، وغيرها كثير ذكرها الله ـ تعالى ـ في هذا الاسم من أسمائه الكريمة جلّ في علاه.
وقد جاء ذكرُ ذلك في السنة في دعاء الاستسقاء الّذي جاء عن النبي ﷺحيثُ جاء عنه أنه كان يقول في استسقائه: (الحمدُ لله ربّ العالمين* الرحمن الرحيم* مالك يوم الدين لا إله إلا الله يفعلُ ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلتَ لنا قوةً وبلاغاً إلى حين)سنن أبي داود (1173) هكذا جاء هذا الاسم الدالُّ على عظمة الله ـ عزّ وجل ـ في مقام السؤال، والتضرع، والطلب لنزول الغيثِ الّذي تحيا به الأرضُ، ويحيا به العبادُ والبلاد.
الغنيُّ اسمٌ عظيمٌ من أسماء الله ـ عزّ وجل ـ دالٌ على كماله، وهو وصفٌ لله ـ تعالى ـ ذاتيٌّ، كما قال: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[فاطر: 15] فأثبت الله غناه، وكمال وصفه في هذا الوصف، كما أثبت في مقابله حاجة الإنسان، وأنه إلى الله ـ تعالى ـ فقير، وأنَّ الفقر وصفٌ للعبدِ ذاتيٌّ، لا غنى بالإنسانِ عن الله ـ عزّ وجلَّ ـ مهما كان الإنسانُ قوةً، وقدرةً، ومالاً، وجاهاً، واستمتاعاً، وسلطاناً، وما إلى ذلك من أسباب القوة في الدنيا وأسباب الغنى، إلا أنه مع ذلك كله، لو أوتي الكمال في كل هذا، الكمال البشري، والكمال الخلقي، في كل هذا، فهو لا ينفكُّ عن أن يكونَ فقيراً إلى الله.
آتى الله ـ تعالى ـ سليمان ملكاً لم يؤته أحداً من الناس، سخر له الجنّ، وآتاه من القدرةِ ما أتاه، ومع ذلك لم يكن غنيّاً عن الله ـ عزّ وجل ـ فكثرة الملك، وشرف المنزلة عند الله، بالنبوة والرسالة، لم يجعل سليمان غنيّاً عن الله، لأنَّ الغنى وصفٌ لله ذاتيّ، وأمّا العبدُ فغناه عارض، لا يفكُّه عن الفقر الّذي لا يمكن أن يزول عنه، فهذا من سمات غنى الله ـ تعالى ـ أنه غنىً ذاتيٌّ موصوفٌ به ـ جلّ وعلا ـ في كل أحواله ـ سبحانه وبحمده ـ أيضاً من معاني الغنى الّذي اتصف الله ـ تعالى ـ بها، أنه ـ جلّ في علاه ـ يعطي عطاءً واسعاً، فملكه جلّ وعلا واسع، ولهذا جاء في الصحيح، من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه- أنّ النبي ﷺقال: (يدُ الله ملأى-يعني بالخير-لا يغيضها نفقة-لا ينقصها نفقة-سحّاء الليل والنهار)صحيح البخاري (7411)، فهو ينفقُ ـ جلّ وعلا ـ الليل والنهار، يطعمُ هذا، ويكسو هذا، ويرزقُ هذا، كل ذلك من فضله في رزق الأبدانِ، ورزقِ البلدانِ، ورزقِ القلوب، ورزقِ الأديان، كلُّ ذلك عطاءُ الله ـ جلّ وعلا ـ: (أرأيتم ما أنفق منذُ خلق السموات والأرض، فإنه لم يغض ما في يده)صحيح مسلم(993) فكلُّ ما أنفقه وأعطاه عباده على مرِ العصور، ودوامِ الليل والنهار، كل ذلك لم يُنقص من ملكه شيئاً سبحانه وبحمده، ولذلك جاء في بيانِ عظيمِ الملكِ، وسعةِ الغنى، ما في الصحيح، من حديث أبي ذر-رضي الله عنه- أنّ الله ـ تعالى ـ قال، كما في الحديث الإلهي: (يا عبادي لو أنّ أولكم وآخركم، وإنسكم وجنّكم، قاموا في صعيدٍ واحد فسألوني فأعطيتُ كل إنسانٍ مسألته، ما نقص ذلك ممّا عندي إلا كما ينقصُ المخيطُ إذا أُدخلَ البحر)صحيح مسلم (2577). هذا بيان لعظيم مُلكِ الله ـ عزّ وجل ـ وأنه مهما أعطى، ومهما رزق، ومهما أوصل من الخير، فإنّ ذلك لا يُنقصُ من ملكه شيئا، هو الغني سبحانه وبحمده، غنيٌّ بذاته حتى ما يكونُ من عبادات العباد، وقرباتهم، وصالحاتهم، إنّما هو لأنفسهم، فالله غنيٌّ عنّا، وعن عباداتنا، ولذلك قال: (ياعبادي إنكم لن تَبلغوا ضُري فتضروني، ولن تَبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي إنما هي أعمالكم أُحصيها لكم، ثم أُوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلاّ نفسه)صحيح مسلم (2577).
فضلُ الله واسع، وعطاؤه كبير، وغناه لا حدَّ له، لا تبلغهُ العقول، وقد قال لنا في محكمِ كتابه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}[البقرة: 267]، وقد قرن الله تعالى هذا الاسم في حمده، لدلالة على ما كان من غناه الّذي لا حدّ له، الّذي يُوجبُ حمده، والثناء عليه ـ سبحانه وبحمده ـ فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}.
كما أخبر أنه غنيٌّ كريم، فقرن الغنى بالكرم، لبيان أنّ هذا الغنى ليس محجوزاً، وليس ممّا لا تظهر آثاره، بل آثاره ظاهرة لعظيمِ عطائه، وكثرة خيره ـ سبحانه وبحمده ـ والعبدُ إذا عَلِمَ أنه غنيٌّ كريم، تعرّض لفضل الله عزّ وجل، وسأله جلّ في علاه من عطائه.
كذلك قرن غناه بحلمه، فقال: {والله غنيٌّ حليم} ليعلم العباد أنّه لا يمنعه عصيانهم، ولا يمنعه كفرهم، ولا يمنعه ما هم عليه من خروجٍ عن حدود شرعه، لا يمنعهم ذلك من أن يتوجهُوا إليه، لا يمنعه ذلك أن يعطيهم، وأن يرزقهم، وأن يُعافيهم، فهؤلاء مع كفرهم، وعنادهم، وإعراضهم عن الله، إلا أنّ الله تعالى يمدهم بألوانٍ من المدد، ويعطيهم ألواناً من العطاء، كل ذلك لأنه ـ جلّ في علاه ـ الغنيُّ الحميد.
إذا تذكر العبدُ غنى الله، وسألهُ بغناه أدركَ خيراً كثيرا، لذلك كان النبي ﷺيذكرُ ذلك في مقام الافتقارِ، والحاجةِ في دعاء الاستسقاء وهو دعاء شفقة، ورهبة، شكا الناسُ إلى رسول الله ﷺقحوط المطر، فأمر بالمنبرِ، فوضع له في المصلى، ووعد الناس يخرجون فيه، فخرجَ، قالت عائشة: فبدأ النَّبيُّ ﷺفي دعائه فقال: ("الحمدُلله ربّ العالمين* الرَّحمن الرحيم* مالك يوم الدين" لا إله إلا الله يفعلُ ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت قوةً وبلاغاً إلى حين)سنن أبي داود (1173)، هذا الدعاء الّذي توسل به النبي ﷺبغنى الله، ليدفع فقره، هو من الإيمان بهذا الاسم، ومن دعاء الله ـ تعالى ـ به، ومن تذكره، والتعبّد لله ـ تعالى ـ به.
إنّ المؤمن إذا استحضرَ عظيم غنى الله، عرف عظيم فقره، وكان ذلك موجباً لإظهار الافتقار إلى الله ـ عزّ وجل ـ وليعلم أنّ أقرب طريق يصل به العبد إلى الله ـ عزّ وجل ـ وإلى نيل فضله وخيره، هو أن يُظهر افتقاره إلى الله، فإنه من أظهرَ غناه عن الله أذلّه الله، لأنه لا غنى بأحدٍ عن الله، أتذكرون قصة موسى ـ عليه السلام ـ لمّا خرجَ من مصر خائفاً يترقّب، وقد ضاقت به السبل، وانسدت أمامه الطرق، فهذا جبّارٌ يطلبه ليوقع به العقوبة، فأوى إلى مدين: {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ}[القصص: 23]، {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} قال ماذا؟! قال: {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}[القصص: 24] توسل إلى الله بحاله، وأنه إلى الله فقير، فلمّا توسل إلى الله بحاله فتحت له الأبواب، وجاءته الخيرات من كلِ حدبٍ وصوب، فآتاه الله ـ تعالى ـ أجرةً، ونكاحاً، وعملاً، ثم تفضل عليه بعد ذلك بالرسالةِ، لمّا أَذن الله ـ تعالى ـ له بالرسالةِ، وأن كلّمه ـ جلّ في علاه ـ: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} فهذا أول ما جاء: {فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[القصص: 25] حصل له الأمن ثمّ قال: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} حصل له الزواج، ثم قال مقابل ماذا: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ}[القصص: 27] فجاءه العمل، كل ذلك لمّا صدق في توجهه إلى الله، وعرض حاله إليه: {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}[القصص: 24]
إظهارُ الافتقار إلى الله، به ينجو العبد من مضايقٍ عظيمة، وينالُ فضائل كبيرة، لكن ليصدق في هذا، وليستحضر عِظمَ غنى ربه، فالله هو الملك، هو الله الّذي لا إله إلا هو ـ جلّ في علاه ـ الّذي بيده خزائنُ السمواتِ والأرض، منه تُقضى الحاجات، وتبلغُ الغايات، فمن صدق في إظهارِ الافتقار إليه، وسؤاله ـ جلّ وعلا ـ أدركَ ما يُؤمّلُ من خير، أنَّ النبي ﷺأخبر فيما رواه الإمام البخاريُّ في صحيحه: (أنّ أيوب كان يغتسل فخرّ عليه رجلُ جرادٍ من ذهب، فجعلَ يحثو في ثوبه - يعني خرّ عليه شيءٌ من ذهب، فجعل يحثو، يأخذ من هذا الذهب، ويضع في ثوبه - فناداه ربه: يا أيوب ألم تكن أغنيتك عمّا ترى؟ قال: بلى وعزتك، ولكن لا غنى لي عن بركتك)صحيح البخاري (279) بلى أغنيتني يا الله، لكن لا غنى لي عن بركتك. فهذا فضل الله وخيره، فكان يستكثر لا لأجل شعوره بالفقر وخوفه منه، بل لأجل نيل بركات الله الّذي ساق إليه هذا الذهب، الّذي أنزله عليه.
إنّ العبد إذا صدقَ في إيمانه بأنّ الله هو الغنيُّ، اغتنى عن كل أحد، ولذلك قال ﷺ: (ومن يستغنِ يُغْنِهِ الله)صحيح البخاري (1427)، وصحيح مسلم (1053) من يستغنِ يغنه الله، يجعل له فرجاً، ومخرجاً، ويرزقه من حيثُ لا يحتسب، ولذلك لا تجعل حاجتك عند بني آدم، فإنهم أهلُ إمساك، وشح، كلما احتجت شيء، فاطرق باب الله، بسؤاله، والتوجه إليه، وحسن الظن به، وأبشر فإنّ الله لا يخيّب من سأله، ولا من قصده، ولا من توجه إليه، فهو الغنيُّ الحميد، وهو الغنيُّ الكريم، وهو الشكور الحليم ـ جلّ في علاه ـ وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم (فادعوه بها) أستودعكم الله الّذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.