الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، له الحمد كله أوله وآخره، ظاهرة وباطنه، له الحمد كما يحب ويرضى، له الحمد ملأ السماء والأرض، وملأ ما شاء من شيء بعد، أهل الثناء والمجد أحق ما ذكر العبد كله له العبد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله صفيه وخليله خيرته من خلقه بعثه الله بالهدى ودين الحق، تركنا على صراط بيِّن واضح، على منهج ومحجة بيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلوا عليه وسلموا تسليمًا، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنه حميد مجيد أما بعد..
فحياكم الله أيها الإخوة والأخوات، أهلًا وسهلًا بكم في هذه الحلقة الجديدة.
عيسى -u- نبي من الأنبياء الكرام، وهو من أولي العزم والرسل، خصه الله تعالى بخاصية أن خلقه على نحو مختلف عن سائر البشرية، فخلقه من أم بلا أب، كما قص الله تعالى ذلك في كتابه وهذه الميزة التي خص الله تعالى بها عيسى -u- كانت مسارًا لانقسام الناس فيه، بين غال وجاف، وبين وسط يعرف ما منَّ الله به على رسوله –صلى الله عليه وسلم- عيسى، وما كان عليه من هذه الميزة التي ميزه الله تعالى بها.
إنها عيسى -u- نبي كريم، جاء النصارى للنبي –صلى الله عليه وسلم- في وفد نجران في السنة التاسعة من الهجرة، جاءوا كما جاء غيرهم من الوفود، لكنهم جاءوا وقد قالوا للنبي –صلى الله عليه وسلم- إنك تقول في عيسى قولًا غير سديد، كأنهم انتقدوه –صلى الله عليه وسلم- حيث قالوا: إنك تزعم أنه عبد الله قال محمد –صلى الله عليه وسلم- الذي جاء مبلغًا عن الله على هدي مستقيم يدعو إلى صراط مستقيم وهو على صراط مستقيم كما قال الله تعالى في وصفه: ﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[المؤمنون: 73].
هذا الصراط المستقيم هو الوسط بين الغلو في عيسى، وبين الجفاء فيه عليه الصلاة والسلام، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «نعم»[أخرجه أحمد في مسنده(2918) بسند حسن]، أي أنه عبد لله –عز وجل- فعيسى عليه السلام عبد لله وخلقه إنما كان لميزة خاصية خصها الله تعالى به، أظهر بها عظيم قدرته جل في علاه.
فالله خلق آدم من تراب، من غير أب ولا أم، وخلق عيسى من أم بلا أب، وخلق حواء من آدم بلا أم، وخلق سائر الخلق من أب وأم.
هذه الأحوال التي جرى عليها خلق الله تعالى للناس، وقد كان في خلق عيسى آية، هذه الآية ليست بغريبة من كل وجه، إنما كان لها نظير، ولذلك لما سألوه كيف تقول: إنه عبد لله وقد خلقه الله على النحو الذي تعرف وتقرّ من أنه خلق من أم بلا أب.
فقال النبي –صلى الله عليه وسلم- لهم ما أخبره به ربه -جل في علاه- حيث قال: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَىعِنْدَ اللَّهِكَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْتُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾[آل عمران:59]، هذا الذي استغربتموه ونظرتم إليه على أنه خاصية ترتقي بعيسى إلى أن يكون ابنًا لله، وليس عبدًا لله، هناك ما هو أعظم منها غرابة وهو خلق آدم عليه السلام، فآدم خلق من تراب من غير أب ولا أم، فهو أولى أن يكون ابنًا لله من أن يكون عيسى عليه السلام ابنًا لله إذا كان عدم الأبوة سببًا لأن يكون ابنًا لله، هذا لا يدل على أنه ابن الله، بل هو خلق من خلق الله عظيم وهو كآدم -u- في كونه خلقه الله تعالى من تراب ثم قال له كن فيكون، فإن الله تعالى خلق عيسى -u- على هذا النحو إلا أنه أعظم من جهة أنه لم يكن خلقه من تراب، إنما كان خلقه من نفخ أخبر الله تعالى عنه حيث نفخ فيها -عليها السلام- فكان منها من هذه النفخة كان منها هذا الولد ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾[النساء: 171].
هذا الذي تميز به عيسى ابن مريم أنه لم يكن من تراب، إنما كان من نفخة أوجدت جسده ووضعت الروح في هذا الجسد فكان مخلوقًا من أم بلا أب، كما أخبر الله تعالى في كتابه، إن هذا الإعجاز في خلق الله تعالى لعيسى -u- هو بيان لعظمة الله –عز وجل- وليس موجبًا لحال من الأحوال إلى أن يشرك بالله، أو أن يظن أن له ولد ﴿تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا﴾[مريم: 90- 92]، سبحانه -جل في علاه- فهو المنزه عن أن يكون له ولد ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌاللَّهُ الصَّمَدُلَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْوَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾[الإخلاص: 1- 4]، فليس له نظير ولا مثيل.
عيسى ابن مريم -u- من أخص الناس به في الأنبياء، نبينا محمد –صلى الله عليه وسلم- وقد أخبر بذلك فقال –صلى الله عليه وسلم-: «أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة»[صحيح البخاري (3443)، ومسلم (2365)]، وذلك أنه ليس بينه وبين النبي –صلى الله عليه وسلم- رسول ولا نبي لم يكن بين عيسى وبين النبي –صلى الله عليه وسلم- نبي أو رسول، بل كان الوالي لعيسى -u- الذي جاء بعده محمدًا –صلى الله عليه وسلم-.
كما أن عيسى قد رفعه الله –جل وعلا- وخصه بأن أنقذه ممن أرادوا قتله، فهو مرفوع عند ربنا -جل في علاه- وسينزله الله في الآخرة، سينزله الله في آخر هذه الدنيا، كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ﴾[الزخرف: 61] أي علامة من علامات الساعة.
﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾[آل عمران: 47]، فهذا عام في كل الخلق فما من أحد يوجد في هذا الكون إلا بأمر الله تعالى ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾[آل عمران: 47]، والذي خص عيسى -u- حتى سمي بكلمة الله أنه أحق الناس بهذه، لم يكن خلقه لا من ماء ولا من تراب، إنما كان خلقه بنفخة الملك، فكان كلمة الله التي قال فيها –جل وعلا- ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾[آل عمران: 47].
إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.