الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، أحمده ملء السماء والأرض وملء ما شاء شيء من بعد، فهو المحمود على كل لسان وعلى كل حال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، خيرته من خلقه، بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، داعيًا إليه بإذنه وسراجًا منيرًا، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد أما بعد..
فحياكم الله أيها الإخوة والأخوات، هذه الحلقة نتناول فيها مثلًا ذكر الله تعال به حال الناس، الناس في إيمانهم بالله –عز وجل- على قسمين؛ إما شاكر، وإما كفور، كما قال الله تعالى في وصف الإنسان: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾[الإنسان: 1- 3].
وقد قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾[التغابن: 2]، هذه قسمة الله تعالى التي قسم الناس عليها، وقد مثل الله لحال الفريقين، المؤمن والكافر ما مثل المؤمن وما مثل الكافر؟
الله تعالى أرسل الرسل ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، فما هي مثل المؤمن في سيرته ومعاشه وحياته وما هو مثل الكافر؟
يقول الله -جل في علاه-: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾[الأنعام: 122]، هذا مثل المؤمن ﴿كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾[الأنعام: 122]، وهذا مثل الكافر إنهما مثلان وصورتان تبينان لنا مسيرة الإنسان في هذه الدنيا، ليست مسيرة لزيد أو فهد أو عبد الله أو محمد، إنما هي مسيرة كل البشرية من آدم -u- إلى آخر الناس حياة في الدنيا، إنها مسيرة تنقسم إلى قسمين؛ من يكون ميتًا بالظلمة والكفر وعدم العلم بالله والمعرفة به، فيحييه الله تعالى بنور رسالة ويشرق قلبه بنور الهداية، فيكون كما قال الله تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾[الأنعام: 122]، الحياة هنا ليست حياة بدن، إنما هي حياة روح ليست حياة أعضاء، إنما حياة قلب فأحييناه ولم تكن حياة مجردة، بل حياة معها ما يوجب السعادة والانشراح والبهجة ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا﴾[الأنعام: 122]، هذا النور هل هو في حال الخلوات هل هو في حال الانعزال؟ لا، إنه نور مرافق مصاحب يمشي به في الناس، وهذا هو نور الإيمان، ونور الفطرة، ونور القرآن، ونور الهداية، وهذا النور يرافقه في الدنيا في تفاصيل حياته، كما أنه يكون معه في الآخرة، فيكون يوم القيامة على نور من ربه.
والمؤمنون والمؤمنات لهم أنوار حقيقية يجوزون بها الصراط يوم القيامة،كما أخبر الله تعالى عن المنافقين الذين يقولون للمؤمنين ﴿انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾[الحديد: 13]، أما أهل الكفر والنفاق أهل الشرك والمعصية فهم في ظلمة، لذلك يقول الله تعالى: ﴿كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[الأنعام: 122]، ليست ظلمة واحدة، بل هي ظلمات شتى، ظلمات زمانية، ظلمات مكانية، ظلمات حالية، فهي ظلمات تحيط بالإنسان من كل جانب لا يمكن أن ينفك منها، ولا يخرج عنها إلا بالاستمساك والاهتداء بما جاءت به الرسالة من الأنوار البينة الواضحة الظاهرة.
الشريعة نور، لذلك من أخذ بهذا النور اهتدى للأنوار في الدنيا والآخرة، الله تعالى يقول: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾[المائدة: 15]، ويقول تعالى: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا﴾[التغابن: 8]، ويقول تعالى: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾[الزمر: 22].
وهذا النور في كل تفاصيل الحياة، لا يقتصر على جزئية ولا على معاملة، نور في معاملتك لله –عز وجل- نور في معاملتك للخلق، وبقدر تحقيقه لطاعة الله تعظم الأنوار التي تكون معك، إنها ليست أنوارًا حسية تبصر وترى، إنها أنوار معنوية تكون ابتداء في القلب، لكنها في الآخرة تنقلب إلى أنوار حقيقية، تشرق بها الطرق، وتتضح بها السبل، يقول الله تعالى: ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾[الحديد: 12]، إنه عطاء كبير من الله –عز وجل- لأهل الإيمان بقدر ما يكون معك من الإيمان صدقًا وإخلاصًا، وبقدر ما يكون معك من تحقيق خصال الإيمان يكون لك من النور يوم القيامة، لأن النور هنا ذكره الله لصفة وليس لشخص ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ﴾[الحديد: 12] أي نور المؤمنين ونور المؤمنين إنما هو بإيمانهم والتزامهم بشرع الله –عز وجل- لقيامهم بخصال الإيمان، بعملهم بالصالحات.
هذا النور يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، وقد ذكره الله تعالى في موضع آخر﴿يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾[التحريم: 8]، إنه نور يرافقك فاستكثر منه، وإن أعظم ما تحصل به النور الصلاة، لذلك قال النبي –صلى الله عليه وسلم-:« الصلاة نور»[أخرجه الترمذي في سننه(3517)، وصححه] فاحرص على الصلاة المفروضات، استكثر منها، أتقنها على الوجه الذي يحب الله، أقمها فإن الله لم يأمرك بالصلاة مجردًا بل قال: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾[المزمل: 20]، وإقامة الصلاة هي أن تأتي بها قائمة في شروطها، في واجباتها، في أركانها، في أوقاتها، في صفتها، يتحقق ذلك كله في جملة واحدة، قال –صلى الله عليه وسلم-: «وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»[صحيح البخاري (631)]، ثم بعد ذلك استزد من الصلاة فهي خير موضوع، وكلما استزدت من الصلاة في صلاة الليل، في النوافل، في الرواتب، في الصلاة المطلقة، ازددت خيرًا.
فالصلاة إذا أقيمت على الوجه الذي يحبه الله، أشرق بها القلب، وأشرق بها الوجه، وصلح بها العمل، وكان مرافقًا لك ذلك في كل أحوالك، يسددك ربك ويعينك، كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم- في أولياء الله «وَمَا تقرَّبَ إِلَيَ عبْدِي بِشْيءٍ أَحبَّ إِلَيَ مِمَّا افْتَرَضْت عليْهِ: وَمَا يَزالُ عَبْدِي يتقرَّبُ إِلى بالنَّوافِل حَتَّى أُحِبَّه».
هذا المستحبات بعد الواجبات «فَإِذا أَحبَبْتُه كُنْتُ سمعهُ الَّذي يسْمعُ بِهِ، وبَصره الَّذِي يُبصِرُ بِهِ، ويدَهُ الَّتي يَبْطِش بِهَا، ورِجلَهُ الَّتِي يمْشِي بِهَا، وَإِنْ سأَلنِي أَعْطيْتَه، ولَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَّنه»[صحيح البخاري (6502)].
وإن استنصرني لأنصره، إنه فتح عظيم، إنه نور لا يحده حد، نور الله الذي يقذفه في قلوب عباده، فينعكس هذا على أعمالهم وألسنتهم، يتحقق به قول ربنا ﴿نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾[النور: 35].
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، وأن يسلك بنا وإياكم سبيل أهل التقى والصلاح، نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.