الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، أحمده حق حمده، لا أحصي ثناء عليه، أحمده هو رب العالمين، أحمده هو الرحمن الرحيم، أحمده هو مالك يوم الدين، أحمده هو الله لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، رب العالمين.
وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنه حميد مجيد.
أيها الإخوة والأخوات! إذا ذكر النبي –صلى الله عليه وسلم-، فأقل حقوقه أن نصلي عليه، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد، أما بعد..
هذه الحلقة سنتناول فيها مثلًا ذكره الله تعالي لعبد من عباده أنعم عليه بأعظم النعم، إنها نعمة البصيرة، إنها نعمة العلم، إنها نعمة معرفة الله –عز وجل- لكنه لم يعرف قدر هذه النعمة، ولم يستجب لمقتضياتها من تمام الذل لله وتحقيق العبودية له، بل أعرض وتولى ولم يستجب لتلك الآيات والبصائر التي منَّ الله عليه بها ورزقه إياها، يقول الله –جل وعلا-: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا﴾[الأعراف: 175]، هذا أمر من الله للنبي –صلى الله عليه وسلم- أن يخبر قومه بخبر رجل آتاه آياته، من الله عليه بالعلم، والآيات هنا آيات شرعية وآيات خلقية عرف بها الله وعرف بها الطريق الموصل إليه، لكن ماذا فعل بذلك، وماذا أنتج ذلك العلم والمعرفة؟
يقول الله: ﴿آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا﴾[الأعراف: 175]، أي كأنه لم يعلمها خرج منها دون أي بقاء لأثر لتلك الآيات، خرج في ظاهرة، خرج في باطنه، خرج في عمله، ﴿فَانسَلَخَ مِنْهَا﴾[الأعراف: 175] تعرى، خرج من الحصن الذي يقيه إلى أرض جرداء، عدوه متمكن منه، ﴿فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾[الأعراف: 175]، الضالين الخارجين عن الهداية والرشد.
ثم يقول الله تعالى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا﴾[الأعراف: 176]، أي بهذه الآيات فهو خرج بمشيئة الله، ليس خروجًا عن قدر، بل كل شيء بقضاء وقدر، لكنه زاغ فأزاغ الله قلبه، ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾[الصف: 5]، ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ﴾[الأعراف: 176]، مال إلى الأرض وتعلق بها والأرض هنا مثل لكل ما يتعلق من متع الدنيا، بكل ما يتعلق بزخارفها، أخلد إلى الأرض أي مال إليها وعطف على ذلك ﴿وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾[الأعراف: 176]، أي ما تشتهي نفسه، يضرب الله لنا مثلا في بيان حال هذا، وما يلقاه من عناء بعد أن فقد النور الذي أبصر به الهدى.
يقول: ﴿فَمَثَلُهُ﴾[الأعراف: 176]، أي مثل هذا الذي انسلخ من آيات الله واتبعه الشيطان فكان من الغاوين وأخلد إلى الأرض واتبع هواه ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ﴾[الأعراف: 176]، هو في الحالين في عناء، وفي الحالين في تعب، وفي الحالين في مشقة، ليس له سكون ولا قرار، الكلب إذا عدوت إليه وجدته لاهثًا، وإذا تركته وجدته لاهثًا، فهو في لهث قد بلع لسانه ظهر منه الإعياء والتعب في كل أحواله.
هذه الحال هي حال من أعرض عن الله –عز وجل-، هي حال من لم يستجب لآيات الله، لم ينقد لمقتضاها لم يعرف عظيم ما من الله عليه به من الهداية، يقول الله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ﴾[الأعراف: 175- 176].
يقول الله -جل في علاه- في ختم هذا المثل: ﴿ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾[الأعراف: 176]، كل من كذب بآيات الله بعد أن عاينها وأبصرها وعرفها كهذا المثل وهو مثل الكلب إن تحمل عليه يلهث، يعني إن تأتي إليه يلهث، أو تتركه وتغفل عنه وتمضي في طريقك هو يلهث في كل الحالين.
كذلك أولئك الذين كذبوا بآيات الله هم في عناء قلوبهم في شقاء، في ضيق، في كدر، في ضنك يقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾[طه: 124- 126]، أي تترك في النار كما تركت أسباب الهداية لما جاءتك.
﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾[الأنعام: 125]، إن الهداية نورًا، سعة، بهجة، انشراح، سرور، ليس للقلب لذة كلذة طاعة الله –عز وجل-، وليس له انشراح كما يذوقه من منَّ عليه بسلوك طريق الهداية والاستقامة، إذا خرج عن هذا ضاقت عليه السبل، ووجد ضيقًا وكدرًا ونكدًا، هذا هو المثل الذي ضربه الله تعالى لأولئك الذين أبصروا الحق وعرفوه ثم انسلخوا عنه.
ولهذا ينبغي أن يحذر المؤمن أن يكون من هؤلاء، فإذا علمت من دين الله وشرعه شيئًا فإياك أن تعرض عن آيات الله، فإن الإعراض عن آيات الله سبب للهلاك، وهو موجب للتلف والعطب، وهو موجب للشقاء، ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾[الأنعام: 125]، بذكر الله تحيي القلوب «مَثَلُ الذي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لا يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ»[صحيح البخاري (6407)].
بذكر الله تطمئن القلوب قال تعالى: ﴿أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[الرعد: 28]، فأوصي نفسي وإخواني بتعلم العلم ومعرفة الآيات والانفعال لها، وعدم الإعراض عنها، فالإعراض عنها موجب لضيق الصدر، موجب للكدر، موجب للتعب، موجب للعناء، موجب للمشقة، هذا ليس ضرب خيال، إنه حقيقة في المقابل الذي يستقيم على طاعة الله يجد انشراحًا ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾[البقرة: 257]، هذا الإخراج من الظلمة إلى النور، إنما هو لبيان عظيم ما يدركه المؤمن بانشراحه بطاعة الله –عز وجل-، باستقامته على شرع الله، بمعرفته بالله، بقيامه بآيات الله تعالى.
فلذلك أوصي نفسي وإخواني بهذا الأمر، ألا نغفل عن آيات الله، الله تعالى ذكر حال أقوام يبصرون الآيات، الآيات ليست فقط آيات القرآن، بل الآيات أوسع من القرآن، الآيات التي بثها الله في الآفاق وفي الأنفس، كم من آيات نشاهدها ليلًا ومساء، غدوة وأصيلًا ونحن عنها معرضون، يقول الله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾[يوسف: 105]، آيات كثيرة، لكن القلوب أطبق عليها الغفلة، حتى أصبحت ترى الآيات ولا تنفعل بها.
وهذا خطر كبير، هذا ليس كمن لم يعلم، فإن من لم يعلم قد يعذر بجهله إذا كان مثله يجهل، أما إذا كان قد علم، أو كان يستطيع العلم ثم أعرض عن معرفة ما يجب أن يعرفه عند ذلك يكون واقعًا في الهلاك والعطب.
لذلك أوصي نفسي وإخواني بأن نتقي الله تعالى، وأن نجتهد في الانتفاع بالآيات، الانتفاع بالآيات هو الاعتبار بها وفي أنفسكم أفلا تبصرون، اشهد نعمة الله عليك فيما من عليك، اشهد نعمة الله عليك فيما يسَّره لك ﴿تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾[الفرقان: 61- 62].
فأبصر نعم الله عليك واعتبر بها، وكذلك الآيات التي هي كلام الله –عز وجل- في كتابه اعتبر بها وتدبرها وامتثلها، وإذا خالفت فتب واستغفر واستبشر، لتسلم لهذا المثل الذي هو أردى الأمثال، مثل الذي تعلَّم العلم ثم لم ينتفع من علمه بشيء، أسأل الله أن يسلك بنا سبيل الهدى والرشاد، أن يجعلنا من حزبه وأوليائه، أن يوفقنا إلى كل خير، وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.