إنّ الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنّ محمداً عبدُ الله ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، أمّا بعد: فحيّاكم الله...أيها الأخوةُ والأخوات، في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم (فادعوه بها)، وفي هذه الحلقة إن شاء الله ـ تعالى ـ سنقف مع اسم الله ـ تعالى ـ [الجبار] وهو من أسماء الله العظيمة التي أخبر عنها في كتابه، وجاء ذكرها على لسانِ رسوله الّذي لا ينطقُ عن الهوى محمدٍ ﷺ. يقول الله في مُحكمِ كتابه: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الحشر:23] وفيما جاء في الصحيحين، من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه- في وصف أحوال يوم القيامة، يقول النبي ﷺ: (تكونُ الأرض يوم القيامة خُبزةً يتكفؤها الجبّارُ بيده)صحيح البخاري (6520)، وصحيح مسلم (2792) وفي الصَّحيح من حديث أبي سعيد في ذكر الشفاعةِ العظمى، وما يكونُ من شفاعة النبي ﷺ، وأهل الإيمان لأهل النار، الّذين هم من أهل التوحيد، يقول ﷺ: (فيشفع النبيّونَ، والملائكةُ، والمؤمنون) كل هذه الشفاعات لإخراجِ المؤمنين من أهل التوحيد الّذين استحقوا النار، بسبب ذنوبهم ومعاصيهم، ثمّ يقول الجبّار جلّ وعلا: (شفعت الملائكة، والنبيّون، والصالحون، وبقيت رحمتي، فيخرج الله ـ تعالى ـ من النار أقواماً قد امتحشوا) أي أصابتهمُ النارُ حتى غيرت معالمهم (فيلقون في نهرٍ بأفواه الجنة، يُقال له: ماءُ الحياةِ، فينبتون في حافتيه كما تنبت الحِبةُ في حميل السيل)صحيح البخاري (7439). هكذا يخبرُ النبي ﷺ عن الاسمِ العظيمِ الّذي سمّى الله ـ تعالى ـ به نفسه (يقول فيقول الجبّار) وهنا ننظر ماذا قاله الجبّار؟ قال: (شفعت الملائكة، والنبيّون، والمرسلون، ثم هو جلّ وعلا يرحمُ من يشاءُ من عبادة، فيخرجُ من يشاءُ منهم من النار). هنا ننتقل بعد هذا النص المعرّف بهذا الاسم المثبت له في كلام الله، وكلام رسوله، إلى تلمُّس معنى[الجبّار]. عندما يُطلق هذا الاسم الّذي يتبادر إلى الأذهان هو العظمة، والجلال، والقوة، والقدرة، والقهر، هو الغلبة، هو الانتقام، كل هذه المعاني تتسابقُ إلى الذهن عندما يُذكرُ اسمُ الله ـ تعالى ـ [الجبّار] والله: {ليس كمثله شيء}[الشوري:11] سبحانه وبحمده، فله الكمال المطلق من كل وجه، وهذه المعاني كلها ثابتةٌ لله عزّ وجل، لكن ينبغي أن يُعلم أنّ جميع هذه المعاني تندرج بمعنى العظمة، والعزّ، والقوة لله ـ عزّ وجل ـ وهو أحد معاني اسمه[الجبّار] لكن هناك معاني أخرى دلّت عليها النصوص، ولذلك [الجبّار] من أوصاف الله عزّ وجل، له معانٍ منها: جبرُ الضعيفِ فكل قلبٍ قد غدا*** ذا كسرةٍ فالجبرُ منه دانِ هذا معنى غائب عن كثير من الناس، عندما يذكرون هذا الاسم، هل عندما نذكر اسم [الجبّار] نتذكر أنه الّذي يجبرُ العثرات، ويجبرُ الكسور، ويجبرُ المصابين بما يسوقُه إليهم جلّ في علاه، من ألوانِ البرِّ، وصنوف الإحسان، وأنواع الخيرِ الّذي يخفِّف به ما نزل به من الكربات، والمصائب، والبلايا؟! قليلٌ من يستحضرُ مثل هذا المعنى، مع أنه واضح في حديث الشفاعةِ، لمّا ذكر شفاعة النَّبيِين، والملائكة، والمؤمنين، فيقول الجبّار ثم ذكر بعد ذلك رحمته بعبادة، حيثُ يخرجُ قوماً من النار لم يعملو خيراً قط، هذا من معاني اسمه [الجبّار] جبرُ الضعيفِ فكل قلبٍ قد غدا*** ذا كسرةٍ فالجبرُ منه دانِ
كما قال ابن القيم - رحمه الله - والجبر الّذي يتبادر إلى الذهن، هو جبرُ القهر، جبرُ القوةِ والقدرة، وهذا ثاني المعاني، ولذلك قال: والثاني جبرُ القهرِ بالعزِّ الّذي*** لا ينبغي لسواه من إنسانِ
فليس لأحدٍ أن يتصف بهذه الصفة، جبرُ القهرِ، والعزّ، لا يكونُ إلا لله ـ جلّ في علاه ـ ولذلك كان الجبّار من الخلقِ بهذا المعنى مذمومٌ، ولهذا يقول الله تعالى يوم القيامة عندما يجمعُ الأولين والآخرين، يقول ـ جلّ في علاه ـ: (أنا المَلك، أين الجبّارون؟ أين المتكبّرون؟ ثم يطوي الأرضين ـ جلّ في علاه ـ فيقول: أنا المَلك، أين الجبّارون؟ أين المتكبّرون؟)صحيح البخاري (2788) إذاً هذا المعنى لا يكون إلا لله ـ عزّ وجل ـ وهو جبرُ القهرِ والعزِّ الّذي لا يكونُ إلا لله العليّ الكبير جلّ في علاه. هناك معنى ثالث لـ[الجبّار] يخفى على كثير من الناس، وهو جبرُ العلوِّ والارتفاع، والله ـ تعالى ـ العليُّ الأعلى سبحانه وبحمده، له العلوُّ المطلق من كل وجه، فهو عالي الذَّات، وهو عالي القهر، وهو عالي الشَّرف جلّ في علاه سبحانه وبحمده، له المكانة، ولهذا يقول ابن القيم:
وله مسمىً ثالثٌ وهو العلو*** فليس يدنو منه من إنسانِ
سبحانه وبحمده.
من قولهم جبّارةٌ للنخلةِ الـ*** عليا التي فاتت لكل بنانِ
الآن في كلام العرب يقولون للنخلة العالية المرتفعة"جبّارة" لأنها علت عن أن يصل إليها الناس، وهذا المعنى اللغوي من معاني الجبّار الثابت لله ـ عزّ وجل ـ فهو العليُّ الأعلى ـ سبحانه وبحمده ـ الّذي له العلو المطلق، الّذي له الكمالُ المطلق في سائر صفاته، ومنها علوه: {أأمنتم من في السماء}[الملك:16]{الرحمنُ على العرشِ استوى}[طه:5] سبحانه وبحمده، إذاً الجبّار اسمٌ من أسماء الله ـ تعالى ـ له هذه المعاني الثلاثة: جبرُ الضعيف، وجبرُ القلوبِ المنكسرة، وجبرُ القهر والعزّ الّذي يظهرُ به أولياءه وينتقمُ به من أعدائه، ويذلُّ له كلُ خلقه، جبرُ العلو هو ذاكَ في إثباتِ كمال العلو له ـ سبحانه وبحمده ـ فهو العليّ الأعلى الّذي: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}[الشوري:11] سبحانه وبحمده، هذه المعاني الثلاث ثابتة لله ـ عزّ وجل ـ على وجهٍ لا يكونُ لغيره سبحانه وبحمده. وإذا نظرنا إلى دلالة هذا الاسم مع ما يقترن به من الأسماء في القرآن الكريم، قال الله ـ تعالى ـ: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} ثم قال: {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الحشر:23] تَأمّل هذه الأسماء يفتح لك باباً من أبواب العلم، انظر كيف ذكرها وسردها الحكيم العليم سبحانه وبحمده، فقال: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} هذا يُثبت كمالَ الإلهيّةِ له، وأنه لا يستحق العبادة سواه جلّ في علاه: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ} هذه الأسماء تُوجب المحبة، تُوجب التَّعظيم، تُوجب الإجلال، تُوجبُ الانجذاب للربِّ جلّ في علاه: {الْمُهَيْمِنُ} وهذا اسمٌ يجمعُ الرغبة والرهبة، يجمع الخوف والرجاء، فالمهيمن هو الحافظ، وهو الغالب، وهو الرقيب، وهو الحفيظ على العباد، وهو الشهيد لأعمالهم، ثم بعد ذلك جاءت أسماء العزّ والقوة، حتى يجمعَ العبد بين الأمرين، قال الله ـ تعالى ـ: {الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} هذه الأسماء كلها تلقي في القلبِ عظمة الربّ ـ جلّ في علاه ـ فاسمُ [الْجَبَّارُ] من الأسماء التي تقذفُ في القلبِ تعظيم هذا الربّ الموصوف بهذا الوصف، الّذي له العظمةُ التامة، والقوةُ والقدرةُ البالغة، التي لا يقوم لها شيءٌ من الخلق، إنّ الله سبحانه وبحمده ذكرَ هذه الأسماء ليتعرّف العبادُ عليه بها، وليدعوه كما قال ـ تعالى ـ: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}[الأعراف:180] فعندما يغلبُكَ أمرٌ تخشى من ضرره، أو عدّوٌ تخشى من سطوته، أو يعلوكَ جبّارٌ تخشى من نقمته، فالتجئ إلى الله ـ جلّ في علاه ـ كما قال موسى لمّا خوّفهُ قومه: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ}[غافر:27] عُذ بالله، احتمِ به، واعتصم به، وتذكر أنه [الجبّار] أنه المتكبّر، أنه النصير، أنه الولي، أنه القدير، أنه الله الّذي له ما في السموات وما في الأرض، عند ذلكَ يطمئنُّ قلبك، ويسكنُ فؤادك، وفي دعائك أيضاً تذكر أنّ الله هو الّذي يجبرُ ضعفك، وهو الّذي يجبرُ كسرك، وهو الّذي يجبرُ عثراتك. فلهذا عندما تقول: "اللهم اغفرلي وارحمني واجبرني"سنن الترمذي (284)، وسنن ابن ماجة (898) تذكر الجبر الّذي به يصلحُ الحال، كما يُجبرُ العظمُ إذا انكسر، وتجبرُ العثرات إذا سقط الإنسان، فإنّ جبر عثرته بإعانته على القيامِ، ومواصلة السير، تذكر هذا المعنى عندما تكون بين السجدتين كما جاء في المسند وغيره من حديث ابن عباس أنه كان يقولُ ﷺ إذا جلس بين السجدتين: "اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني" واجبر كسري، واجبر ضعفي، واجبر قلبي الخاطئ، وعملي القاصر، فعند ذلك ترجو من الله لمّاً لشعثك، وعفواً لخطئك، وإعانةً لك على مواصلة السيرِ ببلوغِ رحمته، هذه المعاني العظيمة التي يدركها المؤمن من هذا الاسم، تفتحُ له أبوابَ التدبّر، تفتح له أبواب التعظيم لله ـ عزّ وجل ـ واللجأ إليه، والمحبة له ـ سبحانه وبحمده ـ وعند ذلك يتحققُ إيمانه بأسماءِ الله ـ عزّ وجل ـ ويحقَّقُ له الدعاء له: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} أستودعكم الله الّذي لا تضيع ودائعه، إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم{فادعوه بها} السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.