الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، أحمده حق حمده لا أحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنّ محمداً عبدُ الله ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، أمّا بعد:
فحياكم الله...أيها الأخوةُ والأخوات، في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم (فادعوه بها)، في هذه الحلقة سنتناول اسمين من أسماء الله عزّ وجل، تقدّم لهما مبدأ، وهو اسمُ الله الخالق، وأمّا الاسمان اللذانِ سنتناولهما اليوم هما اسمُ الله [البارئُ والمصور] جلَّ في علاه.
ذكرَ اللهُ تعالى هذين الاسمين في مُحكمِ كتابه في سياقٍ واحد، في أواخر سورة الحشر، قال الله ـ جلّ في علاه ـ: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ* هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ}[الحشر:23: 24] هكذا ذكر الله ـ تعالى ـ هذه الأسماء الثلاثة مقترنة في هذا الموضع، وذكر الله تعالى فعل التَّصوير في مواضع عديدة، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ* الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ* فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}[الانفطار:6: 8] وذكر الله ـ تعالى ـ البارئ مضافاً في أسمائه ـ جلّ وعلا ـ في قوله ـ جلّ وعلا ـ: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ}[البقرة:54] فذكره مضافاً إلى بعضِ خلقه، وهذه المواضع التي ذكر الله ـ تعالى ـ فيها ما وصفَ به نفسه من هذين الوصفين [البارئ المصوّر].
أمّا السنة فقد جاء هذان الاسمان في سرد الأسماء التي أُلحقت بالحديث الصحيح، حديث أبي هريرة الّذي فيه قال النبي ﷺ: (إنَّ لله تسعةً وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة)صحيح البخاري (2736)، وصحيح مسلم (2677) ثمّ جاء في حديثٍ مدرج: (هو الله الّذي لا إله إلا هو الرحمنُ الرحيم) إلى آخره، ذكر منها: (الخالقُ البارئُ المصوّر)سنن الترمذي (3507) فجاء عدُّها في هذا الحديث، لم يأتِ لها ذكرٌ في سياقٍ مستقل، إنّما جاء في هذا الحديث المدرج، في كلام النبي ﷺ، وعلى كلِّ حال الأسماء تثبت إمّا بنصٍّ من الكتاب، وإمّا بنصٍّ من السنة، لا يتجاوزُ القرآن والحديث، فإذا ثبتَ في الكتاب والسنة كان ثبوتاً من الوحيين، وإذا ثبتَ في الكتاب كان كافياً، كما إذا ثبتَ في السنةِ كانَ كافياً في إثباتِ الاسم.
الآن بعد هذا النظر، والحديث عن وُرود هذين الاسمين في الكتاب والسنة، نريد أن نقف مع معنى هذين الاسمين [البارئُ المصوّر] ولن نتمكن من إدراك تمام معنى هذين الاسمين إلا بالتطرق إلى اسم{الخالق} الّذي سَبقَ الحديث عنه.
"الخالق" هو الموجد ـ جلّ في علاه ـ الموجد من العدم، فالخلق هو الإيجاد والتكوين، والله ـ تعالى ـ خالقُ كلِّ شيء ـ سبحانه وبحمده ـ وقد ذكرَ الله ـ تعالى ـ هذه الصِّفة في أول ما ذكر ممّا أخبرَ به عن نفسه، ففي سورةِ العلق، يقول الله ـ تعالى ـ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}[العلق:1] هكذا يقولُ للنبي ﷺفي أوائل الرسالة، وفي بدايات الإيحاء يُذكره بالخلق: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} هذا الوصف هو أبرزُ الأوصافِ الموجبة للإذعان له ـ جلّ في علاه ـ فهو الخالق ـ سبحانه وبحمده ـ كما أنه ذكر هذا في أول الآيات التي أمرَ فيها بعبادته، فقال ـ جلّ وعلا ـ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:21] لذلك هذه الصفة ومتعلّقاتُها من الاسم [البارئ والمصوّر] هي من أدلِّ الأسماء على استحقاق الله العبودية، وأنه لا يستحقُّ أحدٌ أن يُعبد سواه: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}[الطور:35] كيف يُعبد من لا يخلق، ولا يملك، ولا يرزق، ولا يدبّر؟! إنه لا يعبد إلا الله الّذي له الخلقُ، والملكُ، والرزقُ، والتدبير سبحانه وبحمده.
"الخلق" هو الإيجادُ والتكوين، وأمّا [البارئ والمصوّر] فالبارئ والمصوّر من أهل العلم من قال: البارئ خاصٌّ بنوعٍ من الخلق، وهو خلق الحيوان، فالخلق يشمل كلَّ موجودٍ في السموات والأرض، أمّا البارئ فإنه خلقٌ للحيوان على وجهِ الخصوص، ولذلك أضافه الله ـ تعالى ـ إلى الخلقِ، في قوله ـ تعالى ـ في قول موسى لقومه: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ}[البقرة:54] فأضافَ البرء إلى الخلق، ومن الحيوان دونَ غيره، هكذا قال بعضُ أهلِ العلم، وقال آخرون في التفريق، قالوا: إنّ البارئ هو تنفيذُ الخلق، لأنّ الخلق يُطلق ويُرادُ به التَّقدير، وأمّا البرء، فهو تنفيذُ ذلك، وإيجاده، وإبرازه، وإظهاره بعدَ أن كانَ مجردَ تقدير، فالخلق بمعنى التَّقدير، والبرء بمعنى إيجاد وتنفيذ ذلك التقدير، وهذا إذا اقترنَ، وإلا فالخلق يُطلق على الإيجاد والتَّكوين، لكن إذا اقترنَ الخلق مع مع البرء، كما قال ـ تعالى ـ: {هو الله الّذي لا إله إلا هو} ثمَّ قال: {هو اللهُ الخالقُ البارئُ المصوّر} قال: الخالق هنا بمعنى المقدّر، لأنه اقترنَ بالبارئ الّذي هو تنفيذ ذلك التقدير، يقول ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله جلّ وعلا: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[الحشر: 24] يقول -رحمه الله-: الخلقُ هو التقدير، والبرء هو الفري، ما معنى الفري؟ قال: هو التنفيذ، يعني هو تحقيق ما قدّره، إيجادُ ما سبقَ به تقديره، ومشيئته، وعلمه، وكتابته سبحانه وبحمده، وهذا له شاهد في كلام العرب، قال الشاعر:
ولأنت تفري ما خلقتَ وبعـ*** ـضُ القومِ يخلقُ ثمّ لا يفري
{ولأنت تفري} أي تُوجدْ وتُنفّذ ما خلقتَ، يعني ما قدّرتَ.
وبعــضُ القومِ يخلقُ ثمّ لا يفري
إذاً الآن تبيّن لنا أنّ الخَلق بمعنى التقدير، والبرء بمعنى التنفيذ، هذا هو النوعُ الثاني أو هذا هو الوجه الثَّاني بين الخَلق والبرء.
-أُعيد باختصار حتى نُجمل هذه النقطة، أنّ الخلق والبرء كلاهما يدلُّ على الإيجاد هذا معنى، لكن الفرق بينهما من أهل العلم من يقول الفرق بين الخَلق والبرء، أنّ الخَلقَ: يفيدُ الخَلق العام، الإيجاد العام، التكوين العام، وأمّا البرء: فهو إيجادُ الحيوانِ على وجه الخصوص، يعني الحيّ لاسيما الإنسان لأنّ الله أضافَ إليه ذلك في قوله ـ تعالى ـ: {يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ}[البقرة:54] هذا المعنى الأول أو الفرق الأول والوجه الأول في التفريق.
الوجه الثاني في التفريق، أنّ الخَلقَ بمعنى التقدير، والبرء بمعنى تنفيذ ذلك التقدير، إيجادُ ذلك التقدير، كما قال الشاعر:
ولأنتَ تفري ما خلقتَ وبعـ*** ـضُ القومِ يخلقُ ثمّ لا يفري
وبعضُ القومِ يخلقُ أي يقدّر، ثمّ لا يفري: أي لا يتمكن من الإيجاد. أمّا التصوير، فالتصوير هو التشكيل، التّصوير هو تحديد صورة ذلك المخلوق، فهو مرحلة زائدة على مجرد الخلقِ والبرء، الخَلقُ تقديرٌ، والبرءُ إيجادٌ، وتكوينٌ، والتصويرُ تشكيلٌ، وإخراجُ ذلك في صورة، وقد قال الله جلّ وعلا في بيانِ تصويره لخلقه كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ* الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ* فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}[الانفطار:6: 8] فجعلَ الخلق، والتسوية، والتعديل، ثمّ ذكر التصوير بعد ذلك، وقد قال جلّ وعلا: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ}[غافر:64] وقال ـ تعالى ـ: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ}[آل عمران :6] وقال ـ تعالى ـ في تفصيل الخلق، ومراحله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} كلُّ هذا خلق: {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}[المؤمنون :12: 14] هذا معنى هذين الاسمين الشريفين لله ـ عزّ وجل ـ اسم [البارئُ المصوّر]، وهما اسمانِ كريمان لله ـ عزّ وجل ـ يبيّنانِ للخَلق عظيم صنع الله ـ عزّ وجل ـ فيهم وفي غيرهم من المخلوقات، وهما الدّالانِ على أنه المستحقُّ للعبادة، والمستحقُّ للتنزيه، والمستحقُّ للتوجه، ولهذا إذا تذكّرَ العبدُ أنّ الله هو الّذي صوّره، وأنّ الله ـ تعالى ـ هو الّذي خلقه، وأنّ الله ـ تعالى ـ هو الّذي برأه، لم يكن في قلبه ميلٌ إلى سواه، بل الإقبالُ عليه، والمحبَّةُ له، والتَّوجُّه إليه، والتَّعظيم له ـ سبحانه وبحمده ـ فهذانِ الاسمانِ يقدحانِ في قلب العبدِ تنزيه الله عن أن يكون له شريك: {هو اللهُ الخالقُ البارئُ المصوّرُ له الأسماء الحسنى يُسبّحُ له}[الحشر: 24] وانظر كيف ذكر التسبيح وهو التنزيه، بأن لا يكون له نظير، ولا يكون له شريك، ولا يكون له مكافئ ـ سبحانه وبحمده ـ ولا يكون له مثيل، لأنه متصف بتلك الصفات العظيمة التي لا ينازعه فيها أحد، لا أحد يُنازع في أنّ الله ـ تعالى ـ هو {الخالق} ولذلك كان المشركون الَّذين يوجه النبي ﷺالدعوة إليهم، كانوا يقرّون بأنّ الله هو الخالق: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}[لقمان: 25]، {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}[الطور:35] لم يدّعِ أحد أنه يستطيع أن يخلق ذرة أو ما هو أدنى من ذلك، بل الجميع مقرّون بأنّ الله هو: {الخلّاقُ العليم} وأنه هو: {البارئُ المصوّر} جلّ في علاه، وبالتالي إذا كان الله ـ تعالى ـ على هذا النحو من انفراده بالخلقِ والبرء والتَّصوير، فليس لأحدٍ أن يَصفَ العبادةَ إلى سوى العزيز الغفور ـ جلّ في علاه ـ بل الواجب أن يتوجّه إليه بالإجلالِ والتعظيم، والعبوديةِ والمحبة، فلا شريكَ له ـ سبحانه وبحمده ـ هذا ممّا ينبغي للمؤمن أن يستحضره عندَ تَذكّر هذه الأسماء العظيمة لله ـ عزّ وجل ـ وأن لا يخرج عن مدلول خَلقِ الله في وجوب العبادةِ له وحده لا شريك له، هنا أيضاً أمر ينبغي أن يستحضره المؤمن أن لا يعيب شيئاً من خَلقِ الله، وأن لا يستهزئ بشيءٍ من آياتِ الله، فلله في كل خلقه حكمة، كل ما في هذا الكون من مخلوقات، على كل أوجهها، النافع منها والضار، فيما ترى، وفيما تحسب، الله ـ تعالى قد خلقها لحكمة، فهو: {الحكيمُ الخبير} أظهرَ قدرته، وقوته، وعظمته في خلقه، فهذا الكتاب المسطور ـ دالٌّ على عظيمِ قدرِ الرّب: {العزيز الغفور} يقول الله ـ جلّ وعلا ـ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}[يوسف: 105] فتحَ الله بصائرَ قلوبنا، ورزقنا وإياكم العبرة والعظة بما نشاهده من آياته الدالة على عظمته، وجعلنا من خاصته وأولياءه، وصلِّ الله وسلم على نبينا محمد، إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم{فادعوه بها} أستودعكم الله الّذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.