الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، أحمده حق حمده، لا أحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمنُ الرحيم، وأشهدُ أنّ محمداً عبدُ الله ورسوله، صفيُّه وخليله، خِيرتُه من خلقه، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، أمّا بعد:
فحياكم الله...أيها الأخوةُ والأخوات، ومرحباً بكم في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم{فادعوه بها} هذه الحلقة سنتناولُ فيها ـ إن شاء الله تعالى ـ اسماً من أسماء الله ـ تعالى ـ ذكره الله في كتابه، في سورةِ النور: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}[النور:35] هذا الاسم من أسماء الله ـ جلّ وعلا ـ ذكره الله ـ تعالى ـ في كتابه مرةً واحدة، وجاء ذكره في السنة، في سردِ أسماء الله ـ عزّ وجل ـ في الحديث المدرج، مع حديثِ أبي هريرة، في قولِ النبي ﷺ: (إنّ لله تسعةً وتسعينَ اسماً، من أحصاها دخل الجنة)سنن الترمذي (3507) هذا الاسم من أسماء الله ـ جلّ وعلا ـ ثابتٌ له ـ سبحانه وبحمده ـ هل هو مُجرَّد اسم [النور] أم [نور السمواتِ والأرض] أكثر العلماء على تسميته بدون إضافة [النور] ومن أهل العلم من قال: إنه قد وَردَ على هذا النحو: [اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ] فيتقيّد هذا الاسم بالإضافة، فيُقال من أسمائه [نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ] والله أعلم أنّ اسمه مُطلق، وأنّ الإضافة هي إضافة لبعضِ مدلولات هذا الاسم، وليس حصراً له بذلك، على كل حال هو [النور] جلّ في علاه، كما جاء في الصحيح أنّ النبي ﷺ، لمّا سُئلَ: (هل رأيتَ ربّك؟! قال: نورٌ أنَّى أراه)صحيح مسلم (178) فهو النورُ سبحانه وبحمده.
والنورُ في اللغةِ يُطلقُ على الضوء، وهو ما يدركُه البصر، وما تدركهُ العين من الضياء المنتشر، وهو نوعان في استعمال العرب: نوعٌ محسوس يدركُ بالعين، ونوعٌ معنوي معقول يدركُ بالفهم.
أمّا النوعُ الأول: وهو ما يتعلّق بالمحسوس الّذي تُدركه العين، ويدركه البصر، هو ما تُشاهد به المحسوسات، من هذه الأشياء، فإنك تُبصرُها بعينك، نتاج انعكاس النور، فالنور هنا هو الآلة، وهو السبب الّذي تُدرك به العين المبصرات، والمرئيّات، وهذا النور المحسوس.
وأمّا النوع الثاني: وهو النور المعقول فهو ما تدركهُ النفوس، وما يدركهُ القلب، وما تُدركهُ عينُ القلبِ من الأمورِ المعنويةِ، والأمور الذهنية، ذاكَ هو عينُ القلبِ التي بها يُدركُ الإنسانُ المرئيات المعنوية، وذاكَ بنورٍ يقذفه الله ـ تعالى ـ في القلب، يدركُ به هذه المعاني، يقول ابن القيم – رحمه الله - :
والنورُ ذو نوعين مخلوقٌ ووصـ***ـفٌ ما هما والله مُتحدانِ
ثمّ يقول:
وكذلك المخلوقُ ذو نوعين محـ***سـوسٌ ومعقولٌ هما شيئانِ
إنّ النور الموصوف به الله ـ عزّ وجل ـ هو وصفٌ له ـ سبحانه وبحمده ـ [فالنور] وصفه، فهو النور ووصفه النور جلّ في علاه.
نور السموات العلى من نوره*** والأرض كيف النجمُ والقمرانِ
فالله هو النور، وهو منور السموات والأرض، وهو مدبّر السموات والأرض، وهو الهادي لخلقه ـ جلّ في علاه ـ فكلُّ نورٍ في الدنيا من نوره، إمّا أنه من خلقه، أو أنه وصفه، فالقرآن نور، وهو وصفه ـ جلّ في علاه ـ و[نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ] خلقه، وهو منه، فهو فعله ـ جلّ في علاه ـ فكلُّ نورٍ في الدنيا، وكل نورٍ في الكون إنما هو منه ـ جلّ في علاه ـ ووصفاً له، أو أنه خلقٌ له، وهو من فعله ـ جلّ في علاه ـ فكلامه نور ـ سبحانه وبحمده ـ وقد قالَ ـ جلّ في علاه ـ في بيانِ وصفه: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}[النور:35] فبدأ بذكرِ نوره السابق لنورِ كل شيء، يقولُ أُبيّ بنُ كعب: فبدأ بنورِ نفسه، فذكرَه. فالمؤمن يُوقن بأنّ الله نور، كما جاء في الصحيح من حديث أبي ذر، أنّ النبي ﷺلمّا سأله سائل: (هل رأيتَ ربّك؟! قال: نورٌ أنَّى أراه)صحيح مسلم (178) كما أنّ حجابه النور، كما جاء فيما رواه مسلم، من حديث أبي موسى الأشعري، أن النبي ﷺقال: (حجابه النور) حجابُ الله النور الّذي بينه وبين عباده: (لو كشفه لأحرقت سُبُحاتُ وجهه، ما انتهى إليه بصره)صحيح مسلم (179) سبحانه وبحمده، إنّ الله ـ تعالى ـ منوّرٌ السمواتِ والأرض، وقد قال الله ـ تعالى ـ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}[النور:35] قال ابن عباس: (هادي من في السموات والأرض)تفسير الطبري (19/177) وهذه إشارة إلى النور المعنوي، النور الّذي تدركه القلوب، والبصائر، لا النور الحسي فالله هادي من في السموات والأرض، فهم بنوره إلى الحقِّ يهتدون، وبهداه ـ جلّ وعلا ـ يهتدون من حيرة الضلالِ ويعتصمون.
[الله نورُ السمواتِ والأرض] يهدي القلوب، ويدبّرُ الأمور، ويسيّرُ العباد إلى ما يَسَره لهم من اليسرى.
[الله نورُ السموات والأرض] هو خالقُ نور السموات والأرض كما ذكرنا، ولا تعارض بين هذه الأقوال؛ لأنّ الله ـ عزّ وجل ـ نور السموات والأرض، وهو هادي العباد، وهو ـ جلّ في علاه ـ الّذي أنارَ هذا الكون بما جعله فيه من شمسٍ، وقمرٍ، ومصابيحَ بها يهتدي الناس، الله ـ جلّ وعلا ـ نور، وكلامه نور، كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا}[النساء:174] هذا القرآنُ العظيم نور، اشتمل على علوم الأولين والآخرين، وهو نور يخرجُ الله ـ تعالى ـ به الناس من الظلماتِ إلى النور، فالناس في ظلمة إن لم يستضيئوا بأنوارِ القرآن، وهم في شقاء عظيمٍ إن لم يقتبسُوا من خيره، وما فيه من الهدايات، كما أنّ رسوله ﷺنور، قال الله ـ تعالى ـ: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}[المائدة:15] وقد فُسر النور هنا بالنبي ﷺ، وقد قال الله ـ تعالى ـ: {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ}[الأعراف:175] وهو القرآن الّذي جاء به، والوحي الّذي جاء به، فالله ـ تعالى ـ نور، وكلامه نور، ورُسله جاءُوا بالنور، وأعظمُ ذلك ما جاء به النبي الكريم ﷺ، كما أنّ دينه نور، يقول الله ـ تعالى ـ: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[التوبة:32] هذه الأنوار التي جاءت بها الرسالات، لا يمكن أن تُطفأ، فهي مشاعل هداية للبشرية، وما كان من هدايةِ خاتمِ الرُسل، باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، مهما عَمِلَ العاملون على إخمادِ هذا النور وإطفائه، فإنّ الله قد قال في كتابه: {وَيَأْبَى اللَّهُ} الّذي له المُلك، يأبى الله النصير، يأبى الله المولى، يأبى الله العزيز، يأبى الله القدير، يأبى الله مالك المُلك: {إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ}،{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون}[يوسف:21]،{إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} رغمَ معاندة المعاندين، ومعارضة المعارضين، وكيد الفاجرين، وسعي الكافرين لإطفاء هذا النور، إلا أنّ الله متمُّ النورَ: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} إنّ الله ـ تعالى ـ منَّ على البشرية بهذا النور، وهو يَمنُّ على من اصطفاه من عباده أن يخرجهم من الظلمات، ظلمات الكفر، وظلمات الجهل، وظلمات العمى، إلى نور الهدايةِ والرسالة: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}[البقرة:257] وهذا النور الّذي في كلامه، وقوله، وفي رسالاته، وهداياته، يجعله لأوليائه فيستضيئون به، يبصرون به مواقع الهدى، ويتوقَّون به مواقع الضلال، يقول الله ـ تعالى ـ في مُحكمِ كتابه: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ}[الأنعام:122] لا والله ما يستويان، ولا يستويان هؤلاء الّذين جعل الله لهم نوراً، فأبصرُوا به الهدى، مع أولئكَ الّذين هم في عمى، قلوبهم ميّتة، وأفئدتهم مُظلمة، كيف يستوي هذا وهذا، والله لا يستويانِ، كما قال الله جلّ وعلا: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:122]كتابه نورٌ، وشرعه نورٌ، والمبعوثُ بالفرقانِ نورٌ، وكل ذلك ينقدحُ في قلبِ العبدِ نوراً فيبصرُ به الهدى:
وكتابه نورٌ كذاكَ شرعه*** نورٌ كذا المبعوثُ بالفرقانِ
وكذلك الإيمانُ في قلبِ الفتى*** نورٌ على نورٍ مع القرآنِ
كما قال ـ جلّ وعلا ـ: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ}[النور:35] نورُ القرآنِ مع نور الإيمانِ، يهدي الله تعالى به من يشاء من عبادة، فيخرجهم به من الظلماتِ إلى النور، إنّ هذا النور هو من نور الله عزّ وجل، ولذلكَ ينوّرُ الله تعالى قلوبَ أوليائه في الدنيا، وأمّا في الآخرة فينوّرُ لهم الطريق، ويبصرونَ به مواقعَ الهدى، لهذا ينبغي للمؤمن أن يستحضر في دعاءه أنّ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}[النور:35] كما كان النبي يستحضر ذلك، فيقول: (اللهم لك الحمد أنت نور السمواتِ والأرض، ولك الحمد أنت قيوم السمواتِ والأرض)صحيح البخاري (6317)، وصحيح مسلم (769) فمن نوره ـ جلّ وعلا ـ يهتدي العبادُ في الدنيا، كما أنه بنوره يفوزون في الآخرة بالنجاة: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[الحديد:12]،{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ}[الحديد:13] نأخذ من نوركم، نقتبس من نوركم، نأخذ جزءًا من هذا النور، لنجوز الصراط، ونبلغ ما بلغتم من الجنات، لكنّ ذلكَ لا يكون، لأنهم لم يكن في قلوبهم نور، فما يرونه من نورِ غيرهم لا ينفعُهم، فـ{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}[المدثر:38] لن ينفعك نورُ هؤلاء الّذين تعيشُ معهم إذا كنتَ قد أظلمَ قلبُكَ، وأظلمَ فؤادُك، فخلا من الإيمانِ ونوره، يقول المنافقون في ذلك اليوم: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا} امهِلوا:{نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا}[الحديد:13] فلا يكونُ النورُ إلاّ لأهلِ النور، لا يكونُ النورُ إلاّ لأهلِ الإيمان، لا يكونُ النورُ في الآخرة إلا لمن استقام على شرع الرحمن، اللهم نوّر قلوبنا، وقبورنا، وارزقنا من فضلك نوراً نجوزُ به الصراط، ونوراً نبصرُ به مواقعَ الهدى، إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم {فادعوه بها}، أستودعكم الله الّذي لا تضيع ودائعه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.