إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنّ محمداً عبدُ الله ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسانٍ إلى يومِ الدين، أمّا بعد:
فأهلاً وسهلاً... وحيّاكم الله أيها الأخوةُ والأخوات، في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم {فادعوه بها} في هذه الحلقة نتناولُ اسماً يتكررُ على ألسنةِ المسلمين في كل صلواتهم، إنه اسمُ الله ـ تعالى ـ "المجيد".
وهذا الاسم العظيم، وكل أسماء الله عُظمى، وجميعها حسنى، كما قال ـ تعالى ـ: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}[الأعراف: 180] ذكره الله ـ تعالى ـ في كتابه في موضعين، يقول الله ـ جلّ في علاه ـ في سياقِ قصةِ إبراهيم مع بشارته، وما جرى من تبشيره بالولدِ بإسحاق، بعد إياسٍ من ولد، قال ـ جلّ وعلا ـ: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ}[هود: 73] وكذلكَ جاء ذلك في ختمِ سورة البروج، حيثُ قال ـ جلّ في علاه ـ في سورة البروج: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ* ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ}[البروج: 14: 15]
هذا الاسم تكرر مرتين، أمّا في الآية الأولى فهو واضح، فإنه قد قال: {إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} وأمّا في الآية الثانية، فقد قال الله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ* ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} وللقراء في هذا قراءتان، القراءة الأولى الرفع، في قوله "المجيد" فيكونُ وصفاً لقوله "ذو"{ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} فـ"المجيد" وصفٌ لذو العرش، أي لصاحب العرش ـ جلّ في علاه ـ فهو وصفٌ لله ـ عزّ وجل ـ والقراءة الأخرى بالخفض: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} فيكونُ وصفاً للعرش، والله ـ جلّ وعلا ـ "مجيد" سبحانه وبحمده، كما أخبرَ عن نفسه ـ سبحانه وبحمده ـ وأخبرَ عنه نبيه ﷺفيما علّمه الأمة، في الصلاة عليه، ففي الصحيحين، من حديث سهل بن سعدٍ الساعدي -رضي الله عنه-: (أنهم قالوا يا رسول الله: كيف نصلي عليك؟) طلبُوا من النبي ﷺ، في حديث أبي حُميد الساعدي –رضي الله عنه-: (سألوه كيف نُصلي عليك؟ فقال قولوا: اللهم صلِّ على محمدٍ وأزواجِه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمدٍ وأزواجِه وذريته، كما بَاركتَ على آلِ إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد)صحيح البخاري (3369) وكذلكَ في حديث كعب بن عُجرة، وفي حديث عبد الله بن مسعود، كل الأحاديث الواردة في الصلاة الإبراهيمية ذكر فيها بصيغها المتنوعة، في ختمها: (إنكَ حميدٌ مجيد) فهذا وصفٌ لله ـ عزّ وجل ـ بهذين الوصفين، وهذين الاسمين، فهو الحميد المجيد سبحانه وبحمده.
ومعنى"المجيد" في اللغة؟ مأخوذ من المجد هو في الأصل، ومعناه بلوغ الغايةِ والنهاية في الكمال، ولا يكونُ محموداً، ولا يكونُ ذو مجدٍ إلا من بلغَ المجدَ بفعله، ووصفه، وقوله، ولذلكَ قالوا في معنى المجدِ، أنه بلوغ النهاية في الكرم، يعني في الجودة، والكثرة، والسعة، وقيلَ المجدُ، هو الكرمُ، والسعةُ، والجلال، هذا من حيثُ المعنى في اللغة.
أمّا معناه فيما أُضيف إلى الله ـ تعالى ـ فهو قريب من هذا، ولهذا قال ابن عباس: {ذو العرشِ المجيد} أي الكريم.
وقال ابن جرير -رحمه الله تعالى- في تفسيره: مزيد مجدٍ، ومدحٍ، وثناءٍ، وكرم.
كل هذا يدل على أنّ هذه الكلمة تدلُ على معنىً مُستفاد من جملةٍ أصلها أوصاف، لهذا يقول ابن القيم -رحمه الله-: المجيد هو المتضمن، لكثرة صفات كماله، وَسَعتها.
إذاً هي كثرة صفات الكمال، ليس من صفةٍ واحدة، وَسَعة هذه الصفات، فهي صفات واسعة في الحمد، واسعة في المجد، واسعة في الفضل، واسعة في الكمال، وله المثلُ الأعلى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى}[النحل: 60]،{ولله الأسماء الحسنى} وله الأسماء الحسنى ـ سبحانه وبحمده ـ لا يحصي عباده إدراكاً لعظيم صفاته، فـ"المجيد" هو الكبير، و"المجيد" هو العظيم الجليل، و"المجيد" هو الموصوف بصفات المجدِ، والكبرياء، والعظمةِ، والجلال.
"المجيد" هو الّذي له العظمة التامةُ الكاملة، فهو أكبرُ من كلِ شيء، وهو أعظمُ من كلِ شيء، وهو أجلُّ وأعلى، له التعظيم، والإجلال في قلوب أوليائه، وأصفيائه، قد مُلئت قلوبُ المتقينَ تعظيماً له، وإجلالاً، وخضوعاً، وتذلُلاً لكبريائه سبحانه وتعالى.
فالمجدُ هو عَظمةُ الصفات، وَسِعتَها، ولذلكَ معنى"المجيد" الّذي أخبرَ الله ـ تعالى ـ عنه في كتابه، وأخبرَ عنه النبيُ ﷺفي سنته، أنه من عَظُمت صفاته، وكمُلت، واتَّسعت حتى شملت كلَّ كمالٍ ممكن، كلَّ كمالٍ يمكن أن يندرجَ تحتَ هذا المعنى، فهو ثابتٌ لله ـ عزّ وجل ـ على وجهٍ لا يحيطُ العبادُ به، فالعبادُ لا يحيطونَ بذلك، كما قال ـ تعالى ـ: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}[طه: 110] وقد قال ـ جلّ وعلا ـ: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ}[البقرة: 255] إذا كانَ الناس والخلق جميعاً، لا يحيطونَ بشيءٍ من صفةٍ من صفاته، فكيف يحيطون بصفاته ـ جلّ وعلا ـ وبأسمائه ـ سبحانه وبحمده ـ ولهذا يومَ القيامة عندما يُعاينُ الناس الله ـ عزّ وجل ـ من أهل الإيمان يرونه، لايدركون كماله، وبهاءه، وجماله، كما قال ـ سبحانه وبحمده ـ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ}[الأنعام: 103] فإدراك الأبصارِ له ليس ممكناً، حتى عند المعاينة والإبصار، فكيف بإدراك العقول؟ وهيَ إنما تدركُ معاني لا تحيطُ بها إحاطةً كاملةً تامة.
إنَّ النبي ﷺكان يختمُ الصلاة عليه بهذين الوصفين، لأنّ المجدَ موجبٌ للعطاءِ والإحسان، موجبٌ للفضلِ والامتنان، ولهذا كان يدعو الله ـ تعالى ـ متوسِلاً بهذين الوصفين في الصلاة عليه، ﷺوفي آله، فكان يختمُ بهذين الاسمين، باسم المجدِ والحمد "المجيد" الحميد، ليدركَ فضلَ الله ـ عزّ وجل ـ من سَعةِ صفاته، الموجب لإجابةِ الدعاء، والموجب لتحصيل المأمول، وإدراك المطلوب، فكان ذلك في ختم الصلاةِ، كما علّمَ النبي ﷺالعبد، بل العبدُ في صلاته يمجِّدُ الله ـ عزّ وجل ـ ويرجو منه العطاء، ولهذا قال النبيُ ﷺ، في الحديث الإلهي: (قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين -الله تعالى يقول: قسمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفين- فإذا قال العبد: "الحمدُ لله ربِّ العالمين" قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال العبدُ: "الرحمنِ الرحيم" قال الله جلّ وعلا: أثنى عليّ عبدي، وإذا قال العبدُ: "مالكِ يوم الدين" قال الله عزّ وجل: مجدني عبدي)صحيح مسلم (395) فالتمجيدُ هو تكرارُ الأوصافِ، وتعدادها، وكثرتُها، وسَعتُها، ولهذا أخَّرَ التمجيد إلى أن اكتملت الصفات: {الحمدُ لله ربِّ العالمين* الرحمنِ الرحيم* مالكِ يومِ الدين} بعد خمسة أوصاف: (يقولُ الله جلّ وعلا: مجدني عبدي) وهذا يدل على المعنى الّذي ذكرت من أنه ـ جلّ في علاه ـ واسعٌ في صفاته، كريمٌ فيما نَسبه، وأضافه إلى نفسه ـ سبحانه وبحمده ـ ولهذا ينبغي للمؤمن أن يستحضر هذه العظمة، وهذا المجد في ذكره لربه ـ جلّ وعلا ـ وأن يعلم أنه مهما أوتيَ من القدرة على الثناء على الله ـ تعالى ـ وتكراره، فإنَّ مجدَ الله أعظم، وهو إنما يأتي بشيءٍ ممّا يمكن، ليدرك شيئاً من فضلِ الله ـ تعالى ـ وعطائه، وإحسانه، فإنّ الله ـ تعالى ـ يجزي العبد على إقباله القليل بالثواب العظيم الكثير، فهو يعطي على القليل الكثير، سبحانه وبحمده.
إنَّ المجدَ لا يُنالُ إلا بطاعةِ الله ـ عزّ وجل ـ فمن أرادَ المجدَ في الدنيا، والفوزَ بالآخرة، فليقبل على طاعةِ الله عزّ وجل، فهو"المجيد" الّذي يمنحُ المجد، ولا يكونُ المجدُ إلا بطاعةِ الله ـ عزّ وجل ـ وذلكَ بكثرة العبادة، وبكثرة الإقبال عليه، وبتنويعه، وبإتقانه، فإنه قد قال الله ـ جلّ وعلا ـ: {الّذي خلقَ الموتَ والحياةَ ليبلوكم أيكم أحسنُ عملا}[الملك: 2] فالسباق ليس في كثرة العمل فحسب، بل في جودته، وإتقانه، وأن يكونَ وِفقَ ما أمرَ الله تعالى به، صواباً على السنة، كما قال عياض في تفسير الآية.
إنَّ امتلاء قلب المؤمن، بأنّ الله ـ تعالى ـ مجيد، يلقي في قلبه تعظيم الله ـ عزّ وجل ـ وذاكَ أنه يعلم أنَّ هذا الوصف لم يحصل من اسمٍ معين، أو من صفةٍ معينة، بل هو مجموعُ كلِّ صفات الله ـ عزّ وجل ـ وكل ما أخبره الله ـ تعالى ـ به في كتابه، أو أخبرَ به النبي ﷺفي سنَّته، فيعظم في قلبه قدرُ ربه، وعندما يعظمُ في قلب المؤمن قدرُ الله ـ جلّ في علاه ـ عند ذلكَ يكونُ المؤمنُ قد حقَّقَ ركناً عظيماً من أركان العبودية، إذِ العبودية تقومُ على ركنين، ركنُ التعظيم، وهو الّذي يحملُ العبدَ على أن يطيعَ الله فيما نهاه عنه، فينزجر عمّا نهاه عنه، وركن المحبة أيضاً، لأن "المجيد" الموصوف بالكمال، والكمال الواسع، والكمال الكثير، تحبهُ القلوب، ويأسرها بهاؤهُ، وجماله، وحُسنهُ ـ سبحانه وبحمده ـ فيكونُ ذلكَ موجباً لمحبته، فمن هذا الاسم الاسم"المجيد" يتحقق للعبدِ كمالُ العبودية لله ـ عزّ وجل ـ ذاكَ أنّ العبادة تقومُ على تمامِ الذلِ لله ـ جلّ وعلا ـ وكمالِ المحبةِ له، فهذان القطبان بهما تتحققُ العبادة:
وعبادةُ الرحمن غايةُ حبِّه*** مع ذُلِّ عابده هما قُطبانِ
هكذا يتحققُ للمرءِ من خلالِ الاستحضار لهذا المعنى، الاستحضار لمعنى اسم الله ـ عزّ وجل ـ "المجيد" أنه ـ سبحانه وبحمده ـ ذو فضلٍ وإحسان، يستوجبُ العبادة، ويستوجبُ أن يقبل عليه العبد، وأن يحقق له العبادة الكاملة، كما أنه في كلِّ ما تسألُ الله ـ تعالى ـ من خير، فاعلم أنّ الله ـ تعالى ـ عليه قدير، فإنه قد ذكرَ الله ـ تعالى ـ حمده، ومجده، في مقامٍ أيسَت فيه أمُّ إسحاق، سارة ـ عليها السلام ـ أن يأتيَها الله ـ تعالى ـ بالولد، لكبَرِ سنها وكبَرِ سنِّ زوجها، لكنّه قد آتاه الله ـ تعالى ـ ما آتاه من فضله، ذاكَ لأنه الحميد"المجيد" المتفضل على عباده بالعطاء، فعندما تقول: يا ربّ، تَذكر أنّكَ تسألُ الحميد "المجيد" المجيد الّذي يعطي وله كمالُ الصفاتِ، وهو المتصف بكل كمالٍ سبحانه وبحمده، وأبشر سيعطيكَ الله ما تؤمّل، إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم{فادعوه بها} أستودعكم الله الّذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.