الحمد لله الّذي أنزل على عبده الكتابَ ولم يجعل له عِوجا، الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، أشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الحميد المجيد، وأشهدُ أنّ محمداً عبدُ الله ورسوله، وصفيُّه وخليله، وخِيرتُه من خلقه، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، أمّا بعد:
فحيّاكم الله...أيها الأخوةُ والأخوات، ومرحباً بكم في هذه الحلقة من برنامجكم "فادعوه بها" هذا الحلقة نتناولُ فيها اسماً من أسماء الله ـ تعالى ـ "الحميد" ذاكَ الاسمُ العظيم الّذي أخبر الله ـ تعالى ـ به في كتابه، في مواضع عديدة، يقول الله ـ جلّ وعلا ـ: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ}[الحج:24] أي إلى طريقه، الموصل إليه جلّ في علاه، فنسأل الله أن يهدينا وإياكم إلى صراط"الحميد"، وقال ـ جلّ وعلا ـ: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[لقمان:26] وقال ـ سبحانه وبحمده ـ: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}[البروج:8] وقال ـ جلّ وعلا ـ: {لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيمٍ حميد}[فصلت:42]، فالآيات التي ذكرَ الله ـ تعالى ـ في هذا الاسم عديدة كثيرة، وتتعلق بما يخبر به عن نفسه، ما يخبر به من وحيه، ما يخبر به من إنزالِ كتبه، ما يخبر به من عبادته، كلُّ ذلك من مقتضياتِ أنه"الحميد" جلّ في علاه، وقد جاء هذا الاسم في السنةِ النبويةِ المطهرة، في تعليم النبي ﷺأصحابه الصلاة عليه، حيثُ ختمَ الصلاة الإبراهيمية بقوله: (إنّك حميدٌ مجيد)صحيح البخاري (3369) وجاء أيضاً ذكره في الحديث المدرجسنن الترمذي (3507) ، الّذي عُدت فيه أسماء الله ـ تعالى ـ وهذا الاسم ثابت ثبوتاً لا ريب فيه، في كلام الله ـ عزّ وجل ـ وفي سُنة النبي ﷺ، وهو مشتقٌ من الحمد.
"الحميد" فعيل بمعنى فاعل، وبمعنى مفعول، وهو مشتقٌ من الحمد، والحمدُ هو الثناءُ بالفضيلة، وقيل الحمدُ هو ذكرُ المحمود بصفات الكمال، وهذا هو الواقع أنّ الحمد هو ذكرُ المحمود بصفات الكمال، وذلكَ أنّ الله ـ تعالى ـ إنّما استوجبَ هذا الوصف، وهذا الاسم لكونه مذكوراً ـ جـلّ في علاه ـ بصفات الكمال، فله الكمالُ المطلق، ولهذا افتتح الله ـ تعالى ـ كتابه الحكيم بحمده: {الحمدُ لله ربِّ العالمين} وذَكرَ في أعقابِ حمده أصول أسمائه وصفاته: {ربِّ العالمين* الرحمنِ الرحيم} ذكر خمسةَ أسماء وأوصاف: {الحمدُ لله} هذا الأول: {ربِّ العالمين} الثاني: {الرحمن الرحيم} الثالث والرابع: {مالك يوم الدين} الخامس، هذه هي موجبات حمده، هذه الأسماء أصولُ الأسماء الحُسنى، التي تستوجبُ حمدَ الله ـ تعالى ـ والثناء عليه ـ جلّ وعلا ـ والحمدُ أوسعُ الصفاتِ، وأعمُّ المدائح، فإنه المستحقُ لكل حمدٍ ـ جلّ في علاه ـ فجميعُ أسمائه، وجميع صفاته، دالةٌ على أنه المحمود ـ جلّ في علاه ـ المستحق بأن يُثنى عليه، وأن يُجل، كلُ أسمائه، وكلُ صفاته، وكلُ أفعاله، وكلُ أحكامه، وكلُ جزاءاته، وكلُ ما يكونُ منه ـ جلّ وعلا ـ موجبٌ لحمده سبحانه وبحمده.
يقول ابن القيم -رحمه الله-: الحمدُ أوسعُ الصفاتِ، وأعمُّ المدائح، لأنّ جميع أسمائه ـ تباركَ وتعالى ـ حمد، وصفاته حمد، وأفعاله حمد، وأحكامه حمد، وعدله حمد، وانتقامه من أعدائه حمد، وفضله في إحسانه إلى أوليائه حمد، والخلقُ والأمرُ إنّما قامَ بحمده، ووُجدَ بحمده، وظهرَ بحمده، وكان الغايةُ هي حمده، روحُ كل شيءٍ، وقيامُ كل شيءٍ بحمده، فهو"الحميد" سبحانه وبحمده.
لا يقومُ شيءٌ في الدنيا إلا بحمده، و هو دالٌّ على أنه المحمود "الحميد" في ذاته "الحميد" في أسمائه "الحميد" في صفاته "الحميد" في أفعاله، فله من الأسماءِ أحسنُها، وله من الصفاتِ أكملُها، وله من الأفعالِ أتمُّها، وله من الأقوالِ أصدقُها، وله من الأفعالِ ما هو بهيٌّ جميل، ففعله ـ جلّ في علاه ـ دائرٌ بين الفضلِ والعدل، فالحمدُ كله له ـ جلّ في علاه ـ فالحمدُ كثرة الصفات والخيرات، وهو الّذي لا يحصي عباده ثناءً عليه ـ جلّ في علاه ـ هو كما أثنى على نفسه، بل ما يدركه العباد من موجباتِ حمده شيءٌ لا يبلغُ حقّه، ولهذا يخبرُ النبيُ ﷺوهو أعلمُ الناس بربه، الّذي قال: (أما والله إني لأعلمكم بالله، وأخشاكم له)صحيح مسلم (1108) يخبر أنه يوم القيامة يفتح الله ـ تعالى ـ عليه من المحامد ما لا يعلمه الآن، يعني في الدنيا، هذا دالٌّ على أنّ موجباتِ حمده كثيرة، لا يحصيها العباد، وأنّه يوم القيامة يتبيّن من موجباتِ حمده، ومقتضيات أنه "الحميد" ـ جلّ في علاه ـ ما لا يعرفه الناس، بل ما لا يعرفه أكملُ الخلقِ علماً به في الدنيا، وهو النبي ـ صل الله عليه وعلى آلهِ وسلم ـ حمدُ الله ـ تعالى ـ له جانبان، وله وجهان، الوجه الأول: أنّ جميعَ مخلوقاته ناطقةٌ بحمده، فكلُّ حمدٍ وقعَ من أهلِ السماءِ والأرض الأولين والآخرين، إنّما هو له ـ جلّ وعلا ـ وكلُ حمدٍ يقعَ في الدنيا والآخرة، إنّما هو له ـ جلّ في علاه ـ فله الحمدُ كله أوله وظاهره، وآخره وباطنه ـ سبحانه وبحمده ـ هذا من ناحية أنه المحمود، فهو "الحميد" بمعنى المحمود الّذي يحمدُه كلُ من في السمواتِ ومن في الأرض، على إحسانه، وفضله، وإنعامه، وسائرِ جوده سبحانه وبحمده.
أمّا الوجه الثاني: فهو المعنى الّذي تقدّم، وهو حمدُه لما له من الصفاتِ الكاملة، فحمدٌ لفعله، وحمدٌ لوصفه، حمدٌ لفعله الّذي يصل إلى العباد، وحمدٌ لوصفه لما يعلمه الخلق من كمالاته، كله يندرج في أنه هو المحمود جلّ وعلا.
هناكَ معنى آخر (للحميد) وهو أنه يحمدُ عباده القائمين "الحميد" حميد فعيل، يأتي بمعنى فاعل، وهو القائمُ بحمدِ عباده ـ جلّ في علاه ـ فهو الّذي يحمدُ عباده على طاعتهم، فيشكرهم عليها، ويجزيهم عليها، إثابةً، وعطاءً، وإحساناً، وتفضُلاً منه ـ جلّ في علاه ـ ولهذا يقول ـ جلّ وعلا ـ: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[لقمان:26] فغناه متجاوز لعباده، واصل إلى خلقه، وهو موجبٌ لحمده، وهو من حمده لمن يستحقُّ الحمدَ من عباده ـ سبحانه وبحمده ـ ولهذا يقول ـ جلّ وعلا ـ: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}[البقرة:267] فهو طيبٌ لا يقبلُ إلا طيبا، وهو حميدٌ يحمدُ من صدقَ في إقباله عليه، وتقدّم إليه بما يحبُّ، طلباً لما عنده جلّ في علاه.
إنّ هذا الاسم العظيم يتوسلُ به المؤمن إلى الله تعالى في صلاته على النبي ﷺ، كما علّمه ﷺأمته، فيقول: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد) وكذلك في الدعاء المبارك: (اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد)صحيح البخاري (3369) كما أنّ المؤمن يتوسل إلى الله تعالى بحمده، وهو من مقتضيات أنه"الحميد" في صلاة الليل كان النبي ﷺإذا قامَ في التهجد، قال: (اللهم لك الحمدُ أنت قيّمُ السمواتِ والأرضِ ومن فيهن) ثم يعود، ويقول: (ولك الحمدُ أنت ملِكُ السمواتِ والأرض ومن فيهن) ويعود ثالثةً، ويقول: (ولك الحمدُ أنت نورُ السموات والأرض ومن فيهنٍ) صحيح البخاري (6317)، وصحيح مسلم (769) فحمدُ الله ـ تعالى ـ هو ممّا يقومُ به قلبُ العبدِ تحقيقاً للعبودية، وذلّاً لله ـ عزّ وجل ـ وخضوعاً لهذا الجمالِ، والبهاءِ، والحسنِ الّذي لا يمكن أن يملك العبد إلاّ أن يذلَّ له، وأن يخضع، وأن يُحبّه، وأن يُثني عليه، وأن يُمجِّده.
إنّ حمدَ الله ـ تعالى ـ به ينالُ العبدُ المراتب العليا، والعطايا الكبرى، لذلكَ قال في الصلاةِ: (قسمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد:"الحمدُ لله ربِّ العالمين" قال الله عزّ وجل: حمدني عبدي) مفتاحُ العطاء حمدُ ربِّ الأرضِ والسماء، ثم قال: (إذا قال:"الرحمنِ الرحيم" قال: أثنى عليّ عبدي) ثم قال:(إذا قال:"مالكِ يومِ الدين" قال: مجدني عبدي) ثم قال: (إذا قال:"إياكَ نعبدُ وإياكَ نستعين" قال: هذا بيني وبينَ عبدي نصفين) ثم (إذا قال:"اهدنا الصراطَ المستقيم" قال الله تعالى: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل)صحيح مسلم (395) من هذا يتبيّن أنّ الحمدَ، وهو فاتحةُ كتابِ الله ـ عزّ وجل ـ وهو مفتاحُ تحقيق العبودية، التي ينالُ بها العبدُ ما يُؤمّل من الخيرِ، ومن العطاء، ولهذا كان النبي ﷺيفتتحُ الخُطبَ بحمد الله ـ عزّ وجل ـ والثناء عليه، وتمجيده، لأنه الّذي به تستفتح المُستغلقات، وبه تدركُ المطلوبات، وبه يُحصلُ الإنسان الخيرات في الدنيا، وفي الآخرة، كذلك ينبغي للمؤمن أن يستحضر أنّ حمدَ اللهِ موجبُ محبته، فمن حمدَ الله حقاً نالَ بذلكَ محبة الله ـ جلّ وعلا ـ وينالُ بذلكَ رضاه، فإنّ الحمدَ موجبٌ للرضا، لذلك يقول النبيُ ﷺ: (إنّ الله ليرضى عن العبد، يشربُ الشربةَ فيحمده عليها، ويأكلُ الأكلة فيحمده عليها)صحيح مسلم (2734) هذا في حمدِ اللسان، فكيف إذا كان حمدُ اللسان قد وافقَ قلبك، امتلأ بالثناء على الله، ومحبته، وتعظيمه، وإجلاله، والإقرار في كماله، في أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وحكمه، وشرعه، ودينه، بالتأكيد أنّ ذلكَ سيكونُ محققاً لرضا الله ـ جلّ وعلا ـ فإنّ الله ـ تعالى ـ إذا رأى من العبد حمداً صادقاً، وإقبالاً تاماً، كان ذلك موجباً لرضاه عنه، فإنه إذا قال العبدُ: الحمد لله عندَ أكلةٍ أو شربة، رضيَ الله ـ تعالى ـ عنه، فكيفَ إذا كان حامداً لله في قيامه، وقعوده، وفي ذهابه، ومجيئه، وفي سائر أحواله، بالتأكيد أنّ هذا يفتح له أبواب العطاءِ، والرضا.
اللهم إنّا نسألك رضاك، وأن ترزقنا ألسناً ذاكرة، وقلوباً خاشعة، وأعمالاً صالحة، وأن تجعلنا من أوليائك وحزبك، وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم "فادعوه بها" أستودعكم الله الّذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.